في الحلقات السابقة تم التركيز على محورين اساسين هما المحور الاجتماعي و المحور الاقتصادي. و قد اتضح ان هذين المحورين اساسان للحياة البشرية. فالواقع و التطورات التي حدثت في التاريخ البشري قد اكدت ذلك. و كذلك فإن التدبر في آيات القران قد اثبت ذلك. و العصر الحديث هناك من يساوي بين هذين المحورين في الاهمية و محاور اخرى و لعل من اهمها المحور السياسي. و بالرجوع الى القرآن فإننا نجد أنه لم يتعرض لهذا المحور إلا من خلال الاشارات سواء الضمنية او غير المضنية. و قد فهم لي ان القرآن لا يعطي للمحور السياسي نفس الاهمية التي اعطاها لكل من المحورين السابقين. و قد حاول البعض ان يطعن بالإسلام من خلال الادعاء بأنه قد تجاهل ذلك. و البعض الآخر قد حاول ان يدافع عن القرآن من خلال لي آيات القرآن ليظهر انه لم يتجاهل ذلك و لكنه ترتب على ذلك الاخلال بمبدأ القران و غايته و رسالته. و من خلال الاستعراض لبعض المؤشرات التاريخية فسيتضح لنا ان التاريخ يتفق مع القرآن. فالعلاقات السياسية و الانظمة السياسية و المؤسسات السياسية لم توجد في بداية التاريخ البشري و انما وجدت في مراحل متأخرة مما يدل على انها لم تكن اساسية للحياة البشرية مثل العلاقات الاجتماعية و العلاقات الاقتصادية. هذا من ناحية و من ناحية اخرى فإن بعض البشر و بعض المجتمعات قد عاشت في ظل غياب المؤسسات السياسية او بعضها لم يحدث اي انهيار كبير لها. فمن المشاهد ان بعض المجتمعات يحصل فيها فراغ سياسي و تستمر الحياة فيها في عصرنا الحاضر. إن ذلك لا ينبغي ان يفهم ان العلاقات السياسية والمؤسسات السياسية ليست بدون فائدة وإلا لما كان هناك اي مبرر لاستمرارها. إنها بطبيعة الحال مفيدة ولكنها ليس بنفس فوائد المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية. وعلى هذا الاساس فإنه في حال تعارض المؤسستين الاولويتين اي الاجتماعية و الاقتصادية فإنه ينبغي ان يكون الأولوية للأولويتين و ليس للأخيرة. لكن في الواقع ما يحدث هو العكس. و من اجل توضيح ذلك فإنه لا بد من توضيح بعض المفاهيم حتى يكون نقاشنا لهذه المحور اكثر وضوحا. فلفظ "سياسية" في الفكر الغربي اشتق و تطور من لفظ اغريقي كان يعني ادارة المدينة. و كما اوضحنا ان المدن في الغالب بدأت ونشات كأسواق قبل ان يكون مسموحا فيها ان تكون مقرا للسكن. ولا شك ان ذلك يدل على أن العلاقات الاقتصادية كانت اقدم من العلاقات السياسية. وكذلك فإن الوظائف السياسية كانت في الاساس وظائف استلت من الوظائف الاقتصادية و الوظائف الاجتماعية. و بالتالي فإنه لم يكن هناك وظائف سياسية متميزة عن غيرها مثل العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية. فالعلاقات الاجتماعية كانت تقوم على اساس التراحم والتكافل و ليس على اساس القوة او الاكراه. و كذلك فإن العلاقات الاقتصادية كانت تقوم على اساس التبادل من خلال التراضي. اما العلاقات السياسية فهي من حيث المبدأ تقوم على اساسين هما السلطة و القوة. فالسلطة بالمفهوم السياسي قائمة بذاتها وغير متربطة برضا من تستخدم السلطة عليهم. صحيح ان بعض المؤسسات الاجتماعية قد يكون فيها نوع من انواع السلطة و لكن هذه السلطة نابعة و مرتبطة بمن تمارس عليه و ليس بمن يمارسونها. و بالتالي فإنه من الممكن ان تتغير او تزول اذا كان من تمارس عليهم لا يقبلون بها حتى لو رفض ذلك من يمارسها. أما في السياسة فالسلطة لا تزول إلا بموافقة من يمارسونها او إجبارهم على التخلي عنها. أما السلطة في العلاقات الاقتصادية فهي تنشأ وتتحدد وتبدأ وتنتهي من خلال تراضي طرفي التبادل. وحتى العقود فإنها لا قيمة لها إلا إذا وافق عليها المعنيون بها. اذا فالسلطة تنشأ و تنتهي وفقا لما يتم الاتفاق عليه بين طرفي التبادل. ولا شك ان ذلك ليس موجودا في العلاقات السياسية على الاقل في بداية تكوينها. في العلاقات السياسية لا قيمة لأي سلطة او صلاحيات سياسية ما لم تكن مدعومة بالقوة المادية. و لا شك ان ذلك يختلف عن اي سلطة قد توجد في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. القوة المادية هي قوة الاكراه و الاجبار من خلال استخدام العنف. اما السلطة في العلاقات الاجتماعية لا تحتاج الى السلطة المادية و قد تستعين بأنواع اقل من القوة مثل قوة الاقناع و قوة التشجيع و قوة الايحاء. و لقد ترتب على اعطاء الشرعية للسياسيين في استخدام القوة اي العنف بدون قيود؛ تغول المؤسسات السياسية على المؤسسات الاجتماعية و المؤسسات الاقتصادية و حتى على المؤسسات الدينية. فقد فرض الملوك في الماضي و في الحاضر على الناس ان يعبدوهم او ان يعتبروهم وكالة او ممثلين على الإله. و قد ترتب على ذلك اجبار الناس على متابعتهم حتى لو لم يقتنعوا بذلك. و لا شك ان العلاقات الاجتماعية و مؤسساتها وكذلك المؤسسات الاقتصادية و حتى المؤسسة الدينة لم تنجح في فرض رؤاها على الناس لأنها لم تكن تملك القوة المادية. لقد ترتب على القبول بالمؤسسات السياسية في كثير من الاحيان السماح تغولها على كل المؤسسات الاخرى. و لذلك كانت تشير الى الطاغوت. فما تحقق الطاغوت بشكله البشع الا عندما دمج السياسيون بين العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية و الدينية. و لعل ابرز مثال على ذلك في التاريخ كان فرعون. ففرعون كان يملك كل مقومات الحياة و بالتالي فإنه لم يسمح لاحد غيره بأي تصرف ما لم يكن راضيا عليه. قال لئن اتخذت إلها غير لأجعلنك من المسجونين. صحيح انه قد حصل تطور في المفاهيم السياسية مع الزمن ومن توالي المرسلين من الله و من المصلحين لكن لم يتم بعد اصلاح السياسة بحيث تمنع من ممارسة الطاغوت حتى يومنا هذا. و في هذا الاطار فإنه لا بد من الاشادة بما حدث من تطور في الوظائف السياسية و الضمانات التي تمنع من العديد من تغول السياسيين و خصوصا في عصور التنوير. و قد تجلى ذلك في تحويل السياسية من الجانب الشخصي المرتبط بالملك او بأسرته الى الجانب المؤسسي اي الدلة. فالدولة في هذا المعنى تمثل المواطنين كلهم سواء المحكومون او الحاكمون. هذا من جانب و من جانب اخرى فقد تمت المساواة بين الجميع تحت مفهوم المواطن المتساوية. ووفقا لذلك فإن مفهوم السياسة اصبح يعني الكيفية التي يتعامل بها المواطنون مع مواطنين آخرين متساوين معهم في الحقوق و الواجبات بعض النظر عن كونهم حاكمين او محكومين اي التعامل مع الآخرين المتساوين. و قد تغيرت وظيفة الدولة تبعا لذلك تغيرا كبيرا. فأهم وظيفة للدولة اذن هي تقديم الحماية للمواطنين و ليس استخدام العنف ضدهم. صحيح ان دولة المدينة كانت قد مثلت نموذجا ارقى من هذا النموذج لكن لسوء الحظ فإن المسلمين قد تجاهلوا هذا النموذج. والدليل على ذلك أن المسلمين اليوم ينادون إما بالرجوع الى الملك او الى النموذج الغربي، و كأن القرآن لم يعطِ قواعد لتحقيق دولة العدل.