في الصباح الباكر يوم الأربعاء 21 مايو الجاري، احتشدت الجموع الغفيرة من كل البقاع التي دوّنت نضاله من أجل الناس ومعهم، لم يمنعها ضيق الوقت ولا غبش الفجر من إلقاء النظرة الأخيرة والمشاركة في وداع رجل كانت حياته من أجل المظلومين والمقهورين وحقهم في العيش بحياة كريمة. هذه النهاية التي ازدحمت بها أحياء وادي المدام والسواني وحارة المغربة تحت ظلال قلعة القاهرة في مدينة تعز، بدأت مسيرتها في القرى البعيدة عن المدينة نحو 30 كم شمالاً، والتي كان يلفّها ظلام التخلُّف والعزلة عن وطنها وعصرها حين جاءها نداء الفجر الثوري القادم من صنعاء في سبتمبر 1962م، فاستيقظ شبابها ولبّوا النداء منطلقين مع الفجر منخرطين في جيش الثورة والدفاع عن الجمهورية الوليدة. من بين 70 شاباً أو يزيد تحرّكوا من قرى الأكروف نحو صنعاء الثورة، كان الشاب عبده سيف فرحان يتحسّس خطاه النضالية بوجه مختلف وحركة تميل إلى المعرفة وتبحث عن هويتها النضالية ومرجعية الانتماء وترنو إلى أفق أوسع من حدود نظرة صاحبها؛ لذلك حرص على أن يتأهّل علمياً ويترقّى عسكرياً إلى مرتبة الضباط برتبة "ملازم أول" بعد عدّة دورات في المعاهد العسكرية بصنعاء ومصر. بحث ابن الفلاح البسيط المولود في قرية الجازعة بوادي الحجر أكروف مديرية السلام، تعز عن هويته النضالية ودليله الثوري، فوجدها في اليسار الاشتراكي المنحاز إلى المقهورين وضحايا الاستبداد والاستغلال، فانتمى إلى إحدى فصائله مناضلاً في سبيل الحرية والعدالة ومتطلّعاً إلى يمن ديمقراطي موحّد، وهو الانتماء الذي صدق فيه عبده سيف فرحان وأخلص له الولاء والالتزام وتحمّل في سبيله آلام القهر وصنوف القمع والاضطهاد التي مارستها القوى التقليدية بعد أغسطس 1968م ضد قوى الثورة والتقدّم ليدوّن سجّلاً حافلاً بأمجاد الصمود والتصدّي لشراسة البطش والمطاردة والسجون والحرمان من العمل والأجر والحياة العائلية الآمنة والمستقرة. انتصر عبده سيف فرحان على جلاديه ومعذبيه فجر اليوم الوحدوي المجيد في 22 مايو 1990م، واستعاد بهذه الانتصار حقّه في العودة إلى العمل المدني محروماً من حقه في التعويض المالي والترقية التي يستحقها؛ لكنه تقبّل ذلك بروح نضالية تؤثر التضحية في سبيل الوطن والشعب وتحقيق أهداف النضال الوطني في الوحدة والديمقراطية. حرص المناضل عبده سيف فرحان على أن يتأهل أولاده علمياً، وعلى أن يعيش مدنيته كما يحبها أن تكون متحرّرة من التخلُّف والعصبيات، محتفظاً بروح التفاؤل ظاهرة في بشاشة وجهه وبساطة عيشه ودوام ابتسامة جملتها روح الدعابة التي صمدت أمام السرطان كما صمد هو في وجه القمع والحرمان، فظل حتى الرمق الأخير هازئاً بالسحب والأمطار والأنواء وفظاعة الإهمال الرسمي والحزبي الذي يجده كل مناضل وطني صادق وأمين. في هذا الزمن المفتوح على مرارات الخيبة وومضات الأمل؛ رحل المناضل عبده سيف فرحان بذات الصمت الذي عاشه مناضلاً قديراً ومواطناً أصيلاً، تصدّى للقمع والحرمان بذات الروح التي استجابت لنداء الثورة وانتصرت للجمهورية والوحدة ثم ترجّلت مطمئنة بما رأت من إنجاز، ليكون الحشد الجماهيري الذي لم يصنعه الزيف ولم تحرّكه المجاملات دليلاً حيّاً على أن الوطن والنضال الوطني فقد في لحظة حرجة من تاريخه مناضلاً من الطراز الأول. رحم الله المناضل الراحل عبده سيف فرحان، وعوّضنا بفقده خيراً من رصيد نضاله ووفاء يتمثّل في السير على دربه وتمثُّل الصدق والإخلاص والصبر والصمود والتفاؤل والأمل الذي جمّل سيرته العطرة واختتمها بهذه البساطة التي ارتسمت بالناس في لحظة صدق لم يلتفت إليها زمن الزيف والخداع ورموز الادعاء والنفاق. تعازينا، والمجد لجيل من المناضلين الصادقين الأوفياء شُم الأنوف من الطراز الأول «إنا لله وإنا إليه راجعون».