رغم كبر سنه لا يزال يتنقل بين المكاتب والجهات المعنية من أجل إيصال صوته وقضيته التي يحملها في (كيسه) البلاستيكي الذي تدهورت حالته وأصبح يئن من كثرة الأحمال والهموم والقضايا التي جمعها خلال سنوات عمله الطويلة.. فهو يحمل في جعبته ثلاثة ملفات، أحدها خاص بحالته المتدهورة التي وصل إليها، والآخران يخصان دولة تتعرض للانتهاك والاعتداء والنهب بصورة يومية، قلما تجدها في أي دولة تمتلك كل هذه الثروات العظيمة. الموظف عدنان سيف أحمد (52 عاما) يستعد لتوديع عمله الذي أحبه بعد أكثر من 33 عاما من الحياة العملية المضنية.. وعدنان أو كما يحب أن يقال له (الحاج) يعمل موظفا في مكتب الثروة السمكية في عدن كمراقب بحري في بعض الأحيان، ومحصل هيئة في أحيان أخرى. لم نستطع الانتظار ونحن ننظر إلى ذلك الكيس البلاستيكي الذي لا يفارقه أينما يذهب، فأردنا أن نعرف من الحاج قصة الملفات الثلاثة التي ما إن تقرأها حتى تدمع عينك لهول ما تحتويه من فساد وظلم وقهر واضطهاد علني موثق بأوراق رسمية وبالصوت والصورة ممزوجة بسنوات عمر ضاعت بحثاً عن الإنصاف وإعادة الاعتبار لهذه الدولة التي تتعرض لسرقة ممتلكاتها أمام أعين أبنائها العاجزين عن اتخاذ أي قرار.. أخذنا ذاك الكيس وغصنا في أوراقه التي أصبحت مهترئة جراء التصفح من مكان إلى مكان. الفساد الجاثم ونهب أموال الدولة قد يثير العنوان تساؤلات كثيرة ولكن من خلال الأوراق التي احتواها الملف فإن العقل لا يمكنها التصديق، تركنا الحاج عدنان يحكي لنا عن واقع الأوراق وما تحويه من قضايا وخروقات مالية وكيف تعاملت الجهات المعنية مع هذه المواضيع.. فقال لنا: توجد في عدن 6 مراكز إنزال للإسماك.. هي (الدوكيار صيرة الشيخ عثمان البريقة فقم عمران) ويقوم الصيادون بإنزال أسماكهم فيها حيث يتم عرضها للبيع من قبل (المحرّج) حيث يتم احتساب نسبة من قيمة الاسماك بعد بيعها لصالح الدولة وتؤخذ من الصياد لهذا الغرض ومقدارها (3 بالمائة)، ويتم إعطاء المحصل المكلف من قبل مكتب الثروة السمكية الموجود في مراكز إنزال الأسماك الستة، وتختلف المبالغ التي تحصل كعائدات من مركز إلى آخر في اليوم الواحد، حيث تزيد قيمة التحصيل على نصف مليون ريال (يوميا) ويتم تسليمها إلى المحصلين المكلفين من قبل الدولة، إلا أن المبالغ الموردة يوميا لا تتجاوز 200 ألف ريال أي أقل بكثير من المحصل. فسكت قليلا وهو يقلب الملف وينظر نظرات أوحت بأن الأوراق تشكو وتئن من شدة الفساد.. وواصل الكلام بالقول: أين بقية المبالغ.. أين تذهب.. لماذا لا يتم توريدها من قبل المحصلين الذين لم يتغيروا منذ أكثر من أربع سنوات، وهذا مخالف للقانون الذي يؤكد أن المحصل يجب أن يتغير ويتنقل بين المراكز الأخرى. وتساءلت: أين أنت من المراقبة كونك أحد هؤلاء؟. فكان الرد: فعلا كنت مراقبا في مركز الدوكيار في العام 2007 وتحديدا في 20 يوليو من ذاك العام.. وبحسب المهمة التي يقوم بها المحصل أو المراقب الحكومي فهو يمنع دخول وخروج أي أسماك دون أن تكون محصلة أو بسند رسمي.. ومن خلال التكليف قمت بحصر الإنتاج السمكي وخرجت بأن المركز يحقق أرباحا باهظة للدولة من خلال النسب البسيطة المقررة على الصياد، فتم نقلي إلى مركز صيرة فعملت بذات الوتيرة، حتى اكتشفت أن هناك تلاعبا بآلاف الريالات ما