جماعة الحوثي تعلن ايقاف التعامل مع ثاني شركة للصرافة بصنعاء    أمطار رعدية غزيرة على 15 محافظة خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للمواطنين    ثلاث محافظات يمنية على موعد مع الظلام الدامس.. وتهديد بقطع الكهرباء عنها    أبوظبي اكستريم تعلن عن طرح تذاكر النسخة الرابعة التي ستقام في باريس 18 مايو الجاري    مأساة في تهامة.. السيول تجرف عشرات المساكن غربي اليمن    عندما يغدر الملوك    النائب العليمي: مليشيا الحوثي تستغل القضية الفلسطينية لصالح اجندة ايرانية في البحر الأحمر    بعد إقامة العزاء.. ميت يفاجئ الجميع ويعود إلى الحياة قبيل وضعه في القبر    جزار يرتكب جريمة مروعة بحق مواطن في عدن صباح اليوم    قارورة البيرة اولاً    أساليب أرهابية منافية لكل الشرائع    المحطات التاريخية الكبرى تصنعها الإرادة الوطنية الحرة    حرب غزة تنتقل إلى بريطانيا: مخاوف من مواجهات بين إسلاميين ويهود داخل الجامعات    مهام العليمي وبن مبارك في عدن تعطيل الخدمات وإلتقاط الصور    رئيس انتقالي شبوة: المحطة الشمسية الإماراتية بشبوة مشروع استراتيجي سيرى النور قريبا    العدالة تنتصر: قاتل حنين البكري أمام بوابة الإعدام..تعرف على مراحل التنفيذ    متصلة ابنها كان يغش في الاختبارات والآن يرفض الوظيفة بالشهادة .. ماذا يفعل؟ ..شاهد شيخ يجيب    أتالانتا يكتب التاريخ ويحجز مكانه في نهائي الدوري الأوروبي!    الدوري الاوروبي ... نهائي مرتقب بين ليفركوزن وأتالانتا    ضوء غامض يشعل سماء عدن: حيرة وتكهنات وسط السكان    قوة عسكرية جديدة تثير الرعب لدى الحوثيين وتدخل معركة التحرير    لا وقت للانتظار: كاتب صحفي يكشف متطلبات النصر على الحوثيين    الحوثي يدعو لتعويض طلاب المدارس ب "درجات إضافية"... خطوة تثير جدلا واسعا    مراكز مليشيا الحوثي.. معسكرات لإفساد الفطرة    ولد عام 1949    الفجر الجديد والنصر وشعب حضرموت والشروق لحسم ال3 الصاعدين ؟    فرصة ضائعة وإشارة سيئة.. خيبة أمل مريرة لضعف استجابة المانحين لليمن    هموم ومعاناة وحرب خدمات واستهداف ممنهج .. #عدن جرح #الجنوب النازف !    بلد لا تشير إليه البواصل مميز    باذيب يتفقد سير العمل بالمؤسسة العامة للاتصالات ومشروع عدن نت مميز    أمين عام حزب الشعب يثمن موقف الصين الداعم للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة مميز    دواء السرطان في عدن... العلاج الفاخر للأغنياء والموت المحتم للفقراء ومجاناً في عدن    لعنة الديزل.. تطارد المحطة القطرية    منذ أكثر من 70 عاما وأمريكا تقوم باغتيال علماء الذرة المصريين    الخارجية الأميركية: خيارات الرد على الحوثيين تتضمن عقوبات    تضرر أكثر من 32 ألف شخص جراء الصراع والكوارث المناخية منذ بداية العام الجاري في اليمن    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين    "صحة غزة": ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و904 منذ 7 أكتوبر    وفاة الشيخ ''آل نهيان'' وإعلان لديوان الرئاسة الإماراتي    امتحانات الثانوية في إب.. عنوان لتدمير التعليم وموسم للجبايات الحوثية    الدين العالمي يسجل مستوى تاريخيا