بيريز يقرر الرحيل عن ريال مدريد    عمومية الجمعية اليمنية للإعلام الرياضي تناقش الإطار الاستراتيجي للبرامج وتمويل الأنشطة وخطط عام 2026    تنظيم دخول الجماهير لمباراة الشعلة ووحدة عدن    الانتحار السياسي.. قراءة في نموذج الثاني والعشرين من يونيو 1969    حضرموت تنتفض ضد إرهاب "الغرابي" ومؤامرات الحوثي    كشف محاولات تبرئة شركة صقر الحجاز من كارثة مقتل عشرين جنوبياً (وثيقة وصور)    فريق DR7 يُتوّج بطلاً ل Kings Cup MENA في نهائي مثير بموسم الرياض    يوم ترفيهي مفتوحي لذوي وأبناء الشهداء بمدينة البيضاء    مقتل وإصابة 34 شخصا في انفجار بمركز شرطة في كشمير الهندية    انهيارات أرضية بجزيرة جاوة تخلف 23 قتيلا ومفقودا    الترب: مخططات العدوان واضحة وعلى الجميع الحذر    لاجئون ومجنسون يمنيون في أوروبا يتقاضون ملايين الدولارات شهرياً من أموال الجنوب    مليشيا الحوثي تستحدث أنفاقا جديدة في مديرية السياني بمحافظة إب    معهد أسترالي: بسبب الحرب على اليمن.. جيل كامل لا يستطيع القراءة والكتابة    مضامين القرار الأممي الخاص بتمديد العقوبات ومواقف الدول المؤيدة والممتنعة    ضبط وكشف 293 جريمة سرقة و78 جريمة مجهولة    حكام العرب اليوم.. ومكياج السلطة    روسيا تمتنع عن التصويت على قرار تمديد العقوبات على اليمن    مؤسسة الكهرباء تذبح الحديدة    مجلس الأمن يتخذ قرار بشأن العقوبات المفروضة على قيادات في اليمن    توخيل: نجوم انكلترا يضعون الفريق فوق الأسماء    وديا: السعودية تهزم كوت ديفوار    أمين عام الإصلاح يعزي رئيسة دائرة المرأة في وفاة زوجها    الارياني يرفض إعادة الآثار المنهوبة وبعضها بيع في باريس(وثائق)    حين قررت أعيش كإنسان محترم    رونالدو مهدد بالغياب عن كأس العالم 2026    الكشف عن لوحة تاريخية للرسام السويدي بيرتل والديمار بعنوان Jerusalem    محافظ عدن يكرّم الأديب محمد ناصر شراء بدرع الوفاء والإبداع    المقالح: من يحكم باسم الله لا يولي الشعب أي اعتبار    الصين تعلن اكتشاف أكبر منجم ذهب في تاريخها    نمو إنتاج المصانع ومبيعات التجزئة في الصين بأضعف وتيرة منذ أكثر من عام    وجهة نظر فيما يخص موقع واعي وحجب صفحات الخصوم    أبين.. حريق يلتهم مزارع موز في الكود    الإمام الشيخ محمد الغزالي: "الإسلام دين نظيف في أمه وسخة"    عدن تختنق بين غياب الدولة وتدفق المهاجرين.. والمواطن الجنوبي يدفع الثمن    بطاقة حيدان الذكية ضمن المخطط الصهيوني للقضاء على البشرية باللقاحات    الرئيس المشاط يعزي في وفاة اللواء محمد عشيش    حكام العرب وأقنعة السلطة    مي عز الدين تعلن عقد قرانها وتفاجئ جمهورها    هالاند يقود النرويج لاكتساح إستونيا ويقربها من التأهل لمونديال 2026    إسرائيل تسلمت رفات أحد الاسرى المتبقين في غزة    الحديدة.. مليشيا