هاهو يطرق أبواب قلوبنا، يناشدنا بكل شيء نحبه أن نفتح له الباب، لا لأنه ينتظر منا شيئاً، بل لأنه يرى الحال الذي وصلنا إليه يدرك جيداً أننا نحتاج إليه، أكثر من أي وقت مضى، وأكثر من كل فترة مرت علينا من فترات حياتنا، فقد ضاق بنا الحال، وتباعدت القلوب، واتسعت الجراح، وبتنا بعيدين جداً عن كل حلو في حياتنا، عن المائدة التي نجتمع حولها، عن الأكف التي تتلاقي على وعاء واحد، وتترك لبعضها لقمة، تعزها على نفسها، بتنا بعيدين عن مشاعر المحبة والإيثار وحتى الأخوة، وحتى المشاعر البديهية، تجاه آبائنا وأمهاتنا وحتى أنفسنا، لهذا جاء لأنه يعرف أنه الفرصة الأخيرة للعودة.. فيا رمضان.. أقبل على هذه القلوب المتناحرة، والنفوس المتباغضة، والأرواح البائسة، وأغسلها مما قد أنهكها ودنسها، علّم من يتقاتلون وهم أخوة، ويذبحون بعضهم بعضاً، أنهم لا يقتلون إلا أنفسهم، ولا يخربون إلا وطنهم، أما من ينظرون إليهم من الخارج، ويشترون ذممهم بعرض الدنيا، فلن يغنون عنهم من ربهم ووطنهم شيئاً، علّمهم كيف الجوع للأخوة والعطش للأمن والأمان، وربي نفوسهم اللعينة، التي تؤله الألف وتعبد الدولار أن الحياة مهما طالت فانية، وأنهم بقتلهم بعضهم، وتخريبهم وطنهم، يضيعون أنفسهم أولاً، ويقتلون أولادهم، ويحرقون ماضيهم وحاضرهم، ويئدون المستقبل الذي مات على أيديهم، ومن يغرونهم بالهدايا هم أنفسهم من سيسيرون على جثثهم يوماً ما، ولن يكلفون أنفسهم حتى بمواراتهم تحت التراب.. أقبل يا رمضان، فقد أضعنا عناوين المساجد، وعلا التراب المصاحف، وانفرطت عرى المسابح، ونسي الناس أن لهم آباء وأمهات يزورونهم، وأهل وأرحام يصلونهم.. وحتى قبور يقرأون عليها الفاتحة، لمن ذهبوا وتركوا لهم هذه الفانية، أقبل يا رمضان لتعلم الشعب الذي علم العالم سابقاً كيف تخضر الجبال بالمدرجات التي يطرزها البن، وكيف تصل راية الإسلام لأصقاع الأرض بأيد يمنية، وكيف يحتضن رسول الأمة بقلوب محبة في المدينةالمنورة، وكيف تحكم المرأة بلاداً، تجعل من هدهد نبي الله سليمان رسولاً لها، وكيف تحول الناس الطيبون الذين كانوا يقتسمون كسرة الخبز، وحطب التنور، وحتى المرقد والموقد والحزن والفرح، باتوا اليوم لا يلقون على بعضهم السلام، هذا إن سلموا من دماء بعضهم أصلاً.. أقبل يا رمضان.. فربما كنت الفرصة الأخيرة لكي يلتم هذا الشمل المبعثر بين أكوام الأشلاء، وأنهار الدماء، علمهم إذا سجدوا وركعوا وقرأوا كتاب الله بقلوبهم وأرواحهم، تابوا إلى رشدهم، وعادوا إلى ربهم، وعرفوا أن ثمة لغز كبير وراء ما يعيشونه، وأن كل واحد منهم جزء من الآخر، فمن يصدق أن تتحول قرى اليمن لساحات معارك، وأن تشرد النساء والأطفال، وتحمل في بوابير للخروج من بيوتهم، من يصدق أننا فقدنا النخوة والمروءة، وأن اليمني الذي كان إذا لمح طيف امرأة أبعد الناس عن طريقها، وحماها كأنها أخته أو أمه، أقبل.. أقبل.. فما عاد لنا من فرصة غيرك، عل الله يغفر لنا، ويرفع عنا مقته وغضبه بما جنته أيدينا بأنفسنا، أقبل يا رمضان، على هذه الأوجاع تموت، وهذه الجروح تلتئم، وهذه الدموع تتوقف، أقبل يا رمضان لتخبرهم أن ما جمعوه من أرصدة في البنوك، وما بنوه من قصور ودور من دمائنا ولحومنا وعمرنا، ستكوى به جلودهم يوم الحساب.. أقبل.. وذكرهم فأنت أملنا الوحيد وفرصتنا الأخيرة..