الحب والكراهية هي عبارة عن تعبيرات لمكنون شعوري يأتي كرد فعل لتصرف ما يظهر في سلوك معين تظهره الجوارح والجوانح .. هذه الأحاسيس التي يتمتع بها الكائن الحي وتدخل في العلاقات العامة بين الأحياء طبعا لها منشأ ومنبع ناتج عن مدى التقارب والتطابق في الطبع والصفات بين الأطراف المختلفة للأحياء كما تأتي كناتج لمدى التلاؤم في الصفات بين طرفي هذه العلاقة من حب وكراهية . هذه الصفات الشعورية التي نلاحظها في عالم الأحياء العياني, ترى هل توجد في عوالم أخرى غير حية كعالم الذرات .. بمعنى هل الذرات التي تعتبر البناء الرئيسي للمواد لها هذه الصفات؟ هل تحب وتكره وتتلاقى وتتباعد وتقترب وتنفر من بعض ... الجواب نعم ! كيف؟! ما نقصده بعلاقة الحب والكراهية بين الذرات هي قوى التجاذب والتنافر بين الجسيمات المشحونة . اذكر عندما كنت طالبا في مرحلة البكالوريوس وحتى الآن بعد التخرج كان يتردد إلى سؤال سواء من مدرس المادة أم من الطلاب عن ميكانيكية التجاذب والتنافر بين الشحنات وما هو السبب الذي يجعل الشحنات المتشابهة تتنافر مع بعضها في الوقت الذي تتجاذب فيه الشحنات المختلفة. لا خفي عليكم فبالرغم من بساطة السؤال والسهولة التي تبدو فيه إلا أنه لا يخلو من الجانب الدرامي الشائق الذي يأخذك إلى مفاهيم أساسية في الفيزياء ويحمل في طياته بعض المدلولات الفلسفية والأبعاد العميقة التي تسبح بك في عوالم أخرى أكثر دقة وتعقيدا . في البداية أعتذر للقارئ العزيز عن هذه المسارات التي انتهجت بها في مقالي هذا ولكن أقول إن استقراء المكنون الخفي يستلزم الدخول إلى أعماق الفكرة وتحليل أبعادها ومساراتها حتى نصل إلى الغاية المرجوة . وهذا الأسلوب ليس غريبا في عالم العلوم الطبيعية فاستقراء الأبعاد المكنونة من وراء الظواهر الطبيعية المختلفة هو الأساس الذي يوصل إلى عمل تزاوج واقتران بين الواقع الموضوعي الذي نعايشه والمفاهيم الفيزيائية التي سوف تصاغ له لتشرحه وتعريه للعيان .. هذا الجانب هو نفسه الذي أشار إليه اينشتاين في مقال نشره عام 1925 (بالتعاون مع بودلسكي وروزن) قال في الجملة الأولى من هذا البحث(أن أي اهتمام جدي بنظرية فيزيائية يجب أن يأخذ في الاعتبار التمييز بين الواقع الموضوعي الذي لا يعتمد على أي نظرية وبين المفاهيم الفيزيائية التي تعمل بها النظرية).. وهذا يعني التوأمة بين الواقع المحسوس والمفهوم المعنوي, واعتبر هذا الفرض بمثابة متطلب ضروري لكي تكون النظرية الفيزيائية مكتملة .... لا أتوه كثيرا بل سأعود لما بدأت به وهو قضية التنافر والتجاذب بين الشحنات ... في الحقيقة عندما كان يرد إلى السؤال عن سبب التجاذب بين الشحنات المختلفة والتنافر بين الشحنات المختلفة كنت آتي بتعليل أعيد فيه منشأ هذا السلوك التنافري والتجاذبي إلى المجال الناتج عن الشحنات والذي بدوره تصاحبه قوة تعمل على خلق نوع من التأثير المتبادل بين الشحنات بحيث أن اتجاه القوى المتبادلة بينهما هو الذي يحكم نوعية واتاجاه القوى من تجاذب أو تنافر ,, كما أن اختلاف اتجاه هذه القوى سببه اختلاف اتجاه المجال الناتج عن الشحنات والذي يختلف في حالة الشحنة الموجبة عنه في السالبة ......