الحوثي تقطع الكهرباء عن السكان وتطالبهم بدفع متأخرات 10 أعوام    الرياض.. توقيع مذكرة تفاهم لتعزيز الطاقة في اليمن بقدرة 300 ميجاوات بدعم سعودي    عدن.. البنك المركزي يغلق منشأة صرافة    غموض يلف حادثة انتحار مرافِق المخلافي داخل سجنه في تعز    وزير الصناعية يؤكد على أهمية تمكين المرأة اقتصاديا وتوسيع مشاركتها في القطاعات التجارية    القصبي.. بين «حلم الحياة» و«طال عمره» 40 عاما على خشبة المسرح    وداعاً للتسوس.. علماء يكتشفون طريقة لإعادة نمو مينا الأسنان    عدن.. انقطاعات الكهرباء تتجاوز 15 ساعة وصهاريج الوقود محتجزة في أبين    شبوة:فعالية تأبينية مهيبة للإعلامي والإذاعي وكروان التعليق الرياضي فائز محروق    جراح مصري يدهش العالم بأول عملية من نوعها في تاريخ الطب الحديث    عدن تعيش الظلام والعطش.. ساعتان كهرباء كل 12 ساعة ومياه كل ثلاثة أيام    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوراق من التاريخ
نشر في يمنات يوم 05 - 11 - 2025


مصطفى خالد
المدرجات الزراعية اليمنية:
المعجزة الإنسانية الأولى في تاريخ البشرية
(3)
الحضارية والإنسانية المستفادة من التجربة اليمنية للعالم المعاصر
1. من الجغرافيا إلى الفلسفة:
حين تتحوّل التضاريس إلى عقلٍ منتج
في عالمٍ تتفاقم فيه الأزمات البيئية والمناخية وتُحاصر الإنسان بأسئلته الوجودية حول الاستدامة، تبرز التجربة اليمنية بوصفها نموذجًا فكريًا وإنسانيًا فريدًا في تحويل الجغرافيا القاسية إلى مجالٍ للإبداع الحضاري.
لقد أدرك اليمنيون منذ فجر التاريخ أن الأرض، مهما بدت وعرةً أو صخريةً أو قاحلة، ليست عائقًا في وجه الحياة، بل صفحةٌ تنتظر أن تُكتب بالحكمة والعمل والمعرفة.
وفي الوقت الذي انحنى فيه كثير من البشر أمام قسوة الطبيعة، اختار اليمني أن ينهض ليُحاورها لا ليحاربها، فصاغ من قمم الجبال مدرجاتٍ متناسقة، جعلت من الصخر حقلًا، ومن الجبل نظامًا هندسيًا نابضًا بالحياة.
بهذا الفعل التحويلي الباهر، تحوّلت الجغرافيا في الوعي اليمني من مجرد تضاريس جامدة إلى فلسفةٍ وجوديةٍ كاملة تُعيد تعريف علاقة الإنسان بالأرض:
فليست الطبيعة هي المشكلة، بل طريقة وعينا بها.
فحين يُبدع العقل في قراءة الجغرافيا، تُصبح القسوة موردًا، والندرة فرصة، والمستحيل واقعًا جديدًا.
إن المدرجات الزراعية اليمنية تُقدّم للعالم درسًا استراتيجيًا عميقًا في هندسة الوعي قبل هندسة الأرض؛
فهي تبرهن أن الحضارة تبدأ من تغيير زاوية النظر، لا من تغيير المكان، وأن الإنسان لا يُقاس بما يملكه من الموارد، بل بما يمتلكه من بصيرةٍ وقدرةٍ على اكتشاف الإمكانات الكامنة في بيئته.
وهكذا تحوّلت جبال اليمن من معوّقٍ طبوغرافي إلى مختبرٍ فلسفيٍّ للهندسة والإبداع — أول مدرسةٍ في تاريخ البشرية لتعليم فن تحويل الطبيعة إلى حضارة.
2. في إدارة الموارد:
عبقرية تحويل الندرة إلى استدامة
في زمنٍ يطغى فيه الهدر على الإنتاج، والاستهلاك على الوعي، تنهض المدرجات الزراعية اليمنية كأحد أرقى النماذج التاريخية في فن إدارة الموارد النادرة وتحويل الندرة إلى استدامةٍ خضراء.
لقد عاش اليمني لقرونٍ طويلة في بيئةٍ شحيحة المطر، محدودة المياه، وعالية التضاريس، ومع ذلك نجح في بناء أعقد منظومة مائية وزراعية عرفها التاريخ القديم — منظومةٍ تقوم على توازنٍ دقيق بين المطر والتربة والجاذبية والوقت.
من خلال هندسةٍ مائيةٍ عبقرية، استطاع اليمنيون أن يجمعوا قطرات المطر من القمم، ويوزّعوها بانسيابيةٍ عبر السواقي إلى سفوح الجبال، مستفيدين من كل ذرة ماءٍ دون إهدارٍ أو تبخّرٍ غير محسوب.
فلم يكن الماء لديهم مجرد موردٍ طبيعي، بل عنصرًا مقدسًا يُدار بالحكمة والمسؤولية، عبر شبكات من السدود والقنوات والحواجز الحجرية الدقيقة التي ما تزال شاهدةً على ذكاءٍ هندسيٍ يفوق عمره أكثر من ثمانية آلاف عام.
بهذا الوعي البيئي المبكر، صاغ اليمنيون أول فلسفةٍ في العالم حول الاقتصاد البيئي الرشيد:
أن الوفرة ليست في كثرة الموارد، بل في حسن إدارتها، وأن التنمية الحقيقية لا تُقاس بكمية ما نملك، بل بمدى قدرتنا على جعل القليل كافيًا ومستدامًا.
لقد جسّدت المدرجات اليمنية مبدأً بيئيًا ما زال العالم الحديث يسعى إليه:
أن "الذكاء المائي والزراعي" هو أساس البقاء، وأنّ من يُتقن إدارة الندرة يُؤتمن على الوفرة.
وهكذا، تظل التجربة اليمنية درسًا خالدًا في أن القيمة ليست في المورد ذاته، بل في العقل الذي يُديره، وأن من عرف كيف يصنع الكثير من القليل، قد امتلك سرّ الاستدامة الأسمى.
3. في التنمية المستدامة:
حين يصبح الماضي قاعدة المستقبل
في عالمٍ تتسارع فيه نظريات التنمية وتغيب عنه الذاكرة البيئية، تقف المدرجات الزراعية اليمنية لتذكّر البشرية بحقيقةٍ عميقة:
أن الماضي ليس نقيض المستقبل، بل أساسه الأمتن.
ففي حين تُسارع النظم الحديثة إلى استبدال التراث المحلي بتقنياتٍ معولمة، تثبت التجربة اليمنية أن التراث يمكن أن يكون أعظم مختبرٍ للتنمية المستدامة إذا قُرئ بعقلٍ علميٍّ معاصر.
فالمدرجات الزراعية اليمنية لم تُبنَ كتحفةٍ جماليةٍ صامتة، بل كمنظومةٍ إنتاجيةٍ حيةٍ تتجدّد مع كل موسم مطر.
إنها ليست أثرًا أثريًا جامدًا، بل بنية زراعية ديناميكية تستجيب للطبيعة وتتكيف معها في دورةٍ مستمرة من التجديد والإصلاح الذاتي.
هذا يجعلها نموذجًا متقدمًا ل "الاستدامة العضوية" التي تُبنى على المعرفة التقليدية الأصيلة لا على الإنكار الممنهج للماضي.
لقد فهم اليمنيون ما تسعى إليه مؤسسات التنمية اليوم:
أن التراث ليس عائقًا أمام التقدّم، بل بوصلةٌ توجهه نحو التوازن والاستمرار.
فكل مدرّجٍ في جبال اليمن هو وثيقة معرفةٍ بيئيةٍ دقيقة — درسٌ في هندسة التربة، وعلوم المياه، والاقتصاد الاجتماعي، والإدارة التعاونية، أي أنه منظومة علمٍ متكاملة تسبق نظريات التنمية الحديثة بقرونٍ طويلة.
ومن هنا، تبرز الرسالة الاستراتيجية الكبرى التي تُقدّمها التجربة اليمنية للعالم المعاصر:
أن التنمية الحقيقية لا تُبنى على أنقاض الذاكرة، بل على جذورها؛ وأن التحديث الذي يتنكّر للماضي يُنتج هشاشة، بينما التقدّم الذي يتكئ على التراث يُنتج استدامةً راسخة تتناغم فيها المعرفة القديمة مع التقنية الحديثة.
الدرس الثاني للعالم:
" التنمية الحقيقية هي التي تحترم ذاكرة الأرض، لا تلك التي تمحوها ."
4. في العلاقة بين الإنسان والبيئة:
التوازن قبل الربح
في التجربة اليمنية، تتجلّى أسمى أشكال الوعي البيئي الإنساني؛ إذ لم تكن الزراعة يومًا مجرد عملية إنتاج غذائي، بل عقدًا أخلاقيًا مقدسًا بين الإنسان والأرض.
لقد أدرك اليمني منذ القدم أن الطبيعة ليست موردًا يُستغل، بل كائنٌ حيٌّ يُصان ويُحترم.
ومن هذا الوعي العميق نشأ نظام المدرجات الزراعية كمنظومةٍ أخلاقيةٍ قبل أن يكون منظومةً هندسية، إذ بُني على قاعدةٍ جوهرية مفادها:
أن الأرض لا تُستعبد، بل تُرعى.
فكل حجرٍ في تلك المدرجات كان جزءًا من حوارٍ روحي بين الفلاح والطبيعة، لا من صراعٍ معها.
لم يكن اليمني يسعى إلى قهر الجبل أو إخضاعه، بل إلى تهذيبه وتنسيق تضاريسه بما يضمن استمرار العطاء دون استنزاف.
لقد مارس الإنسان اليمني التنمية كما تُمارَس العبادة؛ بالإخلاص والوعي والجمال، حتى تحوّلت العلاقة بينه وبين أرضه إلى شراكةٍ أخلاقيةٍ تُقدّس الاتزان وتحترم حدود الطبيعة.
في المقابل، يعيش العالم المعاصر مأزقًا أخلاقيًا خطيرًا، إذ انقلبت العلاقة بين الإنسان والبيئة إلى علاقة ربحٍ واستنزاف.
تُقاس قيمة الأرض اليوم بما تُنتجه من عائدٍ مالي، لا بما تحفظه من توازنٍ حيويٍّ واستقرارٍ كوني.
إننا نزرع بالإسراف، ونحصد بالتلوث، ونسمي ذلك "تقدمًا"، بينما هو في جوهره تراجع في الوعي الإنساني عن فلسفة الأرض التي صاغها اليمنيون قبل آلاف السنين.
ومن هنا، تُقدّم المدرجات اليمنية للعالم درسًا حضاريًا خالدًا:
أن التنمية بلا أخلاق بيئية تتحوّل إلى استعمارٍ للطبيعة، وأن الحضارة التي لا تعرف حدودها مع الأرض إنما تحفر قبرها بيدها.
لقد أثبت اليمني أن الزراعة يمكن أن تكون فعل حبٍّ لا طمع، وشراكةً لا سيطرة، وتوازنًا لا استهلاكًا.
الدرس الثالث للعالم:
"الأرض لا تُثمر بالعنف، بل بالتفاهم.
5. في الهندسة والإبداع:
عبقرية البساطة التي صنعت المعجزة
في تاريخ العمارة والزراعة، تُقاس عبقرية الأمم لا بما شيّدته من صروحٍ ضخمة، بل بما أنجزته من تناغمٍ بين الفكرة والطبيعة.
