أين مكان العبقرية, أين مكان الجنون, أين مكان التفكير, كيف تتشكل الأفكار, كيف تتجلى العبقرية, كيف تترابط الجمل وتتفاعل الكلمات والمفاهيم؟. كلها أسرار، فالدماغ مازال القارة المجهولة التي لم تكتشف بعد، كما أن دماغ آينشتاين الذي أعيد فحصه مرات بعد موته، لم يكشف عن شيء غير طبيعي. لقد اخترق الإنسان جغرافية الأرض فلم يترك جزيرة إلا وسماها، ولا محيطاً إلا وأعطاه لقبه، ولا عمقاً إلا وسبره، ولا سطحاً إلا ومشى عليه، حتى القمر رسا عليه، والكواكب القريبة بعث إليها بالأقمار الصناعية، واسترق السمع, وحدق بالنظر في ملكوت السموات بواسطة الأشعة السينية والراديوية وتحت الحمراء، إلا مكاناً واحداً استعصى عليه، وناصبه التحدي، وكابر أن يفك له رموزه وأسراره، ذلك هو الدماغ. وما كان أعقد منه وأشد على الاستعصاء، وأكثر في المراوغة والتملص والإفلات من قبضة التكنولوجيا والعلم الحديث، هو عالم النفس الذي يخطون فيه خطوات متعثرة، وببطء كبير منذ فترة قصيرة وبتطور محدود. ذلك العالم الذي هو كيان لكل منا، وقطعة من تشكلنا، وحظ من وجودنا، حديثه العذب يناجينا كل لحظة، وهمساته تبث إلينا مع كل نفس وإفراز هورمون. هذه المنظومة الداخلية التي تميزنا كبشر وترفعنا كبني آدم هي النفس المختبئة في أحشائنا، تمشي مع تدفق الدم ومرور السيالة العصبية. هذا الميل العجيب للصعود والهبوط، الإفساد والإصلاح، لا يمكن معرفته بجهاز الضغط، ولا مقياس تحليل سكر الدم، لا بجهاز ريختر للزلازل، ولا بتخطيط القلب الكهربائي، لا بجهاز دوبلر للسيالة الدموية، ولا بجهاز الصدى الصوتي (السونار). كل ما يعرف منه وعنه هو ما يصدر عنه من سلوك فقط، لذا لا غرابة في نشوء مدرسة كاملة في عالم النفس تسمّي نفسها (مدرسة علم النفس السلوكي) لذا حار الكل وتجادلوا في فهم هذا العالم، الظاهر الباطن، الطافي والمستتر. لقد كانت النفس مثل أبو الهول فأعيت الأطباء والفلاسفة والمفكرين والعلماء، هذا الصامت الناطق، الجامد المتحرك، والواعي غير الواعي. ولكن اتفقوا أن أعظم شيء في هذا الوجود هو وجود الإنسان الذي يجمع كل الجدل فيه (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً). إن هذه النفس التي تعصف فيها تيارات الخوف، زوابع الغضب، أعاصير العنف، زمجرة الحقد، رياح الشهوة، كما يمر فيها نسيم الخير، وتبزغ فيها شمس الأمل، وتنبت فيها زهور الحب، وتتضوع بعبير التفاؤل وعطر البر والإحسان. إن هذه النفس هي اختزال العالم، وشفرته المصغرة، ونسخته المضغوطة، في كيان صغير هش ضعيف، مع هذا فهو قوي في ضعفه، عظيم في هشاشته، جميل في دقته ورشاقته. (أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين).