يعد التجديد في قراءة تأريخنا الوطني مطلبا علميا ملحا لابد ان نخوض فيه ومن بعدنا الاجيال التاليه ---لاسيما ونحن في مرحلة تأريخية مفصلية هامه تجلت فيها العديد من الحقائق والوقائع التي تبين أن الكثير منها قد كتب ودون بحسب هوى من دانت له زمام امور هذه البلاد، وبالتأكيد هذه فاجعة حقيقية لم تسلم منها كثير من البلدان في العالم. وهنا قراءة اتمنى أن تكون مناسبة مرور اربعين يوما على رحيل السلطان علي عبدالكريم بن فضل العبدلي مدخلا جادا لتقديم قراءة موضوعية وجادة لفصل من تاريخنا لوطني اهتم كثر من مؤرخينا على تركيز اهتمامهم على جانب واحد منه بينما بقيت جوانب عدة بعيدة تماما عن تلك الاهتمامات لتبقى معها قراءاتهم قراءات ناقصة ، بل لا ابالغ اذا قلت انها بعيدة عن اهتمامات القارئ وبالطبع ليس أي قارئ وإنما القارئ الباحث .
ربما هنا نتوافق على أنه حتى يومنا هذا أن مكتبتنا الوطنية وخاصة اللحجية منها خلت تماما من هكذا بحوث ودراسات علمية أكاديمية محكمة ، وان كل ما كتب في هذه المسالة لا يعدو ان يكون مجرد روايات غالبا ما يكون مصدرها الرئيس الارشيف الخاص اوالرسمي للحاكم سواء كان هذا الحاكم فردا أو مؤسسة حكم بعينها أو منقولا عن شهادات مجمعة بما يتوافق وهوى مزاج هذا وذاك من الناس .
سأحاول في المقام التالي أن اتناول فيما تيسر لي من قراءة ما استطيع ان اقول عنه تجاوزا لذلك الهوى وذلك ليس من خلال الرواية التأريخية المعهودة وانما سأخوض غمار تجربة قراءة فصل هام من تاريخنا الوطني في لحج تحديدا تحت يافطة عريضة وهي حركة التنوير في سلطنة لحج التي لا اعتقد بل اني أجزم أنها كانت وراء كل ذلك التأريخ الطويل لتأسيس وبناء السلطنة "الدولة اللحجية الحديثة" ، وبمفهومها التنويري الريادي، ولتكن البداية من هنا.
ذات نهار عبدلي وهاج حلم رائد نهضة لحج الادبية والفنية العبدلي أحمد فضل "القمندان"سليل أسرة العبادل التي كانت تحكم اولا لحجوعدن وفيما بعد تقلص نفوذها على حدود لحج المعروفة حتى عام1967 م حلم القائد الاديب والفنان والشاعر متسائلا في واحدة من روائعه الشعرية فقال:
كيف اوروبا وما شاهدتموا اسويسر لند وحش كاليمن أعراة أجياع أهلها في شقى جهل وكرب محن أم رجال أحرزوا العلم و فازوا بهداه فتلقوا كل فن أدريتم كيف فاقونا وهل قد بذلتم في التحري من ثمن كيف طاروا في السماء و استخدموا البرق حتى أذعن البرق ودن هل جلبتم معكم من قبس جمرة من نار تكوي الأحن
تساؤل مشروع كان لابد منه ونحن بصدد التعرف على النهج التنويري الوضاء الذي سار عليه شخص السلطان العبدلي الثائر /علي عبدالكريم وهو ذاته النهج الذي اسس له الرواد الأول من سلاطين العبادل كلا بنهجه وجهده وامكاناته وقدراته لارساء دعائم الدولة المنشود قيامها كدولة مدنية حديثة مرجعيتها الايمان والعلم والعدالة . تساؤل مشروع كهذا جسده "القمندان"في ابياته سالفة الذكر والتي وجدناها تخرج بمرور الايام من طور الحلم والسؤال الى طور الرؤية و المنهج الذي غدا لاحقا ضرورة لازمة وملزمة ليس للحاكم وحده بل وشعبه الا أن تصاريف الايام والاعيب السياسة وأدت حينا تلك الضرورة وفي احايين كثيرة عرقلت ذلك النهج المثالي والذي تمثلته ارادة الانسان اللحجي حاكما هو أومحكوم لتوطيد انتماءه وولاءه الوطني الصادق و بما يرقى الى مرتبة يستأهلها في سفر العطاء الانساني مثله كباقي الكيانات البشرية التي أقامت نظمها السياسية وان أختلفت من نظام الى أخر الا ان قاسمها المشترك كان وسيبقى العلم أولا والعلم أخرا .