ومن بين صفحات التاريخ، تبرز المدرجات الزراعية اليمنية كأحد أعظم الدروس في الهندسة الإبداعية البسيطة التي جمعت بين الدقة العلمية والجمال الفطري في آنٍ واحد.
لقد امتلك اليمني عقل المهندس دون أن يدرس الهندسة، وروح الفنان دون أن يتعلّم الرسم؛
فمن صخر الجبال الصمّاء نحت مدرّجاتٍ متناسقةً تنسجم مع ميلان الجبل واتجاه الرياح ومواسم المطر، مُنشئًا بذلك أول مدرسةٍ في العالم للهندسة البيئية التطبيقية قبل أن يولد المصطلح بآلاف السنين.
في كل مدرّجٍ من تلك الجبال، تتجسّد معادلة دقيقة بين الشكل والوظيفة:
الجدار الحجري ليس زينةً بل وسيلة لتثبيت التربة، والساقية ليست مجرى ماءٍ عابرًا بل جهاز تصريفٍ طبيعيٍّ يُنظّم الرطوبة ويمنع الانجراف.
كل عنصرٍ في هذا البناء يخدم غايةً بيئيةً محددة، دون أي إسرافٍ أو عبثٍ في الموارد.
وهكذا تحوّلت الجبال إلى مختبرات هندسية مفتوحة، تُعلّم البشرية أن أعظم الابتكارات تولد من أعقد البيئات حين يتحالف الذكاء مع الصبر.
إن ما يميّز هذه التجربة ليس فقط دقتها الهندسية، بل فلسفتها الجمالية.
فالمزارع اليمني لم يبنِ مدرّجاته ليزرع فقط، بل ليُجمّل موطنه.
لقد كان يُدرك أن الجمال ليس ترفًا، بل طاقةٌ روحية تُغذّي الاستمرار والإنتاج.
لذلك اتخذت مدرجاته مظهرًا فنيًا بالغ الإتقان، وكأنها لوحات معلّقة على صدور الجبال، تنطق بانسجامٍ هندسيٍّ يُدهش كل من يراها من الأرض أو من السماء.
من هنا، يتجلّى البعد الفلسفي لعبقرية البساطة اليمنية:
أن البناء المتوازن لا يحتاج إلى تكنولوجيا فائقة، بل إلى عقلٍ منسجمٍ مع الطبيعة.
إنها البساطة بوصفها حكمة، والاقتصاد بوصفه فنًا، والهندسة بوصفها لغة الإنسان في محاورته مع الأرض.
الدرس الرابع للعالم:
" الإبداع الحقيقي لا يقاس بضخامة الأدوات، بل بقدرة العقل على تحويل البساطة إلى معمارٍ خالد ."
6. في الهوية والثقافة:
الجمال قوة وطنية
في اليمن، لم تكن الزراعة فعلًا اقتصاديًا فحسب، بل طقسًا من طقوس الهوية، يتجلّى فيه الجمال كقيمةٍ وطنيةٍ وروحيةٍ في آنٍ واحد.
لقد أدرك اليمني بفطرته الحضارية أن الجمال ليس رفاهية، بل ركن من أركان البقاء الإنساني، وأن الأمم التي تُهمل حسّها الجمالي تفقد قدرتها على الاستمرار.
ومن هنا، جاءت المدرجات الزراعية اليمنية كأسمى تجسيدٍ لتلك الفلسفة؛ فهي ليست مجرد بنية إنتاجية، بل خطابٌ جماليٌّ يُعبّر عن هوية أمةٍ ووعيها بذاتها.
فعلى سفوح الجبال الممتدة من شمال الجزيرة اليعربية إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها تتوشّح الأرض بحزامٍ أخضر منسوجٍ من مدرّجاتٍ متدرجةٍ كأنها قصائد شعرٍ بصريٍّ تروي سيرة الإنسان اليمني مع الأرض.
كل جدارٍ حجريٍّ هو توقيعٌ معماريٌّ يحمل بصمة الجيل، وكل مدرّجٍ هو لوحةٌ جماعيةٌ رسمتها أيادٍ تعرف أن الزراعة ليست مهنة، بل فنٌّ من فنون الانتماء.
لقد تحوّل الجمال في الوعي اليمني من كونه قيمةً فنيةً إلى قوةٍ وطنيةٍ ثقافية؛
فحين يزرع اليمني سفح جبلٍ صعب، فإنه لا يزرع طعامه فقط، بل يزرع صورته وهويته وكرامته.
إن المدرجات ليست فقط مصدرًا للغذاء، بل رمزًا للثبات، ولإصرارٍ جماليٍّ يقول للعالم:
نحن هنا، نحيا ونُبدع رغم قسوة الجغرافيا.
وهكذا، تداخلت الزراعة مع الفن، والجمال مع الهوية، حتى أصبحت المدرجات اليمنية مرآةً للروح الوطنية؛
فيها تظهر قيم العمل والتعاون والجمال والكرامة، وفيها يُختصر وجدان أمةٍ جعلت من الطبيعة شريكًا في صياغة ذاتها الثقافية.
وفي عصرٍ تذوب فيه الهويات في دوامة العولمة، تقدّم هذه التجربة نموذجًا فريدًا لما يمكن تسميته ب "الهوية المنتجة" — هوية لا تقوم على الشعارات أو الذاكرة فقط، بل على الفعل والإبداع والتجدد.
فالمدرجات ليست ماضيًا يُحكى، بل هويةً تُزرع وتُسقى وتُحصد كل عام.
الدرس الخامس للعالم:
" حين تتحوّل الزراعة إلى جمال، يتحوّل الجمال إلى هوية، وتصبح الهوية مصدرًا للقوة الحضارية ."
7. في التضامن الاجتماعي:
العمل الجماعي أساس البقاء
في صميم التجربة اليمنية، لا تُعدّ المدرجات الزراعية مجرد هندسةٍ للأرض، بل هندسةٌ للعلاقات الإنسانية.
فقد وُلدت تلك التحف الزراعية من رحم التعاون، لا من الفردية، ومن روح الجماعة التي جعلت من العمل المشترك نظامًا للحياة لا مجرد خيارٍ اجتماعي.
لقد فهم اليمنيون باكرًا أن الجبل لا يُزرع بيدٍ واحدة، وأن الطبيعة لا تبوح بعطائها إلا لمن يعملون معًا بانسجامٍ وثقةٍ وتكافل.
كان بناء كل مدرّج يتطلّب جهد القرية بأكملها؛ رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا.
يتقاسمون الحجارة والماء والوقت، ويغنّون أثناء العمل، كأنهم في طقسٍ جماعيٍّ مقدّس تُمارَس فيه الزراعة كعبادةٍ ومشاركةٍ إنسانيةٍ سامية.
وهكذا تحوّل العمل التعاوني إلى بنية اجتماعية متماسكة تربط الأفراد بالأرض وببعضهم البعض في شبكةٍ من المسؤولية والاحترام والولاء للمكان.
كانت تلك التجربة أول تطبيق عملي لفلسفة الاقتصاد التشاركي قبل أن تُصاغ نظرياته الحديثة بآلاف السنين.
فكل قريةٍ كانت بمثابة "شركةٍ جماعيةٍ طبيعية" تُنتج وتستهلك وتوزّع بشكلٍ عادل، دون حاجةٍ إلى مؤسسات أو قوانين مكتوبة؛ لأن القانون كان القيم، والمؤسسة كانت الوعي.
لقد أثبتت المدرجات اليمنية أن التنمية ليست مجرد نشاطٍ اقتصادي، بل شبكةٌ من العلاقات الاجتماعية المتوازنة، وأن المجتمعات التي تفقد روح التعاون تفقد قدرتها على البقاء.
ومن هنا، يتجلّى عمق التجربة اليمنية بوصفها درسًا للعالم المعاصر، الذي يعيش في ظل العزلة الرقمية والفردية الاستهلاكية:
أن البقاء لا يتحقق بالقوة الفردية، بل بقدرة الجماعة على العمل المشترك، وتوزيع الجهد والمسؤولية بتكافلٍ ووعي.
إن المدرجات لم تكن فقط نتاجًا للتعاون، بل كانت أيضًا سببًا في ديمومته؛ فكما وحّدت الأرض الناس في العمل، وحّدتهم كذلك في المصير، فصار كل موسم حصادٍ احتفالًا جماعيًا بانتصار الإنسان على الجبل والجدب معًا.
الدرس السادس للعالم:
" حيثما يتفكك العمل الجماعي، تموت الأرض. وحيثما تتكاتف الأيدي، تُزهر الجبال ."
8. في السيادة الغذائية:
الحرية تنبت من الأرض
من بين الدروس الكبرى التي تهديها المدرجات الزراعية اليمنية إلى العالم، يبرز درس السيادة:
أن الحرية لا تُصنع في القصور، بل تُزرع في الحقول.
لقد أدرك اليمنيون منذ فجر التاريخ أن من يملك غذاءه يملك قراره، وأن من يعتمد على غيره في قوته يفقد استقلاله مهما امتلك من سلاحٍ أو مال.
ولهذا، لم تكن الزراعة في اليمن مجرّد نشاطٍ معاشي، بل خطةً استراتيجيةً للكرامة الوطنية.
فبينما كانت أممٌ كثيرة تخضع للتقلبات السياسية أو الاقتصادية بسبب تبعيتها الغذائية، بنى اليمني على جباله حصونه الخضراء التي تقيه الجوع والارتهان، وتمنحه استقلالًا ماديًا ومعنويًا في آنٍ واحد.
كل مدرّجٍ كان بمثابة "سورٍ من السيادة"، وكل موسم حصادٍ كان عيدًا للحرية؛ فالأرض هنا لم تكن مجرد مصدرٍ للعيش، بل ركيزةً للقرار السياسي والاجتماعي والثقافي.
" من امتلك أرضه، امتلك قراره، ومن حرث بيديه عاش بكرامةٍ لا تُشترى ."
لقد شكّلت المدرجات الزراعية نظامًا غذائيًا ذاتيًا متكاملًا، يُوفّر الحبوب والبن والخضار والفواكه والمكسرات، ويُعيد تدوير المياه والمواد العضوية في دورةٍ مغلقةٍ ومستدامةٍ تُحقق ما يُعرف اليوم في العلوم الحديثة ب "الاقتصاد الدائري الزراعي".
كان الفلاح اليمني يمارس الاستدامة قبل أن تُصبح شعارًا أمميًا، ويُحقّق الاكتفاء قبل أن تُكتب نظرياته في الجامعات.
وهكذا تحوّلت الزراعة في اليمن إلى مفهومٍ للسيادة قبل أن تكون مهنة، وإلى مؤسسةٍ للكرامة قبل أن تكون قطاعًا اقتصاديًا.
ومن هذا الفهم العميق وُلدت فلسفةٌ يمنيةٌ عريقةٌ تقول:
" من لا يزرع أرضه، يزرع تبعيته ."
اليوم، والعالم يواجه أزمات غذاءٍ متصاعدة بفعل الحروب والمناخ، يعود اليمن ليذكّر البشرية بمعادلةٍ بسيطةٍ وعظيمةٍ في آنٍ واحد:
أن الاستقلال يبدأ من حفنة تراب، وأن الأمن القومي يبدأ من أمن الغذاء.
الدرس السابع للعالم:
"الحرية لا تُستورد، بل تُزرع. ومن لا يحمي أرضه بزراعتها، يفقدها بالانتظار.
9. في البعد الإنساني والفلسفي:
حين تتكلّم الجبال
هناك في اليمن، حيث تعانق الجبالُ الغيومَ وتتهامس القممُ مع الرياح، تنطق الطبيعة بلغةٍ لا يفهمها إلا الذين زرعوا بأيديهم وصبروا بقلوبهم.
