لست بدعاًً إن كنت أقول : إن اللغة الأم كانت سهلة , وجرى عليها التركيب في كثير من أحوالها وقد كانت اللغة اليمنية تمثل الرقي الحضاري في عصر من عصورها الزاهي . وقد شكلت مهد الفصاحة وتأثر بها غيرها من اليونان واللاتينيين والإغريق , كما تأثرت هي بلغاتهم وحضاراتهم , كيف لا وهي مجمع البحرين , وملتقى التجارة والأطماع اشرأبّّت إليها أعناق الملوك والأباطرة . فهذا الكرملي يقول في رأي اللغويين في بداية اللغة: فريق يذهب إلى أن الكلم وضعت في أول أمرها على هجاء واحد: متحرك فساكن , محاكاة لأصوات الطبيعة ثم فئمت « أي زيد فيها حرف أو أكثر في الصدر أو القلب أو الطرف »فتصرف المتكلّمون بها تصرفا , يختلف باختلاف البلاد , والقبائل , والبيئات , والأهوية , فكان لكل زيادة أو حذف أو قلب أو إبدال أو صيغة ' معناة أو غاية , أو فكرة , دون أختها , ثم جاء الاستعمال فأقرها مع الزمن على ما أوحته إليهم الطبيعة أو ساقهم إليه الاستقراء والتتبع الدقيق . وفريق يقول : إن الكلم وضعت في أول نشوئها على ثلاثة أحرف بهجاء واحد أو بهجاءين ثم جرى عليها المتكلمون بها , على حد ما تقدمت الاشارة إليه قبيل هذا , فاتسعت لهم الآفاق المتنوعة , وظهرت لهم الفروق , وكثرت اللغات , واختلفت اللغات , إلى آخر ما كان من هذا القبيل , على السبيل الذي اتضح لك آنفا . ويقول : على أننا اتبعنا الرأي الأول ا.ه . ويذكر في موضع آخر فيقول : ثم جاء المضاعف من ثلاثي ورباعي فيكون ثلاثيا اذا لم تتخيل الحركة في الشيء ورباعيا اذا تخيلتها فيه , وانما حرك الساكن في آخر الهجاء لحاجة الناطق إلى إسماع الحرف الأخير من الكلمة التي ينطق بها لئلا يختلط مخرج حرف بمخرج حرف آخر يقاربه ويدانيه صوتا ولا يكون ذلك إلا بالشد على الحرف الأخير وابرازه متحركا لكي لا يقع أدنى لبس. وما لا يفوتنا أن نشير إليه هو بعض زيادة على كلام الأب الكرملي من أن البداية من حرفين ليس عاما بل غالبا وما وجدناه أثر تتبعنا لهجة اليمن من أن الفعل كان من ثلاثة أحرف حرك الأول ومد صوت المتحرك وجيء بالذي يلي المد ساكنا نحو قوم , صوم لكن هذا لا ينافي قول الكرملي على اعتبار الصوت الممدود تابع للأول وهو ما يؤيده لغتنا الفصحى واستعمالها فعل الأمر قم , صم بضم القاف والصاد لكنا نتساءل أيهما الأصل «الأم» المد أم القصر ولعل المد جيء به للتفرقة بين الفعل الماضي والأمر من جهة وبينهما والمصدر من جهة أخرى . وشيء آخر النفس والعواطف التي تحملها جبلة لهما دور كبير في الحركات والأصوات فالانفعال له من الشدة ما ليس للرقة وللتأمل من المد ما ليس للعجلة وللنفي خفة ليست كالإنكار وشدة النفي التي تحتاج إلى الشد والنبر وللمدح وقع غير ما للذم من كسر وشد وطول وتعاقب الحركات وعليه أي اعتبار المد متصلا بالصوت فنحن نقول كما يقول ونجهر بذلك ونفخر وننفح وندافع لأجله ولئن كنا نقرر أن التركيب عرف مبكرا عند أهل اللغة وظهرت المقاطع الطويلة ودللنا من القرآن بأمثلة , فمما يجدر أن نشير إليه الوضع العربي للغة البديئة من سكون آخر المقطع وهو ما يميز اللغة الجنوبية وقد ذكر ذلك صاحب كتاب الساميون ولغاتهم حيث يقول : واللغة اليمنية القديمة لغة موقوفة أي لا يوجد فيها إعراب على أواخر الألفاظ , وهي بهذا الوضع تعتبر خطوة متطورة شديدة التطور بالنسبة للسامية الأم , التي يتأكد لنا أنها كانت معربة مثل العربية الفصحى ولكنا احتفظت بتنوين الأسماء . ا.