عند 315 تريليون دولار    5 دول أوروبية تتجه للاعتراف بدولة فلسطين    ريال مدريد يقلب الطاولة على بايرن ميونخ ويواجه دورتموند في نهائي دوري أبطال أوروبا    دوري ابطال اوروبا .. الريال إلى النهائي لمواجهة دورتموند    مدير عام تنمية الشباب يلتقي مؤسسة مظلة    استشهاد وإصابة 160 فلسطينيا جراء قصف مكثف على رفح خلال 24 ساعة    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    البدعة و الترفيه    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن في قبضة المصيدة الديموغرافية
نشر في عدن الغد يوم 28 - 12 - 2020


د./ محمد الميتمي – وزير سابق
1-1: عن ماذا تفصح العمليات الديموغرافية في اليمن؟
من النادر أن توجد حقيقة واحدة تلخص عَالماً بأكمله كما تفعل المصيدة الديموغرافية في اليمن. إذ ليس هناك ما هو أفصح وأدق وأقوى دلالة في وصف حال الانسان وعلاقته بالطبيعة والبيئة والمجتمع مثل ما تقوم به الديموغرافيا. فالرقم 30 مقابل الرقم 4 هما أكبر من مجرد رقمين حسابين تدونهما المصادر الإحصائية. هذان الرقمان يرويان قصة ظروف وشروط وديناميات معدلات نمو سكان اليمن وتضاعف أعداده خلال سبعة عقود من تأريخ اليمن الحديث. تقول المصادر الإحصائية أن سكان اليمن - من دون احتساب الملايين الكُثُرْ من المهاجرين والنازحين والمشردين خارج اليمن - قد بلغ عام 2020 أكثر من 30 مليون إنسان مقارنة بنحو 4 ملايين عام 1950 وهو رقم يفوق بثمانية أضعاف تعداد أباءِنا قبل سبعة عقود ممن كانوا يقطنون نفس مساحة الجغرافيا التي نتشارك اليوم مساحتها ومواردها.
بالرغم ما تبوح به هذه الأرقام فإن ذلك لا يعني أن قائمة المشاكل والتحديات والمخاطر التي تواجهنا هي أكثر بثمانية أضعاف فقط عما كانت عليه عام 1950م. فالصورة تبدو أعقد من ذلك بكثير. إذ أن هذه القائمة من حيت حجمها وتنوعها ونوعيتها وحِدّتها تفوق مقدرتنا في الوقت الراهن على مواجهتها وحلها في نطاق الظروف والشروط والأدوات والآليات والإمكانات والموارد التي بحوزتنا الآن.
في هذا المقال الموجز سوف نميط اللثام عن "الشِرْك الديموغرافي" الذي يُطوقّنا بحباله الغليظة بإحكام كشباك العنكبوت التي تتشبّثُ بضحاياها وتلتهم أجسادها حتى النهاية. وللفكاك منه يتطلب بناء عقيدة وطنية موحدّة جامعة وإدارة ورؤية وإستراتيجية نهضوية حديثة وسرعة في التحرك لمواجهته وقبل ذلك كله نظام حكم جمهوري ديموقراطي كفؤ وعادل، مالم فإن حبال هذه المصيدة سوف تلتف حول أعناقنا وتخنقنا حتى نلفظ أنفاسنا الأخيرة.
ظَلَّ اليمنُ يعيش في نطاق المرحلة الأولى من التحول الديموغرافي حتى نهاية الستينات من القرن الماضي. فالحياة على امتداد قرون طويلة كانت جامدة مظلمة، موحشة وقاسية في ظل أنظمة حكم ثيوقراطية متخلّفة جاهلة وظالمة تعاقبت على حكم اليمن لدرجة بدت اليمن كما لو أنها مدفونة داخل مقبرة للأموات. كانت تخلو من المدارس والمستشفيات وشبكة الطرق والكهرباء وكلما يمتُّ بصلة إلى العصر الحديث. كانت تعيش ظروف القرن الثاني عشر على واجهة القرن العشرين. لقد دفنت تلك الأنظمة اليمنيين في غياهب الجهل والمرض والإملاق لقرون، وغدى الخلاص منها ضرورة حتمية لبقائها أمة تنبض بالحياة.