بين 700 ألف إلى 800 ألف ريال، فقمت بإبلاغ المدير العام في ذلك الحين.. تعرفون ماذا كان الجواب "أنت لا تريد أن تعمل!".. وتم إيقافي مباشرة.. لم أصدق هذا القرار بعد أن اكتشفت خروقات وفسادا كبيرا.. هل هذه هي مكافأتي على هذا العمل الوطني. ثم أخرج من الملف شكوى قدمها لوكيل محافظة عدن الأخ أحمد سالم ربيع علي تضمنت كل تلك المعاناة.. وقال: قدمت تظلما لقيادة المحافظة لعلها تنصفني.. إلا ان قرار إقالة المدير العام غازي احمد صالح لحمر كانت في ذلك الحين انصافا لي، حيث تم ترقية هذا المدير إلى وكيل وزارة وتعيين آخر.. فعدت للعمل إلى مركز الدوكيار في المعلا وعملت لمدة 20 يوميا فاكتشفت أن هناك (نصب واحتيال) في التحصيل بلغت أكثر من نصف مليون ريال في اليوم الواحد.. فأبلغت مدير عام مكتب الوزارة بعدن فكان الرد لي من قبله "لا أريد أن أغضب عليك ولا اريدك ان تكلم أحدا بما توصلت إليه من خروقات ومخالفات، وانا سوف أعينك في حراج صيرة أو سوف اجعلك مراقبا فوق السفن القادمة من أجل الاصطياد في المياه الاقليمية" (مراقب بحري).. هذه كانت هي الاشارة التي لم أفهمها في ذلك الوقت.. كانت إشارة بأنني سوف أواجه صعوبات في عملي من خلال إقصائي وتهميشي وإبعادي عن اي مراقبة بحرية. المعنيون خارج التغطية لم نكن نكتفي من الملف الأول ومن هول ما يجري في مراكز الإنزال حتى أخرج الحاج عدنان سيف احمد ملفه الثاني الذي كان أشد وأعظم من سابقه.. هذه المرة ليست مشكلة تهم مراكز إنزال أو قضية عادية.. الملف كان يخص دولة كاملة تتعرض للانتهاك والتلاعب والتدمير بثروتها السمكية من قبل شركات عاملة بالاصطياد البحري في المياه الإقليمية.. قد لا يصدق القارئ هول تلك المشكلة ولكن في حال شاهد الوثائق والأفلام والصور التي جمعها الحاج سيصاب بصدمة قد تفقده عقله. الحاج عدنان وبحسب الأوامر الإدارية من قبل وزارة الثروة السمكية في حضرموتوعدن كان ضمن المراقبين على المراكب البحرية التي تصطاد في مياهنا الإقليمية.. قال: يتم ترتيب مجموعة من مراقبي محافظة عدن المنتدبين إلى مكتب الثروة السمكية بمحافظة حضرموت للعمل على قوارب الاصطياد في البحر العربي مرة واحدة وهم من الموظفين الرسميين واصحاب المؤهلات والخبرة. وعما شاهده في تلك الرحلات على متن القوارب قال: من خلال عملنا، هناك مخالفات كبيرة تكمن في رمي اسماك بكميات كبيرة تصل كل رمية من ست باليوم الواحد إلى 300 كيلو، حيث يتم اختيار نوع معين من تلك الاسماك ورمي باقي الاحياء والاسماك بعد ان تكون قد تلفت إلى البحر بطريقة عشوائية، ابلغنا الجهات المعنية برسائل وتقارير رسمية ومعززة بالصور والفيديو عما يجري فوق تلك القوارب ولكن المسؤولين في تجاهل مستمر.. متى سيستجيبون؟! هل بعد ان تكون القوارب قد انهت شيئا اسمه ثروة سمكية باليمن؟!.. ليس هذا وحسب بل ان المكاتب الوزارية التي نعمل فيها تقوم بتحذيرنا من رفع تقارير اخرى او سيتم استبعادنا نهائيا من الصعود على تلك القوارب. المشكلة التي طرحها الحاج عدنان ليست وليدة هذه اللحظة، فهي مشكلة تجاهلتها وزارة الثروة السمكية بصورة مستمرة ولأسباب كثيرة معظمها أن القوارب التي تعمل في هذا المجال تكون ذات نفوذ عال وعلى علاقه بمسئولين كبار في الدولة ما يدفع مكتب الثروة السمكية إلى تجاهل تلك القضية أو الشكاوى. وقال ان هناك شركة في حضرموت معروفة ترفض صعود المراقبين على متن قواربها التي تصطاد بطريقة عشوائية، وتقوم تلك الشركة في حال تم إرسال مراقب بحري من وزارة الثروة السمكية على إنزال محصولها المجموع في ميناء الشحر غير المؤهل من اجل التلاعب بالمحصول وعدم إعطاء إي معلومات صحيحة للمراقب البحري.. وعند رفع المراقب للتقارير عما يجري يتم تجاهلها وإبعاده مباشرة.. وانا طبعا من ضمن المجموعة التي تم إبعادها من أي مراقبة.. والسبب رفضي السكوت عن تلك الخروقات.. هذه مكافأتي الثانية!!. المواطن هو الضحية المواطن البسيط لا يدرك أن قوته من الأسماك مهدد بالخطر في حال استمرت سفن الشركات المحلية والخارجية في الاصطياد بطريقة استنزاف متعمد وبطرق عشوائية، فبالرغم من أن تلك الطريقة تم كشفها من قبل مراقبين إلا أن الجهات المسئولة في قيادة وزارة الثروة السمكية ومكاتبها تتجاهل هذه التقارير وتكتفي بالتفرج فقط دون اتخاذ إي إجراءات.. فلماذا هذا التواطؤ؟!!. معلومة يعتبر القطاع السمكي احد أهم القطاعات الاقتصادية في اليمن، وهو المصدر الثاني بعد النفط في توفير العملة الصعبة، كما انه يوفر أكثر من 70 ألف فرصة عمل في مجال الصيد و30 ألف في مجال الصناعات السمكية والأنشطة الأخرى المرتبطة بالقطاع السمكي كالنقل والخدمات العامة. وكان إنتاج اليمن من الأسماك في 2010 نحو 300 ألف طن نحو 120 مليون دولار، إلا أن هذا الرقم تراجع في العام الماضي 2011 بنسبة 35 بالمائة نتيجة الأزمة السياسية وظاهرة انعدام الديزل والمشتقات النفطية التي يحتاجها الصيادون. وزارة الثروة السمكية تعجز عن صرف تذكرة سفر! واصل تقليب اوراقه حتى جاء لملف صغير فيه أوراق وتقارير طبية فبادرت بالسؤال عن هذا الملف فكان الرد سريعا: ملف (معاناة مرض وتجاهل الوزارة).. فسألته: مرض من؟. فقال: أنا.. كثرة تنقلاتي وكبري في السن جعلني ابذل مزيدا من الجهد حتى اصبت بجلطة.. فكان والامل كان يحدوني ان تكون الوزارة التي خدمتها قرابة 33 عاما هي المساند والمعين لي في هذه المحنة التي اصبت بها.. ولكن للأسف كانت هذه سلسلة اخرى من التجاهل لحقوق العاملين.. فرغم توجيهات الوزير إلا ان الوزارة عجزت عن توفير 200 الف ريال من اجل العلاجات في الخارج إلى جانب تذكرتي سفر.. فالبرغم من خسارتي في صنعاء من اجل متابعة توجيهات وزير الثروة السمكية إلا ان الوزارة قررت تشكيل لجنة مكونة من 7 أشخاص من اجل مناقشة قضيتي وإقرار ما اذا كانت الوزارة قادرة على دفع المبلغ وقيمة التذكرتين.. فكانت الصاعقة ان الوزارة لا تستطيع تحمل هذه الاعباء.. وفق ما خرجت به اللجنة المشكلة!!. إلا انه لم يستسلم لذلك القرار، فواصل المتابعة والسفر من عدن مرة اخرى إلى صنعاء لمتابعة قضية علاجه.. فكانت خسارته اكبر.. حيث رد المسؤولون هناك على الحاج عدنان بالقول: عد إلى عدن وانتظر.. فنحن لا نستطيع حاليا توفير هذا المبلغ!. سكت الحاج وهو يضرب كفيه ويقول حسبي الله ونعم الوكيل.. إلى هذه الدرجة اصبح الإنسان صغيرا في عيون البعض. ثم بدأ يلملم اوراقه المجروحة من اجل إعادتها إلى مكانها المعتاد منذ سنوات.. لعل احد المسؤولين يخرجها من مكانها لكي تحل وتناقش بجدية وبعيدا عن اي نار قد تتلفها وتعدمها كما تم إعدام قضايا اخرى.