البلدان لا تتغير، كانت اليمن بلدة طيبة، وستبقى كذلك كما وصفها الله جل وعلى (بلدة طيبة ورب غفور) صفة لم يصف الله من البلدان غيرها، الملاحظ أنه جاء وصف البلدة، ووصف الخالق، الغائب في الموضوع هو الإنسان، ذلك الكائن المُتقلب، هو الذي يفسد حياته وحياة غيره، فيحولها إلى شقاء، في هذه البلدة كل شيء ترتفع قيمته بشكل دائم وغير معقول، عدى الإنسان الذي تتناقص قيمته بنفس الدرجة. في الاقتصاد ما ينتج من حاجيات الناس من السلع والخدمات يسمى (العرض) ما يؤخذ منها يسمى (الطلب، أو الاستهلاك) وعليه فكلما زاد الإستهلاك لسلعة ما، يرتفع سعرها، فيما يتعلق بالمواطن اليمني الأمر يختلف، برغم كل هذا الاستنزاف المتزايد للإنسان، إلا أن قيمته لا تزال في انخفاض مستمر، بل كلما زاد الاستنزاف قلت قيمة هذا المواطن، فصار القتل عملية إجرائية لا تكلف كثيراً، مرةَ رأيت شخصين يتشاجرا، فقال أحدهم للآخر بما يفيد (عسى الله كم قيمتك، حبة رصاص) إذاً: هكذا يُقيم الإنسان في اليمن، في الفترة الماضية، كانت مؤشرات البورصة لقيمة الإنسان في اليمن، تقول بأن قيمته (200ريال) عندما بدأ الحرب في دماج ارتفعت تلك القيمة إلى (350ريال) لكن المؤشرات اليوم تقول بأن القيمة الفعلية صارت (150ريال). وهكذا لم يعد الإنسان إنساناً في اليمن بل تحول إلى سلعة، هي أرخص ما على هذه البلدة، في أحيان كثيرة يمكن أن يموت المواطن اليمني، بدون أن يكلف أحداً ريالاً واحداً، يقول تقرير إحدى المنظمات الدولية، بأن90% ممن أصيبوا في العاصمة صنعاء، منذ عاصفة الحزم حتى تاريخ التقرير قبل ثلاثة أسابيع، هي بسبب الراجع، منذ دماج وعمران، كان يطلق على المقاتلين مع الحوثي من غير المنتمين إليه سُلالياً، لقب (أبو ألفين) يروي أحدهم قصة صديقه الذي ذهب للقتال مع الحوثي، وبإعجوبة فر من المعركة، يقول: الحوثيون يتاجرون بالرجال، سألته كيف ذلك؟! قال: من يقنع أحد للقتال معهم، يحصل على مبلغ معين عن كل شخص !!! عندها تصير ملكاً لهم، وحين تكون مقاتلاً في صفوفهم، ستكون في المقدمة -بغض النظر عن الخِبرة والتدريب- هناك ليس أمامك إلا أن تتقدم إلى الأمام، تراجعك إلى الخلف سيجعلهم يدفعون ثمنك النهائي(طلقه من الخلف) ثم يتركونك وينصرفون، هكذا بكل بساطة، الشيخ المخلافي في حواره الصحفي الأخير يقول (الحوثيون يُفرقون بين قتلاهم، في واحدة من عمليات تبادل الأسرى عبر وسطاء، كانوا يسالون عن شخص من بيت الكبسي، قالوا في وجهه علامة معينة، قلنا لهم لدينا تسع جثث تابعة لكم، لكنهم لم يلتفتوا إلا لذلك الواحد) بقية الجثث لم تكن ذا قيمة بالنسبة لهم. تاجر الدماء والأشلاء في اليمن تحول البشر إلى سلعة للمتاجرة بها، أكبر رجل أعمال في هذا المجال، هو علي صالح، هو يستخدم صيغة أخرى للتعبير عن هذه السلعة (كروت) تلاه في المرتبة الثانية الحوثي، هم حالياً شركاء، صالح لا يوجد لديه مشاريع سوى ما يتعلق بذاته، شواهد كثيرة تدل على ذلك. *-في (كوانت نامو) كان الأسرى فيها من جنسيات مختلفة، كافة الدول التي لديها أسرى هناك، شكلت لجان قانونية لمتابعة أسراها والدفاع عنهم وإخراجهم، عدى اليمنيين الذين كان لهم وضع آخر، تقول وثائق (ويكيليكس) بأن الإدارة الأمريكية في فترة معينة خاطبت السلطات اليمنية بأن تتقدم لاستلام أسراها، لكن