داوم نظام الإخصاب الطبيعي في اليمن يعمل بأقصى طاقاته الممكنة لتعويض المعدل المرتفع للوفيات وذلك للحيلولة دون انقراض السكان. فمتوسط معدل المواليد بلغ 45 لكل ألف نسمة مقابل معدل وفيات مرتفع للغاية يساوي 35 لكل ألف. لذا لم يكن متوسط العمر المتوقع عند الميلاد في خمسينات القرن الماضي يتجاوز 29 عاما مقارنة ب 40 عاما في أفريقيا جنوب الصحراء و 65 عاما في أوروبا الغربية. يٌطْلقٌ على هذه المرحلة في الأدبيات الديموغرافية بمرحلة ثبات السكان عند مستوى منخفض وهي صِفةٌ ميّزت جميع المجتمعات البدائية.
أحدثت ثورتي عام 1962 و 1963 انقلابا كبيراً في العمليات والخصائص الديموغرافية بحيث مكّنت اليمن من الإفلات من قبضة المرحلة الأولى للتحول الديموغرافي والانتقال إلى المرحلة الثانية في غضون عقد من الزمن ليس إلا. وكما أشرنا كان عدد سكان اليمن حتى عام 1950 يقارب 4 مليون نسمة تقريبا وأقتضى مرور 12 عاما أي حتى نهاية عام 1962 لكي يتكاثروا بنحو 700 ألف نسمة فقط وهو ما يتحقق في الوقت الحاضر في غضون أقل من عام واحد. ذلك يعني أن اليمن لم يتجاوز يومها عتبة المرحلة الأولى من التحول الديموغرافي. إذ أحتاج سكان اليمن لكي يضاعفوا عددهم إلى أكثر من نصف قرن في النصف الأول من القرن العشرين عند معدل نمو سكاني لا يتعدى 1.3% في المتوسط، مقابل 17 عاما في المتوسط في الوقت الحاضر.
الانتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية من التحول الديموغرافي بدأ منذ بداية السبعينات وحتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي مع بداية الاستقرار السياسي والاجتماعي وانتشار التعليم الحديث وظهور مؤسسات ووسائل الرعاية الصحية الأولية وانتشارها على نطاق واسع وارتفاع مستوى دخول السكان. ويمكن وصف تلك الفترة "بالذهبية" بمعايير الماضي وظروف الحاضر الذي نعيشه الآن. في هذه المرحلة بدأ الانخفاض الملحوظ لمعدل الوفيات يقابله ارتفاع في معدل المواليد. حيث انخفض المؤشر الأول إلى 24 لكل ألف نسمة وارتفع الثاني إلى 48 مولود لكل ألف. وبالنتيجة أرتفع المتوسط السنوي لمعدل نمو السكان إلى 3.2% ليغدوا واحدا من اعلى معدلات النمو السكاني في العالم وبات عدد السكان يتضاعف كل 21 عاما. إن خفض معدل الوفيات يتماشى خطوة بخطوة مع مستوى الصحة العامة للسكان ودرجة كفاءة وإنتاجية قوة العمل.
إنه انعطاف مذهل للعمليات والخصائص الديموغرافية في غضون فترة وجيزة من الزمن وذلك بمقاييس التأريخ البشري. بحلول عام 1970 ارتفع متوسط العمر المتوقع عند الميلاد إلى 41 عاما ثم إلى نحو 50 عاما بحلول 1990 و 65 عاما في 2014م مقابل 29 عاما في 1950، كما انخفض عدد وفيات الأطفال إلى 144 وفاة لكل ألف ولادة حية مقابل 292 عام 1960، والأطفال الرضع تحت سن الخامسة من أكثر من 378 عام 1960 إلى 190 لكل ألف نسمة بحلول 1988م. هذه التغيرات بهذه الوتائر السريعة قد غيرت بشكل واضح من شكل هرم السكان وخصائصه الديموغرافية. الارتفاع الملحوظ في معامل التنمية البشرية من أقل من 0.09 تقريبا في خمسينات القرن الماضي والذي كان من بين الأدنى عالميا إلى 0.253 بنهاية الثمانينات من ذلك القرن دليل ناصع على النقلة الكبيرة التي أحدثتها الثورة اليمنية.
