من عجائب القدر أن الوحدة الاندماجية لم تكن مطروحة في الذاكرة الشعبية والسياسية ، وكانت مفاجأة للمراقبين، وبدت حينها اندفاعاً عاطفياً نحو مشروع كبير واقتصاراً للمسافات وتخلياً حراً عن الماضي السلبي في الشطرين... قبل الانتقال الى الوضع الراهن وآفاق المستقبل فيما يتعلق بالمسألة الجنوبية، من المهم بعض الاسترجاعات الوامضة للماضي القريب الذي يمتد من فترة الوجود البريطاني في عدن والمحميات الجنوبية ، ثم ما تلا ذلك من تطورات سياسية شكلت بمجملها تمهيداً تاريخياً لوحدة 22 مايو 1990م ،ثم توالت استتباعاتها إلى يومنا هذا. أثناء الوجود البريطاني في عدن وكامل الاتفاقيات التي تمت بين ممثل التاج البريطاني وبقية المناطق التي سميت في الادب السياسي الرسمي الذي اعتمدت حينها بالمحميات الجنوبية، والتي غيرت واقع الأمر بمصفوفة من المشيخات والسلطنات والامارات التي تفاوت حظها في الدواوينية والقوانين والمؤسسات، وكان من أبرز تجلياتها الايجابية مثالاً لا حصراً حالة السلطنة القعيطية في حضرموت الساحل والتي تاقت الى استنساخ نماذج متقدمة في القوانين والادارة والحاكمية أيضاً.. كما كان لسلطنة الكثيري أفق في هذا الباب ، وبالمقابل شهدت لحج وأبين تطورات إيجابية من خلال ممازجة الأعراف الحميدة ببعض أوجه التطوير، وخاصة في الجانب القومي. عدن كانت المدينةاليمنية الأولى استيعاباً لكامل الروافد والأنساق اليمانية القادمة من الجنوب والشمال معاً.. ولم يقف الامر عند تقدم تخوم اليماني المتنوع بل فتوازى مع حضور إنساني شامل امتد على مدى البحار المحيطة بالمدينة من شرق أفريقيا وحتى الهند .. غير أن عدن في فترة الوجود البريطاني اتسعت لبُعدين هامين: يتعلق البعد الاول بالمنظومة الإدارية والقانونية القادمة من عمق التجربة البريطانية العامة. ويتعلق البعد الثاني بثقافة الإدماج والاندماج المحكوم بسياسة التعليم، والقوانين المنظمة للإقامة والمواطنة ، وصولاً إلى التمازج الطبيعي الذي جعل منها مدينة يمنية عربية بامتياز استوعبت في تضاعيف ثقافتها اليمانية كامل الأنساق الإيجابية القادمة من الثقافات الانسانية المختلفة. في تلك الفترة شهدت عدن توقاً مبكراً لمستقبل ألفي جديد .. وتواشجت هذه الاحلام مع ازدهار المد القومي .. وكانت المطالبة بخروج الاستعمار البريطاني بمثابة جوهر شعبوي أصيل تداخلت فيه الأحلام بالفتوة والتوق لعالم جديد. لسنا هنا بصدد تقديم تلك الرحلة التي سيتكفل التأريخ بإجلاء غوامضها ، لكن مما لا جدال فيه إن قانون التاريخ أخذ مجراه بطريقة مأساوية وملهاوية .. فبعد خروج بريطانيا (المخطط له سلفاً .. والمحدد بقرار أممي ) خسرت الدولة الدولية مرتين: مرة لأنها لم تستوعب أن ذلك الخروج كان ضمن آلية شاملة لإغلاق صفحة الاستعمارات في العالم، واستبدالها بصيغ جديدة للتعاون يرعى فيها المستعمرون السابقون مستعمراتهم المستقلة حديثاً ، وكان من نصيب (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) دعماً مالياً ناجزاً ورعاية أساسية في الجوانب الخدماتية التي تطال حياة المواطنين (كالتعليم والعلاج ورعاية الطفولة) ... أيضاً العضوية المستحقة لليمن الجنوبية في (الكمنولث) العالمي المجيَر على المستعمرات البريطانية. ومرة أخرى لأننا في ذلك زهدنا كما لو أننا قادرون على السير في درب التنمية والتطوير دون حاجة لدعم خارجي. ومن محاسن الأقدار أن القيادة الفتية للجبهة القومية تمثلت المفردات الاساسية لمنطق إدارة الدولة وفق مرئيات القانون والنظام ، وأبقت على كامل الموروث الإداري والقانوني والآليات المؤسسية ،ابتداءً من رئاسة الدولة ،مروراً بالحكومة وحتى الأنظمة المالية والإدارية الأكثر شفافية ، ووصولاً إلى الخدمات العامة ، حتى أنني أستطيع القول أن أكبر منجز حضاري لتجربة الجنوب السابق تمثلت في دولة النظام والقانون التي استطاعت احترام المسافة الإجرائية بين السلطة المجردة ، والمؤسسة الناظمة لحياة المجتمع ومن ظواهر تلك الحالة المميزة ما يلي:- الحفاظ على ميزان العملة الوطنية ، بوصفها الترميز الأكبر لميزان الدولة والمجتمع. ترسيخ النظم الإدارية الشفافة المقرونة بالمسئولية الشخصية للموظف. تفعيل القانون ، حتى المحاكم المدنية والعسكرية لم تعرف أي تأجيل يذكر لقضية مرفوعة. الالتزام بتطبيق حكم القانون ، وشاهدها الاول ذلك الاعدام الشهير لمن تجاوز قانون الغاء الثأر، واعتبار ان أي جريمة قتل جديدة بذريعة الثأر بمثابة جناية اعتيادية يحاسب عليها القانون. هذه الأمثلة لا تعني بأي حال من الأحوال غياب السلبيات في البعد الآخر المتعلق بالسياسة التي عانت من عوامل سلبية أبرزها: اختلاط المثال الأيديولوجي بالثقافة العصبوية القبلية التي أطلت برؤوس حرابها في التجربة السياسية ، وكانت أحداث يناير لعام 1986م ذروة إفرازاتها المدمرة. سيادة منطق التبرير والتمرير ، واعتبار أن كل خطوة إلى الأمام تلغي ما سبقها ، وأن من يبادر في الفعل هو المناضل الجسور والبطل المغوار .. ومن الواضح تماماً أن مثل هذا الفكر كان صادراً عن منطق عصبوي لا مستقبل له. إطلاق النعوت والالفاظ الاستنسابية ضد الخصم الحقيقي والافتراضي معاً ، وقد أخذت هذه النعوت والألفاظ مجراها في عموم التجربة اليمنية لما بعد وحدة مايو1990م ، حيث تبارى المتبارون في استخدام هذه التحريجات الموصولة بعنف سياسي نفسي ،ومصادرة معنوية للآخر المواطن الذي لا يستطيع لي قائمة بدونه. هذا باختصار شديد ما ورثناه عن تجربة الجنوب بالمعنى العام ، لكنني سأقف هنا على مشروع الحركة السياسية التي اقترنت بمقدمات الاستقلال للشطر الجنوبي سابقاً ، وما بعد ذلك على النحو التالي: الجبهة القومية وجبهة التحرير وحددتا هدف الوحدة كهدف استراتيجي للثورة اليمنية ورفعتا شعار الوحدة اليمنية. حال استلام الجبهة القومية للسلطة عملت على اكتساح السلطنات والمشيخات والإمارات في كامل التراب الجنوبي وأعلنت (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) ووضعت صدارة شعارها تحقيق الوحدة اليمنية بوصفه الهدف التالي لإنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية والتنمية. ثم تحول اسم الجمهورية لاحقاً إلى (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) في اختيار وحدوي ذي مغزىً عميق وتم تأكيد وحدة المواطنة اليمنية ، والعمل بمرئيات هذا المفهوم قانونياً. الحروب الشطرية المحدودة بين نظامي صنعاءوعدن كانت مرتبطة ضمنياً بوحدة الحركة السياسية اليمنية في الشطرين .. وكان كل فصيل يعتقد أن نموذجه افضل .. وعلى هذه القاعدة (غير المعلنة) تمت وحدة مايو1990م. قبيل إعلان الوحدة في عدن تداولت النخب السياسية في الجنوب كامل السيناريوهات المحتملة وهي على النحو التالي: المزيد من ترسيخ التعاون والتكامل بين الشطرين تمهيداً لمرحلة لاحقة واستئناساً بالانفراجة الكبيرة التي حدثت بعد حروب المناطق الوسطى في الشمال. اعتماد نظام (كونفدرالي) يعني اختصاراً وحدة دولتين مستقلتين، ويصار لاحقاً إلى استفتاء شعبي بعد مرور سنوات محددة ,وإذا كانت الوحدة جاذبة ومقبولة شعبياً يتم الانتقال إلى صيغة ارقى هي الصيغة الفدرالية. اعتماد نظام فيدرالي (اتحادي) يفتح الباب لمنظومة جديدة أبرزها إلغاء المركزية ، واعتماد آليات الحكم المحلي ، والاتجاه نحو بناء الدولة العصرية المركبة. من عجائب القدر أن الوحدة الاندماجية لم تكن مطروحة في الذاكرة الشعبية والسياسية ، وكانت مفاجأة للمراقبين، وبدت حينها اندفاعاً عاطفياً نحو مشروع كبير واقتصاراً للمسافات وتخلياً حراً عن الماضي السلبي في الشطرين. لكن هذه الآمال والأمنيات المخملية سرعان ما كشرت عن أنيابها .. فقد ظهر جلياً منذ البدايات الأولى إن ذاكرتي صنعاءوعدن سيسيران في اتجاهين ، وكان أمل الناصحين أن يكونا على الأقل متوازيين وأن لا يكتفي عند تخوم ثقافة الحرب ، لكن ثقافة الشمول المكرس بالفردنة والشخصنة فرضت مقدمات ومآلات حرب 1994م الظالمة ، مما نعرف تفاصيل تفاصيله جميعاً. ما حدث في عدن يوم 22 مايو لعام 1990م كان محاولة للقفز فوق سور كبير مدجج بالمسامير والأشواك .. لقد قرر رمزا القيادة في عدنوصنعاء اختطاف كامل المشاريع الرفيعة ليسجلا مجداً شخصياً ، متناسين أن درب الوحدة اليمنية كان سيكون سالكاً وعظيماً لو اعتمدا على مشورة الناصحين الرائين. لكننا وبالرغم من ذلك نسجل للوحدة اليمنية انها فتحت سؤال الوحدة على مصراعيه وكشفت عيوب (المركز المقدس) وكشفت أبعاد ما ذهب إليه العقلاء يوم أن قرروا القفز على جدار الحقيقة والسفر صوب المجهول. اليوم بعد كل هذا نتساءل: ما هي الخيارات المتاحة لمعالجة الصيغة الوحدوية لنعود لهدف نبيل تاق إليه اليمانيون جميعاً.