عندما حاول السلطان محمود الثاني التخلص من الانكشارية عام 1808م قلبوا قدورهم وهجموا على السرايا الحكومية وقتلوا الصدر الأعظم وأشعلوا العاصمة ناراً فأذعن لطلباتهم حتى جاءت نهايتهم عام 1826م فحصدهم بالمدفعية على يد (قره جهنم) أي جهنم السوداء?ومن قبل تكررت القصة بين أبي مسلم الخراساني وأبي جعفر المنصور, وفي المقابلة الأخيرة بينهما تضرع إليه الخراساني أن يبقيه لأعداء أبي جعفر, قال: ويلك وهل عدو أخطر منك? وهذه القصة تكررت في سيناريوهات عدة في العصر الحديث, فكل حصان قابل للترويض إلا الحصان العسكري فإنه يجمح براكبه فيدق عنقه. هكذا جاءت أخبار الانقلابات ووقائع التاريخ. وهذا المرض أصيب به كل فصائل المنطقة من قوميين وإسلاميين; فأما فريق القوميين فقد التهم بعضهم بعضاً مثل العناكب عندما أصبحت السلطة والسلاح في أيديهم, وأما حسن البنا مؤسس (الإخوان المسلمين) فقد قضى نحبه عندما انفجر به لغم (التنظيم الخاص) الذي صنعه على عينه, فلم يكن مصرعه سوى رد فعل عاد على مقتل النقراشي و (يداك أوكتا وفوك نفخ). وعندما فشل هتلر في انقلابه عام 1923 م وأودع السجن انكب على تأليف كتابه الشهير (كفاحي KAMPF MEIN) وفيه وصل إلى قناعة كاملة أن الوصول إلى السلطة في ألمانيا يجب أن يكون بالطريق الديموقراطي, وهكذا جاء هتلر إلى السلطة عام 1933, وعندما سقطت في يده تفاحة السلطة الناضجة أقسم له الجيش البروسي ذو التقاليد العريقة على الولاء, ولكن (روهم RUHEM) قائد المليشيات العسكرية لم يستوعب هذه الحقيقة, ولما تمرد قام هتلر بتصفيته بيده. وفي كتاب (القوة) لروبرت غرين يضع 48 قاعدة في لعبة السلطة وأول قاعدة تقول: لا تلمع أكثر من سيدك. ويشرح القانون أن (اجعل أولئك الذين فوقك يشعرون دائماً بتفوقهم بشكل مريح. وفي رغبتك لإرضائهم وإثارة إعجابهم لا تذهب أبعد من اللازم في إظهار مواهبك, وإلا فقد تخلق العكس, أي تثير الخوف وانعدام الأمن اجعل سادتك يظهرون ألمع مما هم, وستصل إلى قمم السلطة). ومن أطرف القصص التي رُويت عن وزير مالية فرنسي (نيقولا فوكيه) الذي طمح إلى منصب رئيس الوزراء بعد اختفاء (جول مازاران) عام 1661م, فدعا الملك (لويس الرابع عشر) ملك الشمس إلى حفلة ملوكية في قصره الذي افتتحه لأول مرة ونام فوكيه تلك الليلة على الأحلام الوردية أن المنصب صار قاب قوسين أو أدنى.. ثم تدلى. ولكن في الصباح اقتحم منزله جنود الحرس الإمبراطوري فاعتقلوه فلم ينعم بالنوم في قصره المنيف إلا تلك الليلة الوحيدة, وقضى بقية عمره في زنزانة موحشة في سجن بعيد في جبال البيرنيه حتى وافاه الأجل. وقصة الرشيد والبرامكة من قبل فيها عظة وعبرة ويكتب عنها ابن خلدون في المقدمة مُكتشفا نفس القانون النفسي. فيقول: ‘'وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة, حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه في سلطانه, فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمّروا مراتب الدولة بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم. وانصرفت نحوهم الوجوه وخضعت لهم الرقاب وقصرت عليهم الآمال وتسربت إلى أموال الجباية واستولوا على القرى والضياع من الضواحي والأمصار حتى أسفوا البطانة واحقدوا الخاصة ودبت إلى مهادهم الوثيرة عقارب السعاية حتى ثل عرشهم وألقيت عليهم سماؤهم وخسفت الأرض بهم وبدارهم وذهبت سلفاً ومثلا للآخرين).