تتخلق على الدوام علاقة تبادلية بين محددات ديناميكية السكان وعلى رأسها الوفيات والمواليد. ففي البلدان المتخلفة والفقيرة كحالة اليمن عادة ما تعاني من عجز واضح في السيطرة على متغير الوفيات، وهو ما نلاحظه في التأرجح الحاد لدينامية الوفيات حول مستوياتها الوسطى المرتفعة ومن ثم تأرجح معدلات النمو السكاني بما يحرك في المجتمع نزعة إعمال آلية الاحلال. هكذا نلحظ الآثار الفتاكة للنمو المرتفع للسكان في ظل بقاء نظم الإنتاج ونظم الحكم متخلفة على حالها.
بقيام الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990 التي أطلقت الآمال والوعود برخاء أوفر وحياة أجمل واستقرار متين ازداد أعداد سكان البلاد بمقاييس ديموغرافية غير معهودة وذلك كان محصلة لزيادة الحركة الميكانيكية للسكان (صافي الهجرة إلى داخل اليمن) والزيادة الطبيعية للسكان (3.2%) بحيث ارتفع عدد سكان اليمن خلال خمس سنوات من 11.7 مليون نسمة عام 1990 إلى 15 مليون بنهاية 1995م، بمتوسط معدل نمو سنوي وقدره 5% مقارنة بمتوسط عالمي يساوي 1.52% و2.8% للبلدان الأقل نموا.
هذا المعدل المرتفع للسكان أماط اللثام عن الانفجار السكاني الذي قلّما وجد له نظير في التأريخ الديموغرافي العالمي. فعلي سبيل المقارنة لا الحصر بلغ المعدل العام للخصوبة في اليمن خلال هذه الفترة 240 مولودا حيا لكل 1000 امرأة مقارنة ب 40 مولودا في اليابان، هذا فضلا عن عودة أكثر من مليون مغترب من دول الخليج الذين طردوا منها قسرا أثناء حرب الخليج الثانية. إن الفترة الزمنية لتضاعف عدد السكان انخفضت من 21 عاما في الثمانينات إلى 14 عاما في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي.
بيد أن النخب السياسية الاقصائية الحاكمة وأَدَتْ تلك الآمال والوعود وأدخلت البلاد في آتون صراعات ونزاعات وحروب وتصفيات لم تنتهِ فصولها حتى اليوم. ماكينة الإخصاب ظلّت حتى اليوم تعمل بأقصى طاقاتها الممكنة لعملية التكاثر وإن بدرجة أقل عن ذي قبل حتى بلغ إجمالي سكان اليمن اليوم نحو 30 مليون إنسان بمتوسط معدل نمو سنوي وقدره 2.8% خلال الفترة 1995-2020. وهنا يجدر بنا أن نلفت نظر القارئ أن الفترة الزمنية لتضاعف سكان اليمن بدأت مجدداً تسير نحو الارتفاع من 14 عام إلى 25 عاما خلال الخمسة والعشرين العام المنصرمة من حياة اليمنيين. لعله ومن تلك اللحظة بدأت قواعد مالتوس للضبط الإيجابي تؤدي وظائفها وفعلها باضطراد دافعة اليمن للعودة إلى أحضان المرحلة الأولى من التحول الديموغرافي ليقع مجددا في براثن المصيدة الديموغرافية.
