«1» يوماً إثر يوم وعاماً إثر عام وقرناً إثر قرن وكلمة الديمقراطية كلمة ونظاماً وحكماً وممارسة ومعنى تزداد استحواذاً وشداً وانجذاباً للشعوب.. ولا سيما تلك الشعوب والبلدان التي عانت من أنظمة الحكم المستبدة والدكتاتورية المقيتة، بالرغم من أن هذه الديمقراطية كانت قد وقعت في كبوة كبيرة عند نشأتها الأولى في “أثينا” عام 399 قبل الميلاد. فاببري أفلاطون آنذاك يندد بهذا النظام على اعتبار انه قد أدان استاذه “سقراط” بتلك المحاكمة الشهيرة التي تجرع بها السم إثر الحكم عليه، فأخذ أفلاطون على إثر ذلك الحادث المؤلم يعمل على تأسيس أي نظام بديل آخر، فكان عليه أن يؤسس أولى المدارس لتعليم الأجيال الأولى وتنمية الفكر والقيم والمبادئ الإنسانية وعلوم الأخلاق وفنون إدارة السياسة فأسس المدرسة الثانية وهي الأكاديمية الأفلاطونية. وأنطلق باحثاً عن مفهوم العدالة التي انتقصت من أعظم أساتذته وهو “سقراط”، وهكذا يتبين لنا أنه من خلال سقراط وفكره انطلقت الفلسفة الأولى في فضاء حرية الفكر وتحرره من القيود والضغوط الاجتماعية والدينية. إنها مدرسة سقراط الأولى التي أخذت مشوارها في مكان يتوسط المدنية “بوليس” يقول الأستاذ مجدي كامل في كتابه القيم سقراط : رحلة بحث عن الحقيقة يقول عن المكان والزمان: إن ذلك المكان كان يشكل ملتقى كل فئات شعب الاغريق، وأطلق على هذا المكان بالجمعية الوطنية الأولى في التاريخ فكافة السياسات انطلقت من ذلك المكان وكل الخطب والأحاديث والحوار عن غزوات البلاد ومن سيتقلد الحكم ومن سيفرض الضرائب، ومن سوف يعدم أو يعاقب كل هذه الأمور أوجدت في وسط هذه المدينة.. لذا فكلمة سياسة في اللغة الانجليزية Politlics يعود مصدرها إلى المدينة الاغريقية polis. ولأن المدنية تشكل في جوهرها ومظهرها طابع التمدن فإن السياسة لدى الإغريق لا تشابه سياسة الدول الحالية، وإنما تعني كل ما يخص المدينة أو الحياة المدنية. والسياسة لدى الإغريق لم تكن سياسة دولة لها أرض وشعب وسلطة، وإنما سياستهم انطلقت كسياسة أفراد أو مواطنين، المدنية هي هويتهم وهي أيضاً دستورهم. فالمدنية في ذلك الوقت كانت عبارة عن رابطة أفراد وليست دولة ذات حدود وأقاليم معينة ومخططة الحدود وأيضاً تسمية هذه الدولة لا تتطابق مع تحديد الأرض. فأثينا لم تكن أثينا الدولة كأرض أو مساحة وإنما تسمى على أفرادها مدينة “الأثينيين” لأن المدنية كما أسلفت القول هي عبارة عن رابطة أفراد وليست مساحة أرضية محددة وفي هذه المدينة كان الإغريق يفرقون بين الحياة العامة أي بين الحق العام والحياة الخاصة أي الحق الخاص. فعندما نعلم بأن الإغريق هم من ابتكر حق الاقتراع والترشيح وهم الذين أسسوا قوانين المساءلة وحق إلقاء الخطب السياسية وحق الشكوى ورفع الدعاوى فعند ذاك سنعلم أيضاً بأن كل فرد في مجتمعهم كان عضواً في الجمعية الوطنية، وكل فرد كان يمتلك الحق بأن يكون قاضياً في مجلس القضاة، فإن ذلك بلا شك إنجاز عظيم في فن إدارة الدولة. فالأغريق هم الذين اخترعوا السياسة، لأن حنكة التصرف وتسلم المسئولية وحرية الاختيار وقيمة الفرد هي من ابتكاراتهم. فالسياسة تعني لهم التصرف تجاه الآخرين والتحاور مع الآخر، وهذان الأمران يستوجبان الاكتشاف أولاً. ولأن الأغريق اتخذوا من فن الخطابة والتحاور نقطة انطلاق في مفهوم السياسة، فاستنتجوا بعد ذلك أن الخطاب والتحاور قد خلق مفهومين جديدين وهما: الظلم والعدالة. وأصبح هذان المفهومان هما القاعدة الأساس لتكوين السياسة بعد ما كانت السياسة معتمدة على المساواة بين البشر. لقد أصبح الآن للسياسة ميزان وهذا الميزان هو أيضاً من اكتشاف الأغريق..