الحديث عن المؤسسات الثقافية الرسمية في البلاد العربية حديث يطول، ورغم خصوصيته المستمدة من نشأته ضمن سياق تاريخي واجتماعي وثقافي معين، فاننا لا يمكننا الحديث عنه بمعزل عن سياقه العام. وبالعودة سريعا إلى الوراء نجد أننا في الوطن العربي بدأنا نشهد منذ الخمسينات الميلادية، أي بعد ثورة يوليو 1952 المصرية تحديدا، قيام وزارات للثقافة أو مجالس وطنية وقومية للثقافة، لها المهمات نفسها تقريبا، ويبدو أن هذا «النموذج» قد انتقل إلينا من البلدان الاشتراكية، حيث اقتبسته منها بلدان الأنظمة العسكرية قبل أن يجري تعميمه في معظم البلدان العربية الأخرى. لا يعني هذا بالطبع عدم وجود وزارات للثقافة في بلدان أوروبية غربية، فقد وجدت مثل هذه الوزارات في البلدان الأوروبية الغربية التي تميزت بقوة القطاع العام فيها، وبتأثرها بسياسات اشتراكية مثل فرنسا. ومع أن هذه الوزارات والمجالس والمؤسسات الثقافية في البلاد العربية قد لعبت وما زالت تلعب دورا لا يجوز إنكاره في تعميم الثقافة في الأوساط الاجتماعية المتوسطة والفقيرة، على أكثر من صعيد وعبر أكثر من وسيلة، إلا أنها في الوقت نفسه خلقت كثيرا من الإشكاليات لا بد من التوقف عندها جميعا لوضع الأمور في نصابها. خلط مربك من هذه الإشكاليات مثلا خلط «السياسي» ب «الثقافي» مع ما يعنيه ذلك من إخضاع الثقافة للقرار السياسي للدولة المعنية، وبالتالي تحويلها، أي الثقافة، إلى أداة صراع سياسي، داخلي وخارجي، وصولا إلى الحديث عن «الأمن الثقافي» بكل ما يعنيه مصطلح «أمن» من انغلاق وحذر تجاه الآخر وتجاه الخارج، بحيث توضع الأصوات المخالفة والممانعة والرافضة في الداخل في الخندق نفسه مع العدو الخارجي. وهنا تكمن قمة الكارثة في التعاطي الثقافي. والإشكالية الثانية التي أود أن أشير إليها باعتبارها نتيجة طبيعية لظهور هذه المؤسسات الثقافية الرسمية هي خلط «الثقافي» ب«الإعلامي» وصولا إلى إخضاع الثقافة لضرورات المعركة الإعلامية التي تتلاءم مع خصوصية الثقافة وضرورة الحفاظ على استقلاليتها. أما الإشكالية الثالثة فهي احتكار الحركة الثقافية وتحويلها إلى حركة رسمية لتهميش كل ما هو خارج أسوارها من حياة ثقافية، خصوصا عندما تشمل سلطة هذه المؤسسات مجالات الثقافة كلها من أدب ومسرح وسينما ونشر.. الخ. وقد أممت هذه المؤسسات بالفعل كل أشكال الإنتاج الثقافي خصوصا في قطاع الطباعة والنشر في كثير من البلاد العربية. احتكار الفعل الثقافي وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن قطاع عام ثقافي يمتلك إمكانات كبيرة تجعل أي منافسة له من جهات أهلية مسألة غير مجدية، وقد قدم هذا القطاع العام الثقافي مواقع مهمة وشهرة مدوية لاسماء شعرية وروائية ومسرحية وسينمائية لا تستحق ما هي عليه، كما قدم حماية وترويجا لانتاجات ما كانت لتعيش وتستمر وتنتشر في ظروف عادية، والأمثلة على ما نقول كثيرة، وهي لا تقتصر على بلد معين دون غيره، بل نستطيع أن نتتبع تجلياتها في كل الدول العربية دون استثناء. لقد أنشأ هذا الوضع بيروقراطية ثقافية لها امتيازات تدافع عنها، مما أدى إلى تهميش الأسماء الجديدة التي لا تستطيع الانخراط في الحياة الثقافية المسيطرة باستمرار. كما خلط القطاع العام الثقافي في شكله العربي بين الثقافة والأدب وجعل منهما شيئا واحدا، وهذا خلط شائع في عالمنا العربي ساهم ويساهم في تغليب الاعتبارات الأيديولوجية على الاعتبارات الفنية التي تخضع لمعايير مختلفة. وهو الأمر الذي ساهم في إفراغ المؤسسات الثقافية من مضمونها الحقيقي وتحويلها إلى أجهزة توظيف يحل فيها الإلزام مكان الالتزام والموظف مكان المثقف..الخ. أي أن هذه المؤسسات أدت إلى خلق احتكار ثقافي يخنق ثقافة المجتمع بدل أن ينميها. ولذلك لا بد من ضوابط لعمل المؤسسات الثقافية الرسمية وحصره في إقامة بنى تحتية ثقافية من مطابع ومسارح ومختبرات... دون إغفال ضرورة أن تؤمن هذه البنية استقلاليتها المادية، ولا تضطر للعيش على المال العام دون مردودية حقيقية. المؤسسات الأهلية ولكن.. هل يمكن للمؤسسات الثقافية الأهلية غير الرسمية في العالم العربي أن تؤدي دورا ثقافيا مختلفا وأكثر فعالية مقارنة بالمؤسسات الثقافية الحكومية؟ الواقع يقول انه لا مفر من أن يقوم القطاع الأهلي الثقافي بدوره، وبأسرع وقت ممكن لأنه شرط ملزم وضروري لقيام تنمية حقيقية في المجتمع وتحقيق شرط أساسي لثقافة صحيحة، وهو الاستقلالية لكي نضمن عدم التحاق الثقافة ب «اقتصاد الترفيه» الناتج عن اقتصاد السوق الجامح من جهة، وعدم ترك الثقافة فريسة لمنطق القطاع العام الذي خلق ركودا ثقافيا نعيش كل مظاهره اليوم. لقد انتج هذا القطاع ثقافة كمية ولكنه لم ينتج ثقافة نوعية الا في ما ندر. وعلينا أن نلاحظ أن العالم ينتقل إلى مرحلة الصراع الثقافي لا الحضاري بعد أن عاش مرحلة الصراع الديني ثم مرحلة السياسي، والكلام عن صراع ثقافي أدق بكثير من الحديث عن صراع الحضارات. جدار برلين «العربي» ويكفي أن نشير إلى أن أوروبا انقسمت بعد سقوط جدار برلين إلى ثلاث أو أربع مناطق ثقافية تتصارع فيما بينها على حضارة واحدة؛ حيث استطاع الانقسام الثقافي أن يطغى على الانقسام القومي بل والديني أيضا، وهناك اليوم في أوروبا مناطق تعود للثقافات السلافية والجرمانية واللاتينية والسكسونية..، فقد استطاع «المارك الألماني» (أي الاقتصاد) أن يحقق ما فشل بتحقيقه الرايخ الثالث، ولكن في الإطار الثقافي الألماني الذي يضم بالإضافة إلى ألمانيا (بروتستانت وكاثوليك) كلا من بولونيا مع أن شعبها سلافي ومذهبه كاثوليكي وتشيكيا (سلاف وكاثوليك) أيضا، وكذلك دول البلطيق والسويد والنرويج وهولندا والدانمرك وكرواتيا والنمسا وسويسرا. وفي المقابل، قام معسكر الثقافة السلافية الذي يضم الروس والبلغار والرومان والسلوفاك، وكلها مناطق الثقافة السيريالية (نسبة إلى حرف السيريالية الذي تكتب به اللغة الروسية). أما الثقافة اللاتينية فقد شملت فرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال. أما نحن فأبناء حضارة واحدة وهي الحضارة الإسلامية ولكنها تتوزع على ثقافات عربية وفارسية وأوردية و... و...الخ. الوحدة والصراع ولا يلغي الصراع الثقافي والحضاري منطق الوحدة الحضارية، لأن اليهودية والمسيحية والاسلام تعود الى جذر واحد، وكذلك الثقافات العربية والفارسية والاوردية لها مرجعية واحدة هي الإسلام. ولا يجوز أن ننسى أن مشروع الوحدة هو دعوة ثقافية تعبر عن إرادة سياسية واحدة. فالمشروع الاوردي الوحدوي انطلق من هذه الإرادة التي بلورتها منظمات المجتمع الأهلي والمصالح المشتركة، مثل منظمة الحديد والصلب التي كانت نقطة انطلاق هذه الوحدة في روما عام 1956، والتي ترافقت مع دعوات سياسية وثقافية تحض على هذه الوحدة. لقد أجهضت الحركة الثقافية التنويرية في عالمنا العربي منذ بداية القرن العشرين، ولا يمكن أن نستعيدها الآن إلا بمبادرات من المجتمع المدني/ الأهلي لأن المجالس الثقافية الرسمية لم تستطع استئناف الحركة التنويرية في مجتمعاتنا. 11 سبتمبر وبالمناسبة.. أود أن أشير الى أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر أدخلتنا في صراع سياسي وحضاري وثقافي دون أن يكون لنا رأي فيه أو أن نكون مستعدين له. وبالطبع ما كان لفئة قليلة أن تورطنا في صراع خطير من هذا النوع لو كان لدينا ثقافة تنويرية حقيقية. فقد صادرت المؤسسات الرسمية رأينا على كل المستويات، فأفسحت المجال واسعا لفئات قليلة ومعزولة أن تتصدى للكلام باسم الجميع رغما عنهم. لقد أفقدت هذه المؤسسات مجتمعاتنا مناعتها الثقافية فجاءت التنظيمات المتطرفة لتصادر من جهة ثانية رد فعلنا وتوجهه بالاتجاه الذي تريد. وفي النهاية أود تأكيد ضرورة انحصار مهمة هذه المؤسسات الثقافية الرسمية في توفير البنى التحتية للثقافة دون التدخل في تحديد معايير الابداع، أو غيرها من التدخلات الأخرى بحجة رعاية الابداع والمبدعين.