لقد بدأت معدلات نمو السكان في اليمن بالتقهقر، حيث أنخفض هذا المؤشر من3.2% في ثمانينات القرن الماضي و 5% في تسعينياته/ إلى 2.7% عام 2014 لينحدر إلى 2.2% عام 2020م. ويتوقع أن ينخفض إلى 1% بحلول 2050م طبقا لمصادر الأمم المتحدة . وهنا يجدر بنا أن نلاحظ أن عدد سنوات تضاعف السكان عادت لترتفع في زمن الحرب (2014-2020) إلى 32 عاما تعبيرا عن الانتكاسة في الخصائص الديموغرافية للسكان وارتفاع معدل الوفيات والهجر إلى خارج البلاد. إن انكماشاً في حجم سكان البلاد يقدر بنحو 900 ألف نسمة أو يزيد قد وقع خلال سنوات الحرب على مرجعية انخفاض معدل النمو إلى 2.2%.
غير أن النتائج الكارثية لهذه الحرب على العمليات الديموغرافية وخصائصها لن تظهر بوضوح إلا بعد انقضاء جيل واحد. فاستنادا إلى تقديرات الأمم المتحدة حول متوسط معدل نمو سكان اليمن بحول 2050 المقدر بنحو 1% فان عدد سنوات تضاعف السكان سيقفز إلى أكثر من 69 سنة. وتلك دلالة على تدهور الخصائص والديناميات الديموغرافية في اليمن بشكل يفوق ما كانت عليه قبل منتصف القرن الماضي. هذا الانحدار الكبير في معامل النمو السكاني ليس ثمرة لتحول اقتصادي واجتماعي وثقافي باهر كما هو سائد في البلدان الصناعية المتقدمة، ولكنه ترجمة للديناميات والأحداث الديموغرافية التي تتم في نطاق المرحلة الأولى من التحول الديموغرافي التي تخندقت فيها اليمن مجددا من جراء الحرب ونتائجها الكارثية.
وتأسيسا على تلك التقديرات لنمو السكان خلال ربع القرن القادم فان عدد سكان اليمن سينكمش بنحو 17 مليون نسمة أخذاَ في الاعتبار التراجع المضطرد لمعدلات نمو السكان بفعل الحرب وعواقبها. بل أن تنبؤات الأمم المتحدة تقول أن معدل نمو سكان اليمن في الربع الأخير من هذا القرن يمكن أن يتراجع إلى قيم سالبة بمقدار (-0.2% إلى-0.3%) سنويا وهي لاشك تنبؤات منذرة بالفزع. فهي تفصح أن اليمن خلال العقود القادمة وحتى نهاية هذا القرن سوف يشهد ارتفاعا كبيرا لمعدل الوفيات والهجرة الخارجية ينجم عنه انكماش كبير في حجم سكان اليمن بما يقدر بنحو 90 مليون نسمة عن حجمه المتوقع في ظل معدلات النمو السائدة بنسبة 2.2%، وذلك إذا لم يتم وقف هذه الحرب فورا والعمل على إصلاح الأعطاب الجسيمة التي تركتها في جسد المجتمع.
لعل هذا المنحنى لانكماش السكان في اليمن يتفق مع توجهات المالتوسيين الجدد منظرين كانوا أم ساسة بالخلاص من فائض السكان في البلدان النامية من خلال تحفيز وتمويل الحروب والصراعات وإطلاق قواعد الضبط الإيجابي التي قال بها مالتوس.
اليمن في قبضة المصيدة الديموغرافية
2-1: الخصائص الديموغرافية وتشديد قبضة "الشْرِك الديموغرافي":
دفع النمو المتفجر لسكان اليمن في ثمانينات ومنتصف تسعينات القرن الماضي مع انحسار الموارد الاقتصادية والتوزيع غير العادل لثمارها بين فئات المجتمع باليمن رويدا رويدا نحو شباك المصيد الديموغرافية. لا تتسع مساحة هذا المقال لعرض كافة المؤشرات حول اختلال العلاقة بين نمو السكان والموارد الذي يفسر هذه المصيدة ومآلاتها، لكننا سنعرض لأهمها.
خلال الفترة 1970-1990 تضاعف سكان اليمن بمقدار الضعف بمتوسط معدل نمو سنوي وقدره 3.2% فيما تضاعف الناتج المحلي الإجمالي بنحو 6.8 مرة بمتوسط معدل نمو سنوي يقدر بنحو 10%. هذا الارتفاع الكبير في معدل نمو الناتج المحلي بما يزيد عن ضعفين ونصف معدل نمو السكان أنعكس بالإيجاب في تحسُّن الأحوال المعيشية والصحية للسكان واستقرارهم السياسي والاجتماعي وخاصة في المحافظات الشمالية من اليمن حيث كان الناتج المحلي يمثّل خمسة أضعاف قيمة الناتج المحلي في المحافظات الجنوبية . إن العائد الديموغرافي الذي تحقق نسبيّا في سبعينات وثمانينات القرن العشرين سرعان ما توارى ليتحول إلى إجهاد ديموغرافي بداءً من منتصف تسعينياته. فالتغير الكبير في التركيب العمري لهرم السكان لم يصاحبه تحول نوعي في خصائصه والبيئة التي يرتكز عليها. فقد ظل الاقتصاد ينمو بتكاسل ومعتمدا على قطاع النفط، و سوق العمل تنقصه المرونة المطلوبة وفرص العمل محدودة ومستوى التعليم ونوعيته ضعيفة.
اخْتلّت هذه العلاقة لصالح نمو السكان على حساب نمو الموارد بعد قيام الوحدة كمحصلة للصراع بين الائتلاف الحاكم والنزعات الإقليمية المناهضة للوحدة اليمنية. فقد تضاعف سكان اليمن خلال الفترة 1990-2020 بمقدار مرتين ونصف وبمتوسط معدل سنوي قدره 4.5% وعلى الطرف المقابل تضاعف الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 2.4 مرة بمتوسط معدل سنوي لا يتجاوز 4.4% سنويا. وارتفع معدل البطالة من 9% تقريبا من قوة العمل عام 1992 إلى أكثر من 60% في الوقت الحاضر وخاصة بين الفئات الشابة. كما أن سوء عدالة توزيع تلك الموارد الاقتصادية المتناقصة بين فئات المجتمع واحتكار الجزء الأكبر منها من قبل الفئات الحاكمة والغنية لم يوسع تلك الفجوة فحسب، بل جعل منها ثقبا أسودا تبتلع الاستقرار والسلم الاجتماعي في اليمن.
كان مالتوس قد طرح قاعدتين في مواجهة معضلة سكانية مخيفة تتجاوز فيها الأفواه ملاعق الطعام بحسب تعبير بوشهلز. الأولى أطلق عليها قواعد الضبط الإيجابي والثانية قواعد الضبط الوقائي وكلاهما قاعدتان تكبحان جموح نمو السكان الذي يتخطى نمو الموارد الاقتصادية. تتكون قواعد الضبط الإيجابي من موانع تلقائية تولدها بدرجة أساسية قوى الطبيعة ورذائل البشر من شأنها زيادة معدل الوفيات. فالحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض هي أمضى أسلحة الطبيعة ورذائل أنظمة الحكم الفاسدة "لتحرير الأرض من فائض السكان". أما قواعد الضبط الوقائي فتتمثل في تلك الكوابح العقلانية التي من شأنها تخفيض معدل المواليد عبر تأخير سن الزواج ورفع مستوى معيشة السكان وتعليمهم وتثقيفهم وتوسيع نطاق ونوعية مشاركتهم المهنية والوظيفية، وتصميم برامج لتخطيط الأسرة.
خلال العقود السبعة الأخيرة ارتفع معدل الكثافة السكانية الخام بمعدل سبعة أضعاف من 7.8 فرد لكل كيلو متر مربع عام 1950 إلى 55 فردا لكل كيلومتر مربع عام 2020. بمعنى أنه غدى هناك سبعة أفراد أكثر يتشاركون نفس تلك المساحة التي كان عليها إباءنا قبل سبعة عقود. ويظل هذا المؤشر على أهميته مظللا لأنه يخفي الخلل الكبير في التوزيع الديموغرافي للسكان والضغوط المتباينة على نظم وبيئة الحياة في المناطق المختلفة وشدة التنافس فيها على الموارد. ففي محافظات معينة كأب وتعز على سبيل المثال تصل معدل الكثافة الخام إلى أكثر من 250 فردا لكل كيلومتر بينما تقل في محافظات أخرى كالمهرة وحضرموت وشبوه عن 10 أفراد لكل كيلومتر. وتبلغ ذروتها في أمانة العاصمة صنعاء بحيث تصل إلى أكثر من 7000 فرد لكل كيلومتر مربع.
