كنت قد كتبت في الأسبوع الماضي عن توزيع فائض القوة، وتحدثت عن العلاقة بين البدائية والقبيلة، وتلقيت اتصالات كثيرة ما بين مؤيدة للموضوع، وبين محتجة على إقحام الإخوان المسلمين والسلفية الوهابية ضمن الجماعات المغلقة.. وأنا أحترم كل الآراء التي قيلت، وأتمنى على أصحابها لو يحولونها إلى كلام مكتوب يوسع من دائرة النقاش ويؤصل فكرة الحوار، لكنني أعتقد بأن الجميع يتفق معي بأن ثقافة القبيلة وليست القبيلة قد جعلت البلاد تفتقر للحضارة والمدنية وللثقافة المتطورة بدليل أننا لا نمتلك تجربة ناجحة باتجاه توفر الأمن والاستقرار، وتجسد قيم العدالة والحرية والقانون، فالثقافة السائدة اليوم تمتلك خصوصية التجربة اليمنية، حيث إن نظام المشيخ في اليمن ليس كمثله في الخليج الذي يتمتع بنظام مشابه له؛ إلا أنه في الخليج يخضع للدولة، بينما في اليمن يبرر بقاء السياسات التقليدية، ويضفي شرعية جديدة على تمدد هذه الثقافة حتى في المناطق التي قطعت شوطاً في التمدن. إن ثقافة القبيلة تتميز بالإرث السلبي الذي يمنع وجود قاعدة من التفاهم أو التحرك نحو بناء إرادة وطنية. أما ما يتعلق بحركة الإخوان المسلمين؛ فهي مثلها مثل أية جماعة مغلقة أخرى، وعلينا أن نميز هنا بين الانغلاق كواقع مادي يعكس، أو بمعنى أصح، يقف ضد التنوع والاختلاف والانغلاق كمفهوم أيديولوجي سياسي. وبالتأكيد يوجد داخل أية جماعة مجموعة متميزة، حيث لا توجد جماعات صافية لا تمايز بين أفرادها، ونحن لم نجرؤ بعد على فتح باب النقاش حول الانغلاق أو التنوع داخل المجتمع اليمني. وبصريح العبارة؛ فالثقافة السائدة قد حولت الشعب اليمني إلى مجتمع مفتقر للاتساق من خلال خلق الجماعات المتناقضة وكذلك التواريخ المتناقضة ووضع مراتب متميزة تعظم من قدرة البعض وتقلل من قدرة البعض الآخر، كل ذلك أوجد حركة النزاع والتنافس على السلطة وحب السيطرة، وفيما وراء ذلك النزاع على الاعتراف. فالقبيلة لا تنظر إلى الأفراد كمواطنين مستقلين وأحرار، وإنما بوصفهم جماعات عصبية ومغلقة، تنفي الفردية وتهمشها عن طريق تمسكها بتقاليدها وقراباتها، كل ذلك يجعلها بعيدة عن مجرى التحضر الإنساني العام. ومن هذا المنطلق فإن الصراع القائم اليوم إنما هو من أجل تعزيز فرص النخب بهدف الوصول إلى السلطة أو السيطرة عليها. وفي كل الحالات فإن القبيلة تظهر هنا كفرضية تفسر انفجار المجتمع كما هو حاصل اليوم في بعض المناطق . فنحن بحاجة إلى معرفة ما الذي جعل هذه الجماعات تشكل فيما بينها وحدة سياسية في فترة قيام الوحدة، ثم ما الذي دفعها إلى النزاع والاقتتال في السياق العام، والمناداة من قبل البعض بالانفصال، هل الدولة الحديثة يشكل سبباً رئيسياً في ذلك؟!. بالتأكيد نعم، فالدولة الحديثة تقوم على أساس الوعد بالحرية والعدالة والمساواة، وتحث على خلق اندماج في حضارة العصر، وهنا تتراجع المشاعر الطائفية والعشائرية التقليدية. وقد بدا واضحاً كيف أن الطائفية ولدت أزمة طاحنة في صعدة كادت أن تمتد إلى مناطق أخرى، والخوف كل الخوف أن تتحول الطائفية من ظاهرة تاريخية اجتماعية متحولة إلى لعنة أبدية وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يحتويها، بل أصبح الخوف من إثارتها عقبة أمام تطور المناقشة السياسية نفسها، فهي فتنة نائمة - كما يقول برهان غليون - لا سيطرة لنا عليها، والحديث عنها بأي شكل جاد لا يمكن أن يكون إلا إيقاظاً ملعوناً لها وإطلاقاً لبراكينها الكامنة. ولهذا السبب قر السلوك الحزبي في بلادنا على نوع من الانفصام في السلوك السياسي، وهكذا وجدنا أحزاباًَ سياسية لم تكف عن إدانة الطائفية والمناطقية لكنها اليوم انصاعت لقانونها والاندفاع وراتها ، بدلاً من بناء مفهوم المواطنة والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط المحاسبة القانونية . كل ذلك ولّد نزعة وطنية صماء تتصادم مع مفهوم العصبية على حساب الشخصية السياسية الحقيقية. أما الحديث عن جماعة الإخوان فأنا أقول إن هذه الحركة المفتوحة تحولت تحت وطأة القهر والاضطهاد إلى عصبية مغلقة ومنكمشة تعيد انتاج نفسها من خلال عدائها للجماعات الأخرى. فالإخوان المسلمون تحولت إلى طائفة تنمّي عند أفرادها غطاء من التفكير وردود الأفعال والحساسيات الخاصة التي تميزها عن الحركات الأخرى، من هنا نعتقد أن الولاءات الطائفية والعشائرية تعبّر عن انهيار التضامن الوطني الذي يجمع الأفراد على صعيد الدولة.. وللحديث بقية.