كي أتأمل مليّاً في هذا العمل الفني الكبير بكل المقاييس والذي يمثّل بحق أهم ما قدّمه حاتم علي في مسيرته مع الإخراج التلفزيوني.. ويعدّ واحداً من أهم النصوص التي كتبها الدكتور وليد سيف.. رغم كثير من النصوص الهامة التي سبق أن تابعناهاله قبلاً. واقعية فنية من طراز خاص! مع مسلسل التغريبة الفلسطينية نحن أمام نمط جديد من المسلسلات .. نحن أمام واقعية فنية تخلق صورتها النابضة بالحياة والتفاصيل.. أمام إحساس تراجيدي حار يصوغ عناصره المشهدية من بيئة المكان والعلاقات.. ودراما التهجير والترحال.. وقسوة العلاقات الإنسانية في الوطن والقرية الصغيرة وفي مواطن اللجوء والمخيم الذي يتسع مع صغره واكتظاظه بكل رثاثات الحياة وبؤسها وفظاعة الشرط الإنساني الذي يرتسم في ذلك الأفق المتهالك من صفيح وأسمنت وخيام وأزقة ضيقة وأمل بعودة لا تتحقق ونصر لا يظفر سوى بالخيبات والواقع العربي المرير. الإحساس التراجيدي الحار في التغريبة الفلسطينية يبتعد عن الميلودرامية.. ويتخلّص من فجاجة البكائيات واستدرار الشفقة وحتى من النظرة الرومانسية الساذجة إلى الوطن السليب.. ليرى التراجيديا باعتبارها حقيقة مطلقة ترمي بثقلها على مصائر الأفراد والعائلات مثلما ترمي بوطأتها الكابوسية على مصير وطن.. وها هنا يرتقي المسلسل بإحساسه التراجيدي بعيداً عن الندب والتفجع.. ليرسم ببرود عقلي أحياناً آفاق المأساة ثم يلوّنها بألوان المشاعر الحارة وقد اكتملت الصورة الواقعة المتواصلة أو الهيكل العظمي للواقع التراجيدي في الأساس. إن هذه الرؤية التي تتبدّى في صورة المعالجة الإخراجية العامة للمسلسل تؤسس مرتكزاتها بكل تأكيد استناداً إلى نص وليد سيف الملحمي الذي يروي مرحلة تاريخية على مدى زمني طويل.. مستلهماً ما يشبهها وما يبدو أنه سيرة ذاتية لشخصية عاشت في الواقع وان لم تحمل اسماً له واقعه التاريخي المميز.. لكنها بالتأكيد كانت تحمل كل أبعاد الواقع الاجتماعي المؤثر سواء بالنسبة لهذه الشخصية أوبالنسبة للشريحة أو العائلة التي تمثّلها وتنطلق منها لتعود فتتماهى في الصورة المطلقة للوطن. صياغة نهائية لذاكرة متدفقة! وهكذا فالأهمية الحقيقية والكبرى تكمن في نص وليد سيف مع الاعتراف الواضح بأهمية إنجاز حاتم علي الفني في الصورة النهائية للعمل.. لكن أي إنجاز فني لا يمكن أن يبلغ أفق الكمال أو يبلغ مشارفه ما لم يتأسس على نص قوي ومتين مسبوك في حواراته ولقطاته وبناء شخوصه..ومن هنا فقد أحسن وليد سيف كل هذا وكأنه كان يكتب ما يمكن أن نسميه (نص العمر) حسب التعبير التقليدي.. إلا أن هذا التعبير على تقليديته يمكن أن يشير إلى حقيقة أن وليد سيف كان يكتب في (التغريبة الفلسطينية) ما كان يشتهي أن يكتبه ذات يوم عن وطنه الذي احتل وشعبه الذي تشرد وحلمه الذي سرق وعن تفاصيل حية في ذاكرة التهجير والتشرد وصقيع الغربة وفقر المخيم .. وربما كتب وليد سيف هذا النص المثير للاهتمام على دفعات.. وربما قدّم هذه القصة سابقاً في عمل درامي ما.. لكنه بكل تأكيد كان يقدّم هنا صياغته النهائية للقصة التي أرّقت ذاكرته.. كان يكتبها للمرة الأخيرة وكأنه يشتهي أن يتخلّص منها ويتحرّر من وطأتها الدرامية إلى الأبد. طبعاً هذه مجرد تكهنات أو احتمالات نثيرها في ذهن المتابع، طريقة وليد سيف المتدفقة في سرد الحكاية وتركيزه الروائي العالي في استحضار مفرداتها وفي التغلغل العميق في ثقوب الذاكرة.. وفي نقد بنية المجتمع الفلسطيني القروي الغارق في نمطية