بالرغم من دلالة هذه المؤشر فانه ليس معيارا كافيا على توفر أو عدم توفر موارد الأرض الصالحة للحياة وإلا لكانت فرنسا التي تعادل مساحتها مساحة اليمن وكثافتها السكانية أكبر بحوالي 2.7 مرة في وضع أسوء من اليمن. إما إذا علمنا أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في اليمن لا تتعدى وفق نظم الإنتاج الراهنة 3% مقابل 33% في فرنسا لفككنا سر التناسب المختل بين السكان والموارد في اليمن. إن الكثافة السكانية على الأرض الزراعية في اليمن تزيد بثمانية أضعاف تقريبا عن فرنسا.
معامل الإنتاجية يعمّق هذا التناسب المختل والذي هو في فرنسا أعلى ب 109 مرة عن إنتاجية الفلاح اليمني فتتكشف لنا حجم الضغوط الديموغرافية في اليمن في ظل قوى إنتاج وعلاقات إنتاج متخلفة. زادت الكثافة السكانية على الأرض الزراعية في اليمن في الوقت الراهن بحوالي 50 ضعفا عن مستواها عام 1950كمحصلة للنمو السكاني المرتفع في اليمن. كما أن نظام ملكية الأرض يفاقم هذا الواقع الحرج. فحوالي 49% من الأراضي المزروعة يستأثر بملكيتها 1% من الملاك الزراعيين فيما لا يتعدى نصيب 52% من إجمالي الحائزين الزراعيين سوى 8% من الأراضي الزراعية.
إذا أضفنا إلى هذا المشهد مشكلة أزمة المياه في اليمن والتي يجعل منه واحدا من أكثر أربع دول في العالم من حيث شدة الحرج المائي لأدركنا حجم الضغوط الديموغرافية الهائلة والفتاكة على بيئة ونظم الحياة في اليمن وأن الصراع الشديد بين السكان على الموارد يشكل أحد أهم مصادر الحروب وعدم الاستقرار. أن اليمن تبعد 75 مرة عن متوسط خط الفقر المائي العالمي. ولتقريب الصورة حول فداحة هذه المشكلة سنفترض أنه إذا كان نصيب المتوسط العالمي للفرد من المياه يعادل قنّينة ماء عبوة لتر واحد فان متوسط نصيب الفرد اليمني في الوقت الراهن يعادل ملعقتين ونصف ملعقة شاي صغيرة وهذه المعادلة ستزداد سواء في ظل الصراع واستمرار الحرب وغياب نظام حكم رشيد.
كافة المؤشرات والحقائق في الوقت الراهن تشير إلى أن العلاقة بين الموارد والسكان قد أختلت على نحو يهدد نظم الحياة الاجتماعية والبيئية في اليمن بالهلاك. أحد تلك المؤشرات البارزة هو الاجهاد الديموغرافي الذي أنتجه التحول السريع من المرحلة الأولى للانتقال الديموغرافي الى المرحلة الثانية بحيث أختل التناسب بين الفئة المعالة من صغار السن والعجزة مع من هم في سن العمل ويعملون فعلا بما يخلّف مشكلات اقتصادية واجتماعية عنيفة. فمعدل الاعالة الاقتصادية يفوق اليوم في اليمن نسبة 700% تقريبا إذا أخذنا في الاعتبار انهيار معظم الأنشطة الاقتصادية بفعل الحرب وتوقف الرواتب لنحو 1.2 مليون موظف في القطاعات المدنية والعسكرية مقارنة ب 200% للمتوسط العالمي. أي أن كل شخص نشط اقتصاديا يعيل سبعة أفراد بخلاف نفسه مقارنة بفردين في المتوسط على المستوى العالمي.