صالح طالبها بمبالغ مالية كبيرة نظير استلامهم، بحجة أنه سيقيم لهم مباني ومعاهد لتأهيلهم، لعله أراد أن يؤهلهم كما أهل خمسة وعشرين مليون يمني، في الوقت الذي حول إيرادات البلد إلى رصيده الخاص؟!. *-ما جاء في شهادة هاني مجاهد (العميل المزدوج بين القاعدة وصالح، الذي بُث مؤخراً في فلم وثائقي عبر قناة الجزيرة بداية الشهر الحالي) كان صادماً ليس فقط لليمنيين، بل للولايات المتحدة ذاتها، التي اكتشفت بأنها مخدوعة بهذا الرجل، تماماً كما خدع الشعب اليمني، هاني مجاهد تحدث في شهادته، عن بعض التفجيرات التي كانت تتم باسم القاعدة مثل (السفارة الأمريكية، السائحين في مأرب، عملية وزارة الدفاع في العرضي، وغيرها) يقول بأنه كان يخاطر بحياته لكي يُبلّغ السلطات اليمنية بتفاصيل العملية قبل موعدها بكثير ولأكثر من مرة، لكنه يفاجئ بتنفيذها بكل دقة، ليكتشف لاحقاً، بأن قيادات تنظيم القاعدة، تلتقي بالقيادات الأمنية في نظام صالح –ابن أخيه عمار- وتستلم منها الأموال والمتفجرات، وكان النظام هو الذي يسهل لها القيام بمثل تلك العمليات. كما أكدت تلك الشهادة، بأن القاعدة في اليمن هي عملية تجارية بالنسبة لصالح، بل مصدر دخل من الولاياتالمتحدة، برغم أن تلك العمليات كان يذهب فيها العديد من الأبرياء، لكنه يساعد في نجاحها، ليطالب الولاياتالمتحدة بمبالغ مالية كبيرة وأسلحة حديثة ومتطورة بحجة محاربة القاعدة، اليوم ناصر الوحيشي قائد التنظيم تم بيعه بثمنٍ بخس، ليكون الزعيم الجديد هو قاسم الريمي، العميل بين القاعدة وصالح، حسب الشهادة، لعل الهدف من ذلك يتمثل في أدوار قادمة للتنظيم الذي أصبح تحت إدارة صالح بشكل تام، أو أن عمليه البيع للقائد السابق، هدفها تأكيد للولايات المتحدة بأن التنظيم بكامله سيكون تحت سيطرة صالح. *-الحروب الست بين صالح والحوثي، يعترف المتحدث باسم الحوثي بأنهم قتلوا فيها من الجيش، أكثر من60الف جندي، لا أحد يعرف كم قتل فيها من الحوثيين والمدنيين، لكن الجميع بات الآن يعرف بأن العملية بكاملها، لم تكن سوى مصدر دخل لصالح، الذي كان يهدد بهم دول الجوار، ليستلم المزيد من المال، يقول الرئيس هادي في مقابلته مع قناة العربية مؤخراً: بأن صالح سلم للحوثيين أربعة ألوية بكل عتادها، خلال تلك الحرب، ويقول الضابط جواس في لقاء تحدث فيه عن الحرب مع الحوثي وكان قائداً فيها، وهو المتهم بقتل حسين الحوثي، بأن الأسلحة كانت تصل الحوثيين قبل أن تصل للجيش. *-اليوم: ما سبب كل هذا القتل في المحافظاتاليمنية، التي راح ضحيتها آلاف البشر، يقولون بأنهم يقاتلون الدواعش والتكفيريين، هذه المسميات ليست سوى تسميات حديثة لليمنيين، الذين يستخدمهم صالح والحوثي كسلعة، يتاجران بها لتحقيق مكاسب سياسية، اليمنيين اليوم كلهم بدون استثناء، سلع تجارية بالنسبة لصالح والحوثي، يستخدمهم لتحقيق مكاسب سياسية في تفاوضاتهم الحالية بجنيف وغيرها. في بداية الحرب عرض صالح على المملكة البقاء في الحكم وكان مخزونه من السلع البشرية حينها(105الف) في الحرس الجمهوري والأمن المركزي، قال بأنه سيقاتل بهم الحوثي، إن وافقت على أن يكون نجله حاكماً على اليمن، الجميع في ميزان صالح أمام مصالحه الشخصية لا قيمة لهم، إجمالي قيمة العسكري في قوات صالح تساوي(35الف ريال) (الراتب) بهذا المبلغ يشتريهم ليقدمهم للموت، وحين يموتون يصيرون كروت منتهية الصلاحية، أبنائهم، نسائهم، أمهاتهم، الكل كروت لا قيمة له، لذلك فهم في عداد المنسيين، لا أحد يمكن أن يتذكر كرتاً استخدمه في يوم من الأيام. *-منع الخدمات المختلفة عن الشعب وحصاره بهذه الصورة، ثم المتاجرة بتلك المواد في السوق السوداء بأغلى الأثمان، هي في القانون الدولي، جرائم ضد الإنسانية، لكن الإنسان في اليمن لا قيمة له، لا عند قيادات نظامه، ولا عند المنظمات الدولية، صالح في خطابه الأخير قال: بأن أهم شيء الإنسان -لا أدري إن كان يقصد أهميته بالنسبة إليه كسلعة- لأنه في نفس الخطاب، دعا أنصاره إلى حمل الأسلحة، ووضع الرؤوس على الأكف، لمواجهة ما سماه بالأخطبوط في الداخل، الذي قال بأنه أشد خطراً من الخارج، ذلك الأخطبوط في حقيقة الأمر هو كل يمني يعارض طريقة حكمه، كل أولائك يصيروا أخطبوط لا قيمة لهم. في اليمن الأحجار أكثر أهمية من الإنسان. في ثورة فبراير2011م حدثت مجازر مروعة، قتل فيها الآلاف، وكان مبرر النظام حينها أن الثوار حاولوا -فقط حاولوا- اقتحام المباني الحكومية، العجيب أنه في 21سبتمبر2014م دخل الحوثيون كافة المباني الحكومية، وعلى رأسها القيادة العامة للقوات المسلحة، دون أن يطلق الجيش طلقة واحدة، إذاً: القضية ليست قضية مباني، القضية استرخاص لقيمة هذا الإنسان، وإمعان في القتل. اليوم عندما يريد إعلام الحوثي وصالح، أن يشنوا حملة على ما يسموه بجرائم الإعتداء السعودي على اليمن، يقولون بأن العدوان السعودي يدمر المنشآت والمباني، أحدهم أرسل إلي صورة لطريق لا أدري في أي منطقة تقع، قال بأن التحالف دمرها، كان متحسراً جداً، برغم أن الصورة توضح الطريق وهي في أتم الصحة والعافية، لكنه قال بأنه سمع ذلك -يسمون هذه الأمور بنية تحتية، ولست أدري أي بنية تحتية لدى المواطن اليمني، نعم الشعب بكامله تحت لكنه بدون بنية-. حملات مكثفة في الأسبوع الماضي، تقول بأن التحالف ضرب سد مأرب، وقصف الأعمدة في عرش بلقيس، و أخيراً: صنعاء القديمة، وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، لكن ما أريد قوله وأتعجب منه، أن مثل تلك الدعوات، وجدت تفاعلاً كبيراً، وتنديداً واسعاً، ترى هل صارت الأحجار والمباني أكثر أهمية من الإنسان في اليمن؟! الم يقل النبي صل الله عليه وآله وسلم) لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)وروي بلفظ (لهدم الكعبة حجراً حجرا أهون من قتل مسلم) كما جاء في سنن ابن ماجه في باب التغليط في قتل مسلم، وفي النسائي والترمذي وصححه الألباني. فأي قيمة لكل المباني والمنشآت أياً كانت، بعد أن ينتهي الإنسان، وأي قدسية لتلك المباني والمنشآت، ألا يجب أن تتقزم قدسيتها، أمام قدسية الكعبة، والدنيا بحذافيرها، التي زوالها أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق، كما في الحديث السابق؟!. نقلت وسائل التواصل الإجتماعي صوراً الجرافات وهي تقوم بجرف جثث القتلى، بطريقة مروعة، ومع ذلك لم أجد مثل ذلك التفاعل، وذلك الغضب، الذي رافق الحديث عن المباني والمنشئات، لم يسال أحد ما سبب كل تلك الجثث، ومن وراء كل ذلك القتل. بربك:هل يُدرك الناس، خطورة استرخاص النفس بتلك الطريقة، والقتل على ذلك النحو، فقط إطلق على من