وخير الأمور السياسية يستوجب الحلول الوسطى أي تعادل كفتي الميزان.. ويعني ذلك للأغريق بأن عليهم التوازن بين الظلم والعدالة من خلال الحكمة أو العقلانية في فن التحاور واتخاذ القرار المناسب والصائب، والشعور بالمسئولية تجاه بعضهم البعض. وتؤخذ السياسة بمعايير معينة في التنافس الفكري، والارتقاء لأعلى منزلة امتيازية في التعليم، وفن الحوار والتعامل والتصرف الفردي. كل هذه الأمور تطبعت وتجذرت في واقع وحضارة المجتمع الأغريقي، وفي كتب وأساطير (هومروثوكيديدس). ففي أساطير هومر تتجسد حنكة تصرف الإنسان بأنه ليس لعبة كروية بين أيادي الآلهة لتستمر هذه الحنكة لترتقي إلى مصافي المسئولية في اتخاذ القرارات السياسية المناسبة في حقبة سولون لتستقر في اكتشاف المؤرخ (ثوكيديدس) لعقلانية التصرف. في القرن الخامس قبل الميلاد تطور فن الحوار إلى فن الإلقاء وفن الاقناع. وبهذا تقدم وتطور مفهوم السياسة إلى مفهوم التحاور وفن الإلقاء والإقناع، فالتحاور هو تبادل الآراء فالرأي قد يتحول إلى قناعة أما التحدث عن حقائق معينة فهو أمر غير مُجدٍ لأن الحقيقة هي تحصيل حاصل غير قابلة للتغيير. وبالرغم من أن المدينة كانت تشكل رباطاً دينياً بين كل أهاليها لم يكن هناك نظام ثيوقراطي في أثينا. وفوق كل ذلك يبقى الأغريق القدماء رياديين في فن التنافس من أجل الأحسن والأقوى والأفضل بين الطبقات الارستقراطية. وأصبح هذا التنافس من الفضائل التي يمتازون بها، والفضيلة تعني لديهم ما يستطيع كل إنسان فعله، وما يمتاز به الإنسان من المهارة. والأخيرة هذه أصبحت فيما بعد القياس الأساسي في تحديد قدرات الإنسان في الحضارات الغربية، ومع ذلك استطاع المجتمع الأغريقي أن يحافظ أو بالأحرى أن يتجانس ويتعايش مع التناقضات بين الطبقة الأرستقراطية والطبقة غير الأرستقراطية بين التنافس والتعايش، بين الإرادة للإنجاز والاحترام والالتزام بالمساواة وبين السعي لتكوين الشخصية، واحترام وتقييم الحياة الاجتماعية في المدينة. وقد نجح الإغريق من خلال ديمقراطيتهم أن يؤسسوا فيما بينهم منظومة حيوية اجتماعية وسياسية واقتصادية تصب في نهاية المطاف في المنفعة العامة، وفي نمو المدينة وتقدمها الحضاري والإنساني. والديمقراطية ولدت تدريجياً خلال صراعات سياسية وحربية حول موضوع المساواة، أي الحق للجميع بين القوي والضعيف، بين الارستقراطي والفقير، ثم ازدادت مطالب الفئات المعدمة لحقوق أكثر كما وصفها المؤرخ: (هيرودوت) فيقول: لقد أصبح الأثينيون أقوياء وحق حرية الكلمة أصبح أمراً مشروعاً للجميع وهو في كل الأحوال أمر ذو قيمة عالية ..جدير بالذكر أن مفردة الديمقراطية قد انبثقت لدى الإغريق عقب الحرب (البيلوبونية) حوالي عام :430ق.م. وتبين مدونات المؤرخ هيرودوت استخدامه لمفردة الديمقراطية بالعديد من كتاباته. مصدر آخر يبين تعامل الإغريق مع الديمقراطية في أحد أشعار (ثيبوس) في 13سطراً يطالب القائد: بريكلس بالمساواة وحرية الكلمة وحق المشورة وتدوين القوانين خطياً، ولا تتحرر الديمقراطية من خطة معينة أو من برنامج سياسي معين، بل إنها نشأت ديالكتيكياً وعن طريق الصدفة، كما فكر وخمن ونظر الفيلسوفان والمفكران: هيجل وكانط في كيفية نشوء التحضر والتقدم ديالكتيكياً. رابط المقال على الفيس بوك