الخ... حقيقة هذا التفسير وإن كان فيه بعض اللباس العلمي إلا انه كلاسيكي جدا وهو كمثل الذي يسبح في الشاطئ ويزعم أنه عرف البحر ... ولا أقصد ببطلان هذا التعليل إلا أن هناك ما هو أكثر علمية وأشد وأدق تحليلا وذلك على ضوء النظريات الحديثة في عالم الفيزياء الحديثة ضمن ما يسمى بنظرية المجال والالكتروديناميكا الكمية Quantum Electrodynamics وتدعى (QED) ... تفسير هذه النظرية لميكانيكية التجاذب والتنافر بين الشحنات لا يلغي التفسير الكلاسيكي الأول بشكل نهائي بل يقويه ويضع عليه القليل من اللباس العلمي الحديث يعريه من بعض من المسارات الافتراضية Virtual pathsالتي كانت تتميز بها بعض التفسيرات الكلاسيكية ويرسي براهين عيانية وأدلة وتفسيرات دقيقة ويقينية بعيدة عن عالم الافتراضات السائد في العالم الكلاسيكي .. كما أن تفسير ميكانيكية التجاذب والتنافر على ضوء QED لا يعني تعقيد المسألة بل أن الأمر أكثر سهولة ويسر او أقرب للفهم اليسير والمباشر. الفكرة الأساسية في هذا التفسير قدمها عالم الفيزياء الشهير ريتشارد فينمان في ستينيات القرن الماضي حيث فسر قوة التجاذب والتنافر كالتالي : يتم التنافر بين الجسيمات المتشابهة الشحنة كالالكترونات مثلا ضمن ميكانيزم معين يتم بأن يطلق أحد الالكترونات فوتونPhoton ثم يرتد Recoil إلى الجانب الآخر بينما يكتسب الإلكترون الآخر هذا الفوتون ويتجه بتأثير ذلك إلى الجانب الآخر مبتعد عن الإلكترون الأول في مشهد درامي تنافري يصوره الرسم التخطيطي (1) : أما في حالة التجاذب بين الشحنات المختلفة كالالكترونات والبوزترونات (جسيمات لها نفس صفات الإلكترون إلا أنها موجبة الشحنة) فتتم ميكانيكية التجاذب كالتالي : عندما يكون الإلكترون والبوزيترون في مسرح الحدث يبعث الإلكترون فوتونا بكمية تحرك Momentum يجعله يتخذ مسارا في الاتجاه الآخر عكس الاتجاه الذي يوجد فيه البوزيترون وبالتالي يتجه الإلكترون بارتداد ناتج عن ذلك Recoil كرد فعل نحو البوزيترون . ونفس الشيء يقال بالنسبة للبوزيترون والذي يرتد باتجاه الإلكترون منجذبا نحوه في مشهد تجاذبي نطلق عليه التجاذب Attraction بين الشحنات المختلفة.. كما في المخطط (2) في الحقيقة تفسير ميكانيكية التجاذب والتنافر بين الشحنات الكهربية اعتمادا على الالكتروديناميكا الكمية ليس بهذه السهولة الشديدة بل تم الأخذ في الاعتبار العديد من النظريات الفيزيائية أثناء معالجته لهذه الميكانيكية ولم يغفل بعض المبادئ الأساسية في فيزياء اليوم كمبدأ اللايقينUncertainty وحفظ الطاقة وكمية التحرك Conservation of energy and momentum .... إن اكتساب الذرات ومعظم الجسيمات في المستوى دون الذري لسلوك النفورrepulsion والتقارب أو التجاذب Attraction والتنافر من بعض وإن كان يشبه ما هو حاصل في العوالم الحية إلا أن هناك بعض الاختلافات الجوهرية التي تميز هذه العلاقات في المستوى الذري . تتجلى هذه الاختلافات في منشأ هذه العلاقة. فالحب والكره والاقتراب والنفور بين الأحياء ينتج في اغلبه بدواعي المصلحة والمنفعة وحب الذات خلافا لعالم الذرات البريء المنزه عن هذه الصفات السفلى .. كما أن مؤشر علاقة النفور والاقتراب بين الكائنات الحية يتميز بنوع من عدم الاستقرار بحيث يمكن ان يتداخل منحنى المحبة والتجاذب بين نفسيات الأطراف المختلفة متحولا ومتذبذبا نحو الكراهية والنفور والعكس بخلاف عالم الذرات الطاهر الذي يتسم بالحفاظ على السير والنهج الواحد بحيث يبقى النهج التنافري بين جسيمين هو نفسه على المدى الطويل ونفس الشيء يقال بالنسبة لعلاقة التجاذب . وهذا ناشئ عن منشأ هذه القوة والعلاقة بين الأطراف الذرية التي تحكمها الصفة المكنونة في الجسيم ذاته(الشحنة) ومدى التشابه أو الاختلاف في هذه الشحنات بين الجسيمات الذرية.. [email protected]