في الصيف المنصرم، دخل مقر الأمن اليمني في شرق البلاد رجل بيد اصطناعية حاملاً لخطاب. كانت هذه المحاولة الثانية للمذكور. قبل أشهر مضت وتحديداً في نهاية 2012م، ترجل الرجل ماشياً على قدميه لذات المكتب حاملاً مذكرة توجه بتعيينه نائباً لمدير أمن المكلا، المدينة ذات الميناء في الساحل الجنوبي لليمن. تجاهله الضباط آنذاك. كانوا يعلمون جيداً من هو هذا الرجل ولم يرغبوا في التعامل معه، بحسب مسؤول اطلع على الرسالة المشار إليها آنفاً. إلا أنه هذه المرة، كان الرجل ذو اليد اليسرى المبتورة أكثر استعداداً. خفض مطالبها ونصب عينيه مطالباً بمنصب «مساعد» لمدير الأمن واستطاع أن يحشد الدعم الكافي في العاصمة. لم يكن لدى المسؤولين المحليين أي خيار آخر. حصل على الوظيفة. أصبح الآن جمال النهدي مسؤولا أمنيا. وكما جاء على لسان مسئولين أمنيين وأعضاء في البرلمان ومسئولين حكوميين فقد تكرر ذات المشهد خلال الأشهر الماضية في شتى أنحاء اليمن. لكن قضية النهدي هي الأكثر جدلاً نظراً لتاريخه الشخصي. قبل عقدين وقبل أن يترجل إلى إدارة الأمن في المكلا، كان النهدي العقل المدبر ومهندس أول عملية إرهابية لتنظيم القاعدة ضد الولاياتالمتحدة. مثله مثل مئات اليمنيين من جيله، انتقل النهدي إلى أفغانستان في الثمانينيات لمحاربة السوفييت وانظم في نهاية الحرب إلى التنظيم الجديد الذي أسسه أسامة بن لادن. وبعد فترة وجيزة من عودته إلى الوطن، وفي ديسمبر 1992، كلفه بن لادن بالقيام بمهمة. حينها، كان بن لادن قد تخلى وترك المملكة العربية السعودية، واستقر في مزرعة داخل الأراضي السودانية، حيث يستطيع رصد التغييرات في سياسات الشرق الأوسط. مكتئباً في منفاه الاختياري، انزعج بن لادن من المشاهد. حين قررت الولاياتالمتحدة إرسال قوات إلى الصومال في ديسمبر 1992 – في إطار عملية استعادة الأمل – استخدم عدد من قوات المشاة البحرية الأمريكية (مارينز) مدينة عدن قاعدة للانطلاق. شاهد بن لادن ما فيه الكفاية. ووصل إلى قناعة أن الولاياتالمتحدة تستخدم ذريعة الحروب لإدخال قواتها إلى شبه الجزيرة العربية وقرر استخدام العنف. اختار بن لادن مساره وبعد تسع سنوات من تلك الفترة عرف الأمريكيون اسم بن لادن لأول مرة. كان يخوض حرباً ضد الولاياتالمتحدة. في 29 ديسمبر 1992، نفذ النهدي مخطط بن لادن. رغب النهدي في تنفيذ انفجارين متزامنين الأول في فندق الموفنبيك عدن والثاني في فندق جولدمور، حيث أبلغه فريق الاستطلاع والاستخبارات التابع له أن المارينز في الفندق الأخير. زرع النهدي ومساعده القنبلة في جولدمور وانتقلا عبر المدينة إلى الموفنبيك. وبينما كان يهم بزارعة القنبلة حدث خطأ غير مقصود وانفجرت مبكراً ومزقت الجزء الأكبر من يده اليسرى. وبعد دقائق من الانفجار الأول انفجرت القنبلة الثانية في جولدمور بحسب الجدول الزمني محدثة فجوة في جدار الفندق وقتلت اثنين. لكن النهدي أخطأ في اختيار الفندق. لم تكن قوات المشاة البحرية في جولدمور وقتلت قنبلته سائحا أجنبيا وموظفا فندقيا. أول هجوم للقاعدة ضد الولاياتالمتحدة كان فاشلا بكل المقاييس. في ذلك الوقت، لم ينتبه الأغلبية إلى المحاولة الفاشلة، فهي عبارة عن محاولة تفجير مثلها مثل الأخريات في هذا البلد المضطرب. كادت العملية أن تكون مجرد كتابات هامشية على حاشية صفحات التاريخ الأمريكي في الحرب على القاعدة إذا بقي اللاعبون الأساسيون في الماضي. وبعد مرور عقدين بعد قيام النهدي بوضع المتفجرات، ظهر الرجل الذي خطط لأول عملية للقاعدة ضد الولاياتالمتحدة، ظهر هذه المرة وهو يقاتل ولو ظاهرياً مع الجانب الآخر. من غير الواضح في الوقت الراهن إلى أي حد تغيرت وجهة نظر النهدي خلال العقدين الماضيين تجاه الجهاد والعنف لكن منصبه الحالي كمساعد مدير أمن المكلا – مسؤول رفيع المستوى في وزارة الداخلية اليمنية – يثير العديد من الشكوك والتساؤلات حول مدى اختراق عناصر القاعدة والمجاهدين وأنصارهما أجهزة الأمن اليمنية، وفي الوقت نفسه تصب الولاياتالمتحدة ملايين من الدولارات إلى البلاد في محاولة منها لمقارعة الجماعات الإرهابية. حين تواصل مراسل بزفييد مع النهدي ذكر الأخير أنه يلعب دوراً مميزاً في معالجة الاختلالات الأمنية وإدانة القاعدة. رفض النهدي التطرق إلى دوره في تفجيرات 1992م قائلاً: «أنا اليوم عقيد في وزارة الداخلية.. وعينت مساعداً لمدير أمن المكلا». لن يكون النهدي أول أو آخر العناصر المتشددة التي حصلت على مسار وظيفي جديد كمسؤول أمني في اليمن. شهدت اليمن خلال عامين ونصف منذ تنحي صالح عن السلطة مرحلة عسكرية انتقالية مضطربة. قبل الرئيس اليمني الجديد عبدربه منصور هادي مساعدة كل الأطراف في اليمن لأن قاعدة دعمه المحلية كانت محدودة. رحب بالمشورات والمساعدات الأمريكية التي جفت وتوقفت خلال الأيام الأكثر دموية في انتفاضة 2011م (انخفضت المساعدات من 147 مليون دولار في عام 2011م وتضاعفت بعد تولي هادي الحكم في عام 2012م) وفي الوقت ذاته، شكل هادي حكومة وفاق وطني شملت أعضاء من التيارات الإسلامية المحلية وحصل الإسلاميون على حقائب وزارية كانوا يطمعون فيها. وربما الأهم من كل ذلك أن هادي أبقى على عناصر مشكوك فيها من النظام السابق الواقعة في شبهات الولاياتالمتحدة ومنذ فترة طويلة بخصوص دورها العلني بمكافحة الإرهاب وتذليل المصاعب لها في السر. أحد تلك الشخصيات المثيرة للجدل من النظام السابق هو الجنرال المعروف بعلي محسن الأحمر – 68 عاماً – كان الأحمر لسنوات طويلة القبضة الحديدية للنظام السابق وعضواً موثوقاً به في دائرة المقربين من صالح، حيث أبقى الجنرال خصوم الرئيس في أماكنهم من خلال دوره غير الرسمي كقناة تواصل بين الجيش والمجاهدين. في 1994، جند الأحمر العشرات من المحاربين القدامى في أفغانستان لمقارعة الشيوعيين إبان الحرب الأهلية الدامية والتي لم تستمر طويلاً. وبعد ستة سنوات من اندلاع الحرب الأهلية، تساءل المحققون الأمريكيون عن فرضية مشاركة بعض هؤلاء المجاهدين في هجوم نفذته القاعدة على المدمرة الأمريكية يو إس إس كول وهي في طريقها للتزود بالوقود في ميناء عدن، مما أسفر عن مصرع 17 بحاراً أمريكياً. وفي مارس 2011م، انشق الأحمر عن حكومة صالح - ربما لقراءته الكتابة على الحائط - ومنذ ذلك الحين، أصبح حليفاً لا غنى عنه بالنسبة للرئيس اليمني الجديد. وعلى الرغم من الدعم الذي قدمه الأحمر لهادي في خلق توازن يجابه عناصر النظام السابق، جلب الجنرال أعباء ثقيلة. هناك مخاوف من أن الأحمر عاد مرة أخرى لتجنيد المتشددين والمتعاطفين مع الجهاد لكن هذه المرة أعطاهم وظائف رسمية في مختلف الأجهزة الأمنية والمؤسسات العسكرية. يقول عبدالله المقطري، المسؤول عن لجنة الحساب الختامي والموازنة العامة للدولة في البرلمان اليمني أن عدد الوظائف الجديدة قد وصل إلى 200 ألف لكن لا يستطيع المقطري أو أي مسؤول آخر في الدولة من التأكد رسمياً من هذا الرقم، حيث جرت العادة ومنذ فترة طويلة القيام بما بات يعرف بممارسة تضخيم الأرقام لكي يحصل قيادات الجيش على المرتبات الفائضة تحت مسمى «الجنود/الموظفون الوهميون». يعرف الآن أن بضعة آلاف من المجندين يتواجدون اليوم في وظائف مثل حماية المباني الحكومية وحراسة السجون. وتزامن إدماجهم في صفوف أجهزة الأمن اليمنية مع ارتفاع وتيرة الهجمات وكذا عمليات الهروب من السجون اليمنية. ........... إعداد غريجوري جونسون الزميل في مشروع مايكل هايستينجز وشعيب المساوى كاتب مساهم في بزفييد. نقلاً عن موقع بزفييد