علاقات الإقطاع بقسوة ولا إنسانية.. وفي استعادة رومانسية البطل الثورية وانكسار حلم الثورة القاسي والمريع على أرض الواقع المليء بالتخبط الحسن النية حيناً.. والخيانات السوداء حينا آخر..! ولعل مثل هذه التكهنات تبقى على هامش القراءة النقدية مجرد تأملات.. أمام حقيقة أن هذا النص يقدّم في المحصلة القراءة التلفزيونية التراجيدية الأكثر كمالاً للمأساة الفلسطينية.. وهو بحق يعيد البريق للقضية الفلسطينية دراميا وتلفزيونياً.. بعد أن كان مصير أيّ عمل تلفزيوني يتحدث عن هذه القضية المحورية التجاهل أو الإهمال باعتباره عملاً كئيباً يستعيد فصول قضية عصية على الحل.. وهي تذكّر المواطن العربي عموماً بعجزه عن صنع أي شيء له قيمة لفلسطين التي كثيراً ما تحولت إلى شعار في وسائل الإعلام .. شعاره قائم على طرفي معادلة لا تتغير: اللاجئ الفلسطيني المثير للشفقة بشكل مبالغ به. والصهيوني الكريه الذي يعبّر عن حقده الأسود وهمجيته بشكل أقرب إلى الكاريكاتور والفجاجة.. والواقع فإن مسلسل التغريبة الفلسطينية تعامل مع طرفي المعادلة نفسها لكنه غلّب الإنساني على الشعاراتي.. واعتمد الإيحاء أحياناً كلغة بديلة للغة المبالغة والفجاجة الفنية.. وقد وصل المسلسل إلى نفس النتيجة التي تقوم عليها المعادلة برمتها.. فبدأ اللاجئ الفلسطيني مثيراً للتعاطف إنما بإحساس تراجيدي يقرأ معطيات الواقع ومفارقاته.. وبدت الشخصية الصهيونية مفعمة بالحقد الأسود.. إنما دون مبالغة كاريكاتورية مثيرة للضحك كما هي العادة. ففي مشاهد تهجير أسرة آل يونس من قريتهم مع أهالي القرية.. نسمع صوت طلقات الموت تسكت الطفل الرضيع دون أن نرى تعابير الحقد الكاريكاتورية في وجوه الجنود الصهاينة.. ونرى المعنى الإنساني المؤلم من خلال بكاء تيم حسن على الجدار.. أكثر مما نراه في الدماء نفسها.. وهكذا يؤدي الإيحاء الفني البليغ هنا المعنى والموقف الإنساني نفسه.. أكثر من أي تعامل تقليدي مباشر مع مثل هذه الحالات. إن نقد الذات وتشريح بنية المجتمع الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من سعي العمل لملامسة حقيقة ما جرى دون تذويق أو افتعال أو تذرّع بهول المأساة من أجل تجميل الصورة.. أو من أجل نفي البعد الإنساني بمزاياه وعيوبه وعن الشخصية الفلسطينية وتحويلها إلى عنوان وشعار تحت مأساة الاحتلال والتهجير.. وتغيب في ثنايا ذلك أية اعتبارات أخرى. إن مفارقات الغنى والفقر.. والكفاح والاستغلال.. ودراما الطيبة والقسوة التي تصنع معنى القهر وتشحن به النفوس.. وأن السعي لتعزيز المركز الوطني والاجتماعي مرة بحمل السلاح وأخرى باللحاق بركب العلم.. كل هذه المفارقات صاغت الإطار العام لسيرة عائلة الشيخ يونس.. ولكثير من ملامح شخصيات المسلسل.. وشكّلت الأساس الإنساني الذي استمدت منه الحكاية جاذبيتها الحقيقية وجعلت من قيمها ومقولاتهاحالات جديرة بالتأمل والتفاعل.. واكتساب التعاطف العقلي والوجداني في آنٍ معاً.. ليس في إطار خصوصية القضية الفلسطينية وحسب بل في إطار النسيج الحكائي العام لمجتمع كان يمكن أن يشبهنا في زمن ما! أداء إخراجي بإنجازات محقّقة! وقد عمل حاتم علي في أدائه الإخراجي على تعميق كل هذا من خلال صورة غنية في تفاصيلها متيقظة في رسم مشهدياتها.. وفي صناعة الشرط الواقعي بأكثر أبعاده الفنية تأثيراً درامياً وبصرياً ..