اعود الى تلك الابيات ومناسبتها فاقول ان زمانها وان جاء متقدما على ظهور وبروز اسم ونجم السلطان الثائر رحمة الله عليه / علي عبدالكريم الا انها تمنح الباحث الجاد قاعدة انطلاق "بيانية"مهمة لاستكشاف الاصول التنويرية الثقافية الأولية التي شكلت الكولاج الكيرازيمي لشخصيته منذ نشأته الاولى وحتى رحيله ، ويتضح الامر كثيرا ونحن في محطات حياته الاولى وهي البدايات التي اظهر فيها شخصية قوية وذلك قبل توليه مقاليد الحكم رسميا كقائد ولكن ليس كمثل باقي القيادات التي عهدتها البيئة اللحجية انذاك يحق لنا ان نقول انه كان قائدا فذا ليس تزلفا بل لانه كان شجاعا في اطروحاته الصريحة التي جاهر بها لاحداث ما ينشده من تغيير وايضا بانحيازه التام لقيم العلم والعدالة الاجتماعية. انني هنا .. وفي هذه العجالة لا اريد ان اخوض في الادوار السياسية التالية المعروفة لنا جميعا والمكشوف عنها في العديد من الوثائق التي تناولت السلطان الراحل علي عبدالكريم لا لشيئ الا لاني لا اريد الغوص بعيدا عن جوهر فكرة هذه السطور، وهي التعرف عن قرب على مجمل المرتكزات الثقافية شكلت شخصيته لسلطان قائد متمرد وثائر، وأستدل من تلك الابيات القمندانية و غيرها من القصائد التي ابدعها شخص القمندان وغيره من شعراء لحجوعدن، التي لنا فيها العديد من الاشارات الواضحة والهامة الى اهمية بناء الحكم العبدلي بناءا حديثا يعتمد على معطيات الحضارة الانسانية ومقومات العلم ومحاكاة حركة التنوير والنهوض المأخوذ به من قبل العديد من البلدان العربية ومجاراة حركة التحديث في البلاد الاوربية ، وهي اي تلك الابيات التي استشهدت بها اعلاه ..وهي ليست الوحيدة كما انها ليست الاولى ولا الاخيرة سواء للقمندان أو لغيره ، فمتى ما رجعنا الى ديوان الشعر اللحجي الكبير سنجد دررا في هذا الاتجاه. كما انه متى ما امعنا القراءة الدقيقة في تأريخ لحج الحديث وتحديدا تاريخ الحكم العبدلي للحجوعدن كما هو متعارف عليه بحسب المراجع والشواهد الدالة عليه نطالع كثير من الايماءات والومضات من هنا وهناك التي تساعدنا على التعرف على العوامل التي ولدت روح الثورة والتغيير لدى كثير من حكام هذه المنطقة ، بل و بينت للمتابع الحصيف أن سلاطين وحكام المنطقة وفي مقدمتهم العبادل لم تمنعهم معاهدات الحماية والاستشارة من التفكير الايجابي لصالح مناطقهم فعمدوا الى الشروع في بناء المؤسسات التعليمية والتي كانت منارات أولى على مستوى الجنوب والخليج العربي ، وما المدرسة المحسنية الا أنموذجا حيا على جدية ذلك الاهتمام المبكر الذي اسهم خلق نهضة تعليمية حقيقية بان أثرها لاحقا في الاجيال التاليه.
وفي ذات السياق الثقافي الذي نحن بصدده استطيع القول ان الزيارات التي كان يقوم بها اهل السلطنة العبدلية ---غير البعثات التعليمية طبعا ---- الى خارج حدود السلطنة وتحديدا الى دول اوربا و أسيا قد ساعد على تعرف الحكام على كثير من جوانب النهضة العلمية في العالم ، كما أنه حفز اولئك الحكام على التنافس الشريف والتباري البناء في التأسيس للعديد من الاندية الثقافية و الاجتماعية و الرياضية والتي لعبت أدوارا هامة في تثوير المجتمع باتجاه المناداة بالمزيد من الحريات و الحقوق العامة، وقد تجلى ذلك فيما بعد في العديد من الخطوات الجريئة غير المسبوقة و لعل الدستور اللحجي من أهمها... لا يمكن لاحد ما من الناس هنا أن يتشكك في ما تقع عليه عينه من وثائق أو ما تسمعه اذنه من روايات محلية من أهل الحكم والمحل معا، ولكن لايمكن لأحد ما ايضا ان يشك اويرتاب في ما جاء كشهادات لكثير من زائري السلطنة اللحجية ، وما أثار فيهم من اندهاش وانبهار ، ولعل ما أورده الرحالة الالماني هانز هوفلمان في مؤلفه الموسوم "اليمن من الباب الخلفي"والذي وصف في جانب منه احد الاحتفالات السلطانية وما وجد فيه من تنظيم وتخطيط واعداد مسبق ومحكم من قبل من اشرفوا وشاركوا في تلك الاحتفالية ومشاركة فاعله وواعية من قبل تلاميذ المدرسة وتقديمهم فقرات الاحتفال من شعر واناشيد وغناء وتمثيل ، اضافة الى ما قدموه من عروض رياضية برعوا فيها ايما براعة الى حد أن هذا الرحالة الالماني لم يستطع ان يتمالك نفسه وهو يصفهم ويقول بفصيح الجملة الدالة "انه لم يشاهد هكذا عروض حتى في بلده المانيا وبلدان أوربا" . ..طبعا كانت مشاهدته تلك بحسب الرحالة وكتابه في ثلاثينات القرن الفارط. زد على ذلك ، أن الاديب والرحالة العربي اللبناني امين الريحاني ، وفي معرض مشاهداته التي سجلها في كتابه "ملوك العرب"نجده يقدم لنا وصفا دقيقا جريئا ومتفردا لما رأه في لحج من تطور زراعي وثقافي لخصة في كلمات بديعة وصف فيها الزي السلطاني الذي كان يلبسه ألسلطان انذاك ، وايضا وصف محتويات القصر السلطاني وجعل تركيزه منصبا على المحتويات ذات الاهتمام المعرفي والثقافي من خلال وجود المكتبة السلطانية العامرة بامهات الكتب العربية والاجنبية وغيرها من الكتب ذات الاهتمامات المتنوعة ، و لم ينسى الريحاني ان يذكر لقارئه العربي والاجنبي ماهية المجلات والجرائد الناطقة باللغتين العربية والانجليزية وخص منها مايستورد من بلاد الشام و مصر وبريطانيا.. كما انه اي--الريحاني--- دون في مؤلفه "ملوك العرب"اعجاب وانبهار القنصل الامريكي المعتمد لدى حكومة عدن أنذاك والذي شاركه زيارته تلك للحج ، وما دونه ذلك القنصل في سجل تشريفات القصر السلطاني معبرا عن اعجابه الشديد بما قدمته الفرقة الوسيقية العسكرية السلطانية امامه من الحان تراثية بديعة مشيدا ايضا بعزفها المتقن للسلام الوطني لبلاده الولاياتالمتحدةالامريكية. لعمري ان كل ما تقدم وان جاء مقتضبا الا انني اجد فيه اسهاما ليس فقط في تشكيل وبلورة الوعي الوطني باهمية العلم كسلاح جبار لبناء الدولة الحديثة ، ومن المؤكد انها كانت جهودا غير اعتيادية اسهمت كثيرا في خلق جيل لحجي وطني بامتياز كان السلطان العبدلي الثائر علي عبدالكريم رحمة الله عليه في مقدمة الصفوف الامر الذي اهله لأداء ادواره القيادية بجدارة وخلده تاريخنا المعاصر كرمز وطني ليس للحج وحدها وإنما لكل جنوبنا العربي الحبيب.