لم تثر ثورة في التاريخ من الارتباك ما أثارته ثورات الربيع العربي. والارتباك شيء آخر مختلف تماماً عن الخلاف الذي تفجره كل ثورة بين مؤيدين ينشدون مصالح متوقعة ومناهضين يدفعون أضراراً محققة. يتساوى الأمر في حالتي الثورة والثورة المضادة. ففي الحالة الأولى تنال الثورة الرضى والدعم من القوى الاجتماعية الممثلة للأغلبية بسبب ما عانت من عدوان النظام القديم على حرياتها وحقوقها، في وقت تصدى للمقاومة القوى الاجتماعية التي استأثرت بالنفوذ والثروة في الماضي وتخشى من فقدانهما في النظام الجديد. وتتبادل القوى الاجتماعية المواقف في حالة الثورة المضادة فتؤيدها الأقلية الطامعة باستعادة نفوذها السابق. وتغضب الأغلبية وتبذل التضحية في سبيل العودة إلى مسار الثورة. ولا يقتصر هذا على الثورات التي رفعت لواء الاشتراكية أو سعت إلى قدر من العدل الاجتماعي، فقبل أكثر من نصف قرن على بزوغ الفكر الاشتراكي وتأصيله للصراع الطبقي قضت الثورة الفرنسية على امتيازات النبلاء الاقطاعيين لمصلحة البرجوازية الناشئة. حتى ثورات التحرر الوطني والقومي لقيت رفضاً ومقاومةً من أشخاص وقوى ترسخت مصالحها في ظل الوجود الاستعماري.. حدث هذا أثناء تصدي الفئات المستنيرة من كبار التجار والملاك الزراعيين للكفاح في البلدان المستعمرة، وتأكد،على نحو أشد، عندما حملت حركات التحرر الدعوة إلى الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية. وفي التاريخ كانت حرب قرطاجة ضد الامبراطورية الرومانية بقيادة “هانيبال” أول ثورة قومية، وكانت ثورة العبيد بزعامة سبارتاكوس أول ثورة طبقية. وعلى هذا الإرث الانساني زاوجت أغلب الثورات بين البعد الاجتماعي والاستقلال القومي، على أن الخلاف في المواقف يمتد من الداخل إلى الخارج وينقسم الناس في المواقف حيال الثورة تبعاً لما تحمله من رؤى ترضي البعض وتسخط غيرهم. لقد ألهمت الثورة الفرنسية شعوب أوروبا وأفزعت ملوكها فتداعوا إلى الحرب على فرنسا التي تمكنت رغم ذلك من بسط نفوذها على القارة بفضل عبقرية نابليون العسكرية لولا أن مبالغته في الطموح أورثته الهزائم والكوارث. واضطرت الثورة البلشفية في روسيا إلى خوض الحرب مع الجيوش الألمانية الغازية ومع الجيش الأبيض داخل البلاد. وظلت الولاياتالمتحدة والدول المشائعة لها تحجب الاعتراف بالصين بعد نجاح ثورتها في 1949، وبقيت الصين الوطنية (تايوان) وهي الجزيرة التي فر إليها “شان كاي شيك” وأركان حكمه، تحتل مقعدها في الأممالمتحدة ومجلس الأمن حتى استفاقت أمريكا أمام الحقائق وقام الرئيس “ريتشارد نيكسون” بزيارته الشهيرة لبكين في 1972 وسقط الفيتو عن الصين الشعبية وأخذت مقعدها في المنظمة الدولية ومجلس الأمن. وتقدم الثورات العربية أمثلة لاختلاف الناس في النظر إليها، والشاهد ما تعرضت له ثورة 23 يوليو في مصر من حرب شنها عليها خصومها المحليون والخارجيون مقابل تأييد شعبي جارف في مصر والوطن العربي ودعم منقطع النظير من الحكومات التقدمية والحركات الثورية في العالم. في اليمن ما برحت جولات الفر والكر بين قوى الثورة والثورة المضادة تجري على تواصل منذ بواكير النضال الوطني وحتى هذه اللحظة. والمعنى أن كافة الثورات تفرز المصالح والقوى الاجتماعية على نحو لا يحدث الالتباس والارتباك. ولا يسري هذا بالطبع على الانقلابات التي ترفع أشد الشعارات بريقاً وإغراءً للجماهير ثم لا تلبث أن تكشف عن أسوأ الغرائز وأرذل الممارسات. كما أنه لا يغفل عن قطاعات متذبذبة إما لوجودها على خطوط التماس بين المصالح والقوى المتنافسة أو بسبب محدودية الوعي وضبابية الرؤية. وأما في ثورات الربيع العربي فالالتباس قائم أظهر ما يكون، ذلك أن بطولات الجماهير تخرس كل قول يستهين بالتضحيات وينزع وصف الثورة عن الأحداث التي تشهدها العديد من البلدان العربية منذ الثورة التونسية، فضلاً عن أن الأنظمة التي انتفضت الجماهير ضدها كانت واقفةً على خط صدام مستقيم مع شعوبها، وقد صبغت ممارساتها بالاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي والتبعية الخارجية. وقد كان المرشح السابق للرئاسة المصرية “حمدين صباحي” أول من وضع إصبعه على هذه الأوجاع الثلاثة عندما رفع شعار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية حتى أصبح يتردد على كل الألسنة في مصر بمن فيهم الجماعة الحاكمة الآن. وقد تبدو ثمة صعوبة في تحديد نصيب كل واحدة من الآفات الثلاث في إشعال الثورة، فالاتصال بينها وثيق والعلاقة مترابطة، وجدلية والشاب الذي أحرق نفسه في تونس غضب لكرامته وتوجع من الفقر الذي جلب عليه الإهانة في آن. على أنه رغم ذاك يمكن التحيز إلى الحالة الاقتصادية كسبب ومحرك مباشر، إذ مثل الفقراء القسم الأعظم من المتظاهرين في الساحات، وهم خرجوا تحت وطأة الحاجة للرغيف والسكن والمواصلات ومصاريف الدراسة وغيرها من الاحتياجات اليومية الملحة دون أن تعنيهم بكثير- وربما لا تعني أكثرهم على الإطلاق- حرية الصحافة وتذكرة الانتخابات. ومع هذا جاءت النتائج مخيبة، فالأوضاع الاقتصادية زادت في التردي، والحكومات التي أعقبت الثورة في تونس ومصر عمدت إلى رفع أسعار الوقود والخدمات والسلع الأساسية. وعلى صعيد الحريات اشتد القمع وتعرض الصحافيون والناشطون السياسيون للملاحقة والاعتقال والاغتيالات. وتظافرت الجماعات الإسلامية مع الشرطة في تضييق الخناق على المعارضين السياسيين. وفي مصر بلغ عدد القتلى والجرحى من المعتصمين أضعاف أمثالهم أثناء الثورة على حسني مبارك، ولأول مرة في تاريخ مصر تحاصر المحكمة الدستورية ودار القضاء العالي وتخرق السلطة التنفيذية قانون السلطة القضائية وتتحدى أحكام المحكمة والمحكمة الإدارية. في مصر أيضاً تصدر الفتاوى بقتل القادة السياسيين والصحافيين وتحاصر مدينة الإنتاج الإعلامي وتطلق الدعوات لإغلاق الصحف والقنوات الفضائية. وعلاوة على خنق الحريات العامة تصادر الحريات الشخصية ويجري التحرش بالنساء وإكراههن على ارتداء النقاب. وفي اليمن ينسحب عتاة البطش السياسي وغيلان الاستغلال الاقتصادي من ترسانة السلطة ويهبطون بالباراشوت إلى ميادين الثورة وينجحون في تقاسم الحكومة مع حلفائهم القدامى. ومما يزيد الالتباس حماسة المشيخيات والممالك الوراثية لثورات الربيع غير متخوفة من انتشار النار إلى عروشها. إن محاولة فهم هذا تعيد إلى ما يقرره الفقه السياسي من أن الثورة تنبثق أو تنفجر في واقع تتوفر فيه شروط موضوعية وذاتية، وقد توفرت الأخيرة بوصول الأنظمة إلى طريق آذن بالانفجار بينما تخلفت الشروط الذاتية المتمثلة بالأداة الثورية المستعدة والجاهزة للتغيير. ومن مقتضيات القدرة أن تمتلك الحركة الثورية عقيدة ثورية واضحة وقيادة قادرة وجهازاً تنظيمياً فعالاً. وفي غياب هذا كله خرجت الجماهير بحركة عفوية فأخذ بقيادها الساقطون بالباراشوت وحدثت الفوضى وتاه الكثير من الناس بعد أن التبست عليهم الأمور. والمؤكد أن التاريخ سيحاسب القوى الوطنية لأنها أهملت بناء نفسها وعجزت عن قراءة الواقع وتركت للجماهير مهمة تحديد ساعة الصفر وخوض المغامرة بدون استراتيجية محددة ومن غير ما تكتيكات محسوبة. مع ذلك سوف نبقى على تفاؤل، وننتظر.. رابط المقال على الفيس بوك