وثالثة التهاني ثابتة المعاني .. أنتهز الأيام الأولى لعامنا الجديد لأبث شجناً قديماً ولأنتصر لمطالب النفس اللوامة التي طالما ذكًّرت وعاتبت واشتكت من أخطر المفارقات العدمية في سلوكنا وعلاقاتنا مع بعضنا. لقد تضخمت في وجداننا اللاقطات المستقبلة لإشارات الخاصة بكل ما هو سيّئ من ممارساتنا ، وبكل ما هو سلبي من علاقاتنا ، وبكل ما هو محزن من أحداث حياتنا ، وبكل ما هو تشاؤمي من توقعاتنا .. حتى توغلت هذه القواتم في أنفسنا وتهوّلت في أذهاننا وتركتنا في غفلة متعامية عن التقاط ما هو جميل وإيجابي ، وأورثتنا خليطاً من العدامة والحسد والتشكك القهري حتى أمسينا ليس فقط شديدي التثاقل في إنصاف الناس والإشادة بما هو حسن من جهدهم أو رائع من مآثرهم ، بل أصبحنا سريعي الغارة في ممارسة وسائل النقد التهجمي وأساليب القدح والتجريح ، ( لا أعترض بل أؤمن بأهمية تجريد ألسنتنا لسلخ مظاهر السوء وشحذ أقلامنا لغرسها في عيون الفساد لكن بروح المسئولية والنقد البناء). أزعم أنني عفوي سليم النية في مبادرتي للإشادة بكفاءة وجماليات “الجمهورية” .. فإذا فشلت في إيصال هذا الانطباع إلى القراء الأفاضل وإلى “آل الجمهورية” الأعزاء فذلك فشل مني في انتقاء تعابير اللغة المناسبة .. أو قد يكون مرده عند البعض إلى المفارقة المشار إليها آنفا. نعم .. “الجمهورية” متألقة متفوّقة بجمال صادر من ذاتها تمازج في وجداني مع هوى سابق وذكريات قديمة .. عرفتها وتعاملت معها وكتبت سطوراً فيها منذ كانت حروفها تصاغ من الرصاص وتجمع يدوياً من قبل فريق من العاملين الذين يحسبهم الغبي موظفين عاديين قبل أن يكتشف أنهم وطنيون كبار ومثقفون معتّقون وحزبيون مهِّمون .. لم تتعثر جهودهم بضعف الإمكانات وضآلة المرتبات وجحود الخلق .. ثم هم موظفون مثابرون منهم من طوتهم الأيام ومنهم لا يزال. ثم أنني أزعم أن لدي خبرة إلى حد ما في العمل الصحفي يسمح لي بفهم ثقل المسئولية وحجم الجهود الهائلة ومقدار الإمكانات البشرية والمادية والدقة والتعقيد الشديد في مسارات العمل الإدارية والفنية .. إلخ .. أزعم أنني حين أرى صحيفة ما أستطيع تلمس الكثير من ملامح جودتها وحرفيتها ومن وراء ذلك مقدار الجهد المضني الذي بذل في إنتاجها وإخراجها وإيصالها إلى أيادي الجمهور صحيفة .. وكلامي هذا حول صحيفة أسبوعية محدودة الصفحات أما الحديث عن صحيفة يومية متواصلة الصدور منذ 20 أكتوبر 1962م فالأمر لا تسعه عبارات الشكر والإشادة. تكفي هذه المقدمات لتعيدني إلى ما بدأت في اليومين الماضيين .. لا زلت أتملى اللطائف المبثوثة في الصفحات الداخلية .. كل الإشارات والتناولات التي أشرت إليها بالأمس لا أكتفي بقراءتها بل كلفت نفسي منذ أكثر من عام أن أؤشر بالقلم حول عناوينها بدوائر وأقوم يومياً بحفظها بغرض التوثيق (ونفس الحال مع صحف أخرى) ، بل أوثِّق كل ما أراه مهماً من العناوين والتناولات المتصلة بما تزخر به هذه الصحيفة الرائعة من شئون التعليم العالي والتعليم الفني وشئون البيئة وقضايا المرأة وقضايا الأدب واللغة ، وكذا الدرر التي ينقلها لنا الأخ سليم الكهالي وزملاؤه الأعزاء من صناع الحياة من بطون كتب الإدارة والتنمية الفكرية الحديثة. لا أضع ما تبقى من الصحيفة قبل إمتاع القلب بلطائف العالم العَلَم خالص جلبي وما أدراك من هو خالص جلبي في فكري ووجداني. وأنتقل إلى ملاحق “الجمهورية” .. لقد أتحفتنا صحيفتي المفضلة على مدار العام المنصرم اسبوعيا وفي مختلف المناسبات الوطنية والدينية بمنظومة واسعة من الملاحق الرائعة جدا جدا .. تصلح لمن يوثقها كمراجع فكرية وثقافية وسجل حافل بأهم القضايا والشئون الحيوية المتصلة بمجتمعنا وبلدنا .. وسيقول قائل يا أستاذ: الصحف الحكومية الكبرى كلها تصدر مثل هذه الملاحق والتوابع .. وهذا صحيح وهو فضل عظيم تشارك فيه صحيفتي المقربة مع شقيقاتها الكبار .. لكن .. لكن .. لا أحد غير “جمهوريتي” اليوسفية تقدم لك مكتبة ثقافية عظيمة من روائع ما أنتجه الفكر اليماني والعامي .. لا صحيفة غير “الجمهورية” تبادر إلى ترميم مكتبتك وتعيد تغذيتها بثلاثين كتاباً من أروع وأندر وأهم الكتب .. أنا مندهش وجذلان أيها اليوسفي .. لطالما تمنيتُ أن يهديني أحد فصوص الحكم ، وعيون الحكمة ،وقصص عالمية ،والعقد الاجتماعي ، والمثال الأسمى و”من هو اليهودي” ، والإسلام والمسيحية ،والحلاج ،والبدائع والطرائف والمهرجان ، ومأساة واق الواق و”كنت طبيبة في اليمن” ، و”اليمن عبر التاريخ” ،ونحن نقيم صرح الروح و.. و.. و.. إلى آخر الكنوز المعرفية التي أهداها لنا الفتى سمير اليوسفي .. عظيم الشكر لك وفائق الامتنان على هداياك الغالية الكثيرة ، وخصوصاً هذه النفائس التي اخترتها لنا كخدمة أكثر من مجّانية لتعزز بها مكتباتنا الفقيرة نحن الذين ندعي أنفسنا من المثقفين النخب .. لقد وصلت رسالتك البليغة .. إن الكتب الثلاثين وما سبقها ولحقها من إصدارات مؤسسة “الجمهورية” من لا توجد في مكتبته عليه أن يخجل من ادّعاء أنه مثقف .. يا أيها المثقفون واصلوا حواركم وجدلكم حول تعريف من هو المثقف .. أما اليوسفي فقد حسم هذا الأمر عملياً ورسالةً وتطبيقاً .. كل من يدّعي أنه مثقّف فعليه فقط أن يثبت لنا أنه قد قرأ كتاب “الجمهورية” .. ولا بأس بمساءلته إن كان فد تابع ما نشرته “الجمهورية” من سير أعلام اليمن ومن مذكرات وذكريات المفكرين اليمنيين كالأستاذ النعمان على سبيل المثال. ختاماً أقول: لا شك أن جميع الكتاب والمحررين وجميع العاملين في مؤسسة “الجمهورية” شركاء في صنع هذا التألق المميز ل”الجمهورية” .. لكن هذه الرؤية الفكرية المسئولة التي تقود وتنسق أداء هذه السمفونية الجميلة هي أيضا ذات ملكة رائعة في العزف اليوسفي المنفرد. لن تنتهي الشجون لكنني أنهي هذا البث العارض المتعجل على أمل أن يظل التواصل مع “الجمهورية” مستمراً والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.