يتمظهر الإجهاد الديموغرافي وتردي الخصائص الديموغرافية في اتساع رقعة الفقر وحدته وارتفاع معدلاته بين السكان. لقد ارتفع عدد الفقراء من 2.6 مليون نسمة عام 1992 إلى 6.9 مليون نسمة عام 1998 ثم إلى 12.2 نسمة عام 2014 ليصل بحلول 2020 إلى 24 مليون إنسان، أي أن معدل الفقر ارتفع من 19 % إلى 42% ثم إلى 47% ليبلغ 80% من إجمالي السكان على التوالي. لا شك أن المنحنى التصاعدي لمؤشرات الفقر يكشف عن ديناميكية للصراع والدمار الاجتماعي تتراكم وتتفاقم باضطراد في أحضان أنظمة حكم متسلطة جائرة وجغرافيا إقليمية معادية للحرية والديموقراطية والسلام، للاستقرار والتنمية الإنسانية. ومن سوء حظ اليمن أن مصيدة الجغرافيا تؤازر بخبث ومكر وضغينة المصيدةَ الديموغرافيةَ فتتعاظم معضلات اليمن ومآسيها وتتوالد، فأنتجت بلدا محطما ومأساة إنسانية لا مثيل لها في هذا القرن.
الآثار الوحشية لهذه المأساة أكثر وأسرع ما تتجسد في وفيات الأطفال والرضع منهم على وجه الخصوص. فاليوم يموت طفل كل عشر دقائق من الفقر والجوع وانتشار الامراض والأوبئة. وقد ضاعفت الحرب الدائرة اليوم في اليمن من أهوال الكوارث التي تحيط باليمن وتغذي بوحشية وعنف ماكينة المصيدة الديموغرافية بحيث تجعل الفكاك منها امرا عسيرا. وتشير بعض التقارير والدراسات أنه أذا استمرت الحرب عقداً آخر فان 78% من اليمنيين سيغرقون في فقر مدقع و95% منهم سيقاسون سوء التغذية الحاد و84% من الأطفال سيعانون من التقزّم ، أي أنها بعبارة مختصرة حرب إبادة لشعب كامل.
لقد ضاعفت سنوات الحرب الستة الماضية من أعداد الفقراء وسيتطلّب من اليمن في ظل السلام إذا ما توقّفت الحرب اليوم، 34 عاما من العمل التنموي الشاق والدؤوب لخفض عددهم الى النصف أي إلى مستوى ما قبل الحرب عام 2014م. كما أعاقت هذه الحرب التنمية البشرية في اليمن لنحو ربع قرن قادم وإن استمرارها لأعوام أخرى هو بمثابة حكم جائر بالإعدام على شعب بأكمله يتم تنفيذه بتظافر المصيدة الديموغرافية مع المصيدة الجغرافية جنبا إلى عوامل أخرى. هذه الحقائق والمعطيات الصادمة والمخيفة والحاجة الماسة والملحة لقلب هذا المسار الديموغرافي قبل فوات الأوان ينبغي أن توقظ اليمنيين قبل غيرهم من حالة الغفوة والسبات الذي يغِطُّون فيه بحيث لا تجعلهم يغفلون عن التحولات العظيمة للحياة التي وهبتهم ثورتي 26 من سبتمبر 1962 و14 أكتوبر من عام 1963 ووحدتهم في 22 مايو 1990 وأن يوقفوا وعلى الفور هذه الحرب المدمرة ويشرعوا في بناء السلام ليجعلوا من عام 2021 عام السلام والوئام والمصالحة المجتمعية الشاملة. كما أن على عاتق المجتمع الدولي تقع مسؤولية قانونية وإنسانية وأخلاقية في سرعة التحرك الجاد لوقف حرب الإبادة هذه على شعب يتطلع للحياة كسائر شعوب الأرض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.