ه.. قلت : ولماذا لا يكون هذا التطور من لغتها الأم مع احتفاظها ببعض خواص الأم . ثم يبين اشتراك اللغة اليمنية القديمة وغيرها من اللغات السامية بل يقرر أن عداها تطور منها حيث يورد : كذلك هناك تطور من ناحية اللفظ , فبعض حروف الصفير مثل السين تحل في هذه محل الهاء في الضمير المنفصل , فحيث يقال في اللغة العربية الفصحى “ هو “ و ”هي “ , كان يقال في العربية الجنوبية : سو “ و ”سي” , وهو تطور سارت فيه البابلية والآشورية على تقادمها في العهد إذ نجد فيها “شو “و” شي. هو لا يعترف بقدم اللغة اليمنية على هاتين وهو أمر غير مسلم له به وهذا التطور الذي ذكره هو الأصل عندنا لأن الكلمة معناها شيء وقد ورد في التنزيل ما يوحي به قال تعالى (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) والخطاب متصل بعيسى ومريم عليهما السلام فشيء هنا إما من التنكير لعدم وجوده أو التحقير والتهوين لهوان تكوينه لا لحقارته (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق- الناس) أو من الإشارة للمخلوق فيكون التقدير هكذا : إنما أمره إذا أراد أن يخلق هذا الإنسان الذي ذكرناه لك يا مريم أن يقول للتكوين المبرم في الأزل أن يبرز للوجود فيكون مكونا للعيان جسدا. وما كان من زيادة أو قلب أو مديد فهو طارئ وهو ما يقرره البستان الكرملي ونقله عن أئمة في اللغة حيث يقول : عرف بعض حذاق أبناء يعرب الأقدمين هذا الرأي ومالوا إليه وممن قال به ولم يحد عنه قيد شعرة الأصبهاني صاحب كتاب غريب القرآن فإنه بنى معجمه الجليل على اعتبار المضاعف هجاء واحدا ولم يبال تكرار حرفه الأخير فهو عنده من وضع الخيال لا من وضع العلم ولا التحقيق . أي إنه إذا أراد ذكر مد يمد مدا مثلا في سفره ذكرها كأنها مركبة من مد أي ميم ودال ساكنة , ولا يلتفت أبدا إلى أنها من ثلاثة أحرف أي م د د كما يفعل سائر اللغويين. ولهذا السبب عينه يذكر « مد » قبل « مدح » مثلا ولا يقدم هذه على تلك على ما نشاهده في معظم معاجم اللغة كالقاموس ولسان العرب وأساس البلاغة وتاج العروس وغيرها , والمستشرقون وضعوا معاجمهم مقتفين أثر الأصبهاني ولم يبتكروا الطريقة من عندهم بخلاف ما يظنه جمهور المتطفلين على اللغة . ويسمى الحرفان اللذان ينشأ منهما معنى , أو إن شئت فقل – ويسمى الهجاء الواحد إذا أفاد معنى – «مادة أو تركيبا أو أصلا أو ترجمة ». ويلازم كلا من هذه الأسماء الأربعة هذا الاصطلاح وإن تعدد الهجاء فكان اثنين أو ثلاثة أو أكثر. ويورد أمثلة على التصدير والحشو والكسع «التذييل». والمجتمع العربي السامي لغته واحدة , وقد اعترف العلماء قديما أن هناك لغة عربية مشتركة سميت فيما بعد باللغة العربية الفصحى وهي لغة خليطة كان يتكلم بها علية القوم أو قل المثقفون اكتسبت هذه اللغة أو قل تجمعت من كل أنحاء الجزيرة العربية بعامل المركز التجاري والديني الذي كانت تتميز به مكةالمكرمة آنذاك ولم يغفل القرآن هذا العامل إذ يقول سبحانه وتعالى :«لإيلاف قريش إيلافهم , رحلة الشتاء والصيف , فليعبدوا رب هذا البيت , الذي أطعمهم من جوع ,وآمنهم من خوف» ,هذه اللغة المقتبسة بعناية تجمعت وهو ما يوحي به المعنى اللغوي المعجمي للفظة قريش وهو الرأي الذي نذهب إليه غير مسبوقين – ليس من هذا الجانب وإنما مما سيأتي لاحقا من أن الاشتقاقات وكثرتها في العربية لم تكن كلها في مجتمع واحد وإنما تجمعت من كل هذه المجتمعات السامية قاطبة. وقد جمعوا كل ما استحسنوه وتركوا مزايا وخصائص لم يستحسنوها وأصبحت فيما بعد لغة منقاة مصفاة من العلل والخلل وهو ما أدى إلى عمليات لغوية من قلب وإبدال وتضعيف وقصر وحذف و و و الخ. الخليط الثقافي كان له سبب بارز في انحسار بقية اللهجات واحتفاظ كل بلغته وقد ظل أهل اليمن محتفظين بلغتهم إلى ما بعد الإسلام ذكر ذلك أكثر من واحد وكان الهمداني العلامة صاحب الإكليل يعرف الخط المسند ويجيده كتابة وقراءة.