فالمدرجات الزراعية اليمنية ليست صخورًا مرصوفةً فحسب، بل نصوصٌ منقوشةٌ على جسد الجبل تروي فلسفة الإنسان اليمني في مواجهة الوجود.
إنها ليست مجرد مشروعٍ هندسيٍّ أو معجزةٍ زراعية، بل بيانٌ إنسانيٌّ خالدٌ في معنى الانتماء، والعمل، والجمال، والخلود.
لقد جعل اليمني من الجبل كائنًا حيًا يشاركه الحياة؛
يُطعمه من جهده، ويسقيه من صبره، فيبادله العطاء بالجمال والخصب والظل.
وهكذا نشأت علاقةٌ نادرةٌ بين الإنسان والمكان، علاقة حوارٍ وتفاهمٍ لا صراعٍ وهيمنة.
كان الجبل مدرسةً في التواضع، يُذكّر الإنسان أن القوة لا تكون في القهر، بل في القدرة على الفهم؛
وأن الحضارة ليست غزو الطبيعة، بل التعايش معها في توازنٍ روحيٍّ ومعرفيٍّ راقٍ .
في تلك الجبال، ارتقى الوعي الإنساني إلى مستوى الفلسفة الفعلية؛
فلم يعد اليمني يرى نفسه سيدًا على الأرض، بل جزءًا من نَسَقها، ولم يعد يزرع ليأكل فقط، بل ليحيا معنى الوجود في انسجامٍ بين اليد والفكر، بين الجهد والروح.
وهكذا، تحوّلت المدرجات اليمنية إلى مرآةٍ كونيةٍ تُظهر أرقى ما في الإنسان من عقلٍ وجمالٍ ومسؤولية.
لقد تحدّثت الجبال بلغةٍ صامتةٍ لكنها أبلغ من كل خطاب؛
قالت إن الحضارة ليست ما نملكه، بل ما نحترمه،
وأن الإنسان لا يُقاس بما يبنيه في السهول، بل بما يُشيّده من روحٍ على القمم.
الدرس الثامن للعالم:
" حين يتصالح الإنسان مع الجبل، يتصالح مع نفسه، وتصبح الأرض مرآةً للسماء ."
الخلاصة:
المعجزة الإنسانية الأولى في تاريخ الوعي والجمال
بهذا، لا تبقى المدرجات الزراعية اليمنية مجرّد أثرٍ من الماضي أو مشهدٍ جغرافيٍّ مدهش، بل برهانًا حيًّا على أن الإبداع الإنساني قادرٌ على الانتصار على الجغرافيا والمناخ والندرة والزمن معًا.
لقد قدّم اليمنيون للعالم أول نموذجٍ تطبيقيٍّ في التاريخ ل "الهندسة المستدامة المتصالحة مع الطبيعة"،
حيث حوّلوا الجبال الصلدة إلى معابدَ خضراءٍ تنبض بالوعي والجمال والإنتاج،
وجعلوا من الأرض الوعرة لوحةً تتناغم فيها العلوم مع الفلسفة، والهندسة مع الإيمان، والعمل مع الفن.
فالمدرجات الزراعية ليست مجرّد إرثٍ حضاري، بل رسالة كونيةٌ عميقةٌ تقول للبشرية جمعاء:
إن الإنسان، حين يتصالح مع الطبيعة ويفهم لغتها،
قادرٌ أن يجعل من الصخر خبزًا، ومن القسوة جمالًا، ومن التحدي حياةً.
ومن هنا، تبقى المدرجات الزراعية اليمنية بحقٍّ المعجزة الإنسانية الأولى في تاريخ الوعي والبقاء، وشهادةً خالدةً على أنّ الإنسان لا يُقاس بما ورث، بل بما أبدع، ولا يُخلَّد بما امتلك، بل بما ترك من أثرٍ جميلٍ على وجه الأرض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.