للكاتب العملاق (أمير البيان) مصطفى صادق الرافعي. من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة ويدقق كل التدقيق في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة، فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث، فهما طريقتان كما تري مبصرة وعمياء وخاصة وعامة وعلي نظام وعلي فجأة. ومتي تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي علي المادة، فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول «أعطني» ثم لا يسمع منه طلبا من الرجاء، بل طلبا من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه كما يواسي المبتلي من كان في مثل بلائه. أي معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يخفف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوما من كل سنة، ليحل في محله تاريخ النفس؟ وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهرا كاملا من كل اثني عشر شهرا، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفس كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة لإحداث الترميم العصبي في الجسم. ولعل ذلك آت من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالا إلي أن يدخل في المحاق إذ تنتفخ العروق وتربو في النصف الأول من الشهر كأنها في «مد» من نور القمر ما دام هذا النور إلي زيادة ثم يراجعها الجزر في النصف الثاني حتي كأن للدم إضاءة وظلاما وإذا ثبت أن للقمر أثرا في الأمراض العصبية، وفي مد الدم وجزره فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهرا قمريا دون غيره وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معني دقيق آخر وهو مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها إثبات الإرادة وإعلانها كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر. نشر المقال في 3 رمضان 1379 ه أول مارس 1960 م في مجلة الهلال