وها هنا لا يهم باعتقادي إلى أي مدى خرج حاتم علي عن المصداقية في بعض الجوانب والتفاصيل البيئية أو في الديكور أو الملابس أو ألوان جدران المخيم .. المهم حقاً هو أنه استطاع أن يشكل معادلاً بصرياً حياً لواقع الحكاية بمراحلها التراجيدية المختلفة.. استطاع أن يُعلي من نبرة المأساة لكن ظل حريصاً على الجاذبية الفنية بكل جوانبها.. ممسكاً بزمام الإيقاع.. ملماً بحركة الكاميرا وهي تتغلغل في مسامات البؤس والفقر لتعبّر عنه بفنية تقترب من الفوتوغرافية أحياناً.. لكنها تظل حريصة على الرؤية وعلى المعنى.. وعلى كل ما من شأنه أن يعمق حالة الجذب الفني باعتبارها أساس إيصال الحالة الإنسانية بعيداً عن القتامة والجمود.. وقريباً من حالات الكشف المتتابع سواء داخل الشخصيات أو في محيطها الدرامي الذي تتحرّك فيه .. ويتماهى هو مع حركيتها. كثيراً من المشاهد صوّرها حاتم علي بقدر كبير من التألق الإخراجي الذي يستحق أن يكون أنموذجاً يحتذى.. لا في الضخامة الإنتاجية بل في توظيف الإمكانيات الإنتاجية لكي تخدم الحالة المشهدية وتوصل رسائلها..ومنها مشهد غرق الخيام بالأمطار وقبلها رحلة التهجير والضياع وتفرق شمل الأسرة الواحدة..ومشاهد المخيم بالفضاء الدرامي الذي تؤكد لمساته الفنية واقعية وبؤس المخيم أكثر من أية واقعية فوتوغرافية بليدة أخرى. أجل يستحق التغريبة الفلسطينية أن يكون واحداً من الأعمال الكلاسيكية في الدراما السورية وواحداً من أهم الأعمال التلفزيونية التي تناولت القضية الفلسطينية بتوازن وعمق وفنية عالية وسوية إنتاجية ضخمة..ويستحق الكثير من ممثلي العمل أن يفخروا بالمستوى التمثيلي المتقدم الذي جسدوه بدءاً بخالد تاجا وجوليت عواد بحضورهما التراجيدي المبهر الذي يسطع على مدى وجودهما في حلقات العمل.. وجمال سليمان في واحد من أدواره الهامة التي يمسك فيها بزمام الشخصية التي يؤديها شكلاً وأداءً وصوتاً ولهجة.. من دون أن ننسى نادين سلامة ويارا صبري بحساسيتهما العالية .. واجتهاد حسن عويتي وحضوره المميز الذي اثمر نجاحاً محققاً في أداء شخصية أبي عايد.. فضلاً عن تألق كوكبة من الممثلين الشباب وابرزهم: باسل خياط ورامي حنا وقيس الشيخ نجيب.. مع حضور باهت لتيم حسن.. وعودة موفقة لحاتم علي في أداء دور تمثيلي ينجح في التعامل معه وفق منظور فني خاص أعطى للشخصية نكهة خاصة! ولا ننسى جهود احمد إبراهيم احمد في الإضاءة وعصام صيداوي في المونتاج وإياد شهاب أحمد في الغرافيك .. فضلاً عن أغنية الشارة للشاعر إبراهيم طوقان التي كانت عنواناً من عناوين تكامل ونجاح العمل أيضاً. كلمة أخيرة! والآن.. هل كان التغريبة الفلسطينية عملاً بلا أخطاء.. وهل يستحق كل هذه الإشادة المطلقة.. بلا أي تحفّظ يذكر.. كما قد يحتج بعضهم؟ إن الجواب على مثل هذه التساؤلات يلخّص جوهر النقد، فالنقد الحقيقي ليس مهمته تصيّد الأخطاء والهنات الصغيرة في العمل الكبير والمتقن والمشغول بنوايا فنية هدفها التجويد في العمل كما تقول النتائج على الشاشة.. إن جوهر النقد هو فضح الأعمال الرديئة التي تسيئ إلى الذوق العام.. أو الأعمال الكبيرة المشغولة على عجل والتي تحاول أن تخفي عيوبها الكبيرة تحت أقنعة الإنتاج الضخم.. أو إسم المخرج اللامع الذي يعيش على أمجاد أعمال الماضي.. أو تحت سطوة شركة إنتاج في زمن ما! نعم ثمة بعض الهنات في التغريبة الفلسطينية لكن أمام النسبة التي بلغها العمل من النجاح الفني فمن الضروري أن نعمل على تحليل مزايا ونقاط تألق هذا النجاح أكثر من أن نستعرض عضلاتنا النقدية في تتبع هفوات لا تغيّر في صورة العمل المضيئة في شيء!.