هل استطعنا تجاوز الحُفر السحيقة للفترة الانتقالية المغطاة بأعشاب ناعمة طرية..؟!. أما (نا) الجمع في السؤال؛ فأقصد بها اليمنيين بنُخبهم السياسية والثقافية والاجتماعية التي حافظت مجتمعة على حالة الميوعة العامة دون الانزلاق إلى أي من مربعي الاحتراب أو السلم الأهلي، مُرشحين البلاد برمتها إلى البقاء في المنطقة الرمادية التي لا تحقّق استقراراً نفسياً للمواطنين، فلا هم مقيمون في لحظة السلم والأمن، ولا هم ذاهبون إلى لحظة الحرب التي اعتقد الكثيرون أننا تجاوزناها بنزع فتيلها (بزوال) الانقسام الذي كان حاصلاً في المؤسستين العسكرية والأمنية بفعل استقطابات العام 2011م المستتبعة بمثل تلك الاصطفافات التي كنّا جميعاً في أحد طرفيها، وأفضت في نهاية المطاف إلى التسوية السياسية أو ما اصطلح على تسميتها «المبادرة الخليجية وآليتها» وبها قطع الفرقاء حتى الآن ثلاثة أرباع الفترة الزمنية من الفترة الانتقالية دون أن يلوح في الأفق مخرج آمن للحالة، إلا بمقدار ما تحاول بعض القنوات السياسية (التي امتهنت خطاب التطمين) من تسويقه بين حين وآخر..!. ولو اكتفينا هنا بمقاربة الحالة بسؤال المركز بوصفه مشغّلاً قوياً في إنتاج اللحظة، فلابد أولاً وقبل كل شيء القول إنه وتحت أي ظرف ومهما كانت مخرجات الحوار الوطني (الذي يدخل شهره الخامس بتعتيم عجيب) لابد أن يُعاد ترتيب وتشكيل الجغرافيا (السياسية) المحدّدة ب (528) الف كيلومتر مربع، و(24 مليون نسمة) التي تحضر فيها دولة (الجمهورية اليمنية) التي تعيش شيخوختها الباكرة قبل أن تطوي ربع قرنها الأول. فالذي خبرناه في فترة ما مضى هو قوة المركز أو جغرافيا المدينة الواحدة المتجسدة في العاصمة المستحوذة على كل شيء من مقدّرات البلاد؛ وبها يتركز القرار والثروة وشبكات المصالح، وبمرور الوقت عملت هذه العاصمة على إنتاج أطراف هامشية تحوّلت بعد سنوات الإهمال إلى خواصر أمنية واقتصادية ملغومة تتيح للجماعات الأيديولوجية المسلّحة إعادة إنتاج حضورها عبر تكوينات إدارية بدائية، في هذه المساحات لتعويض غياب الدولة، وارتخاء قبضتها الأمنية، لتتمكن لاحقاً من فرض حضورها كلاعب رئيس في المشهد بعد أن تحوّلت إلى قوة بفعل مظلومية الاصطدام المسلّح بالدولة ومصادرة حقها في التعبير عن نفسها والنماذج الواضحة لتعيين مثل هذه الحالة يمكن اختزالها شمالاً في الحوثيين وصعدة والحروب الستة، والتي أفضت في النهاية إلى تمكين الحوثيين من اقتطاع مساحة من جسد الدولة، أما جنوباً فقد تابعنا جميعاً كيف استطاعت الجماعات المتشدّدة التابعة لتنظيم «القاعدة» التي عُرفت ب «أنصار الشريعة» من تكوين إماراتها بجعار وزنجبار في أبين وعزان شبوة ورداع البيضاء خلال عامي 2011،2012م «بتواطؤ من المركز» حينذاك قبل أن تضطر إلى التخلّي عنها بعد مواجهات دامية مع قوات الجيش واللجان الشعبية المتكوّنة من أبناء هذه المناطق، وحين أرادت إعادة إنتاج الحالة الإمارية بذات الطابع في مناطق حضرموت لم تتمكن، بسبب ضعف التركيبة القبلية في هذه المناطق عكس المناطق التي احتضنتها في أبينوشبوة ورداع والبيضاء، تماماً مثل احتضان صعدة ذات التركيبة القبلية المستعصية لجماعة الحوثي. في المناطق المدنية بل الموغلة في مدنيتها التي حوّلتها جغرافية المركز المتكلس إلى أطراف مهملة مثل عدن والمكلا ولحج ستُختزل الحالة فيها بجماهير لم تطُل فترة غيبوبتها، فعملت على إعادة إنتاج رغباتها وأحلامها المسروقة في الحرية والعيش الكريم على هيئة صوت جاهر تحول بمرور الوقت إلى حركة احتجاجية سلمية، ترى في استعادة الحق المسلوب من المواطنة والثروة (وحتى الهوية) حق أصيل لا تقف في طريقه إلا مراكز القوى (مشيخية وقبلية وعسكرية إلى جانب نُخب سياسية لم تغب عن المشهد على مدى ربع القرن ذاته) في المركز (العاصمة) والتي أعادت تركيز الثروة في حلقات ضيقة يصعب اختراقها إلا بشفرات المصالح الحادة أو ما تتفضل به من فتات على سماسرة قُدّموا للناس بوصفهم وكلاء لأبناء المناطق المنهوبة. وعودة إلى سؤال المركز؛ نقول إن الأيام حُبلى بشكل سياسي جديد لدولة ليست بالضرورة هي الجمهورية اليمنية وربما بأشكال عديدة ستنشأ على جغرافيات متشظية لن تكون العاصمة الواحدة بقدسية الخطاب هي المتحكم الرئيس والوحيد بما دونها. قد يكونون أمراء حرب جدداً، أو حكومات مستقلة، إن احتكِم إلى العقل لأن إعادة ترميم الجسد المتهتك، مستحيل، ولن تغامر دول الرعاية كثيراً في إحيائه الاصطناعي والمجدي لها وللداخل أيضاً أن تتخلّق روحاً جديدة على هذه الجغرافيا وتحلّق عالياً بعيداً عن وصايا مراكز القوى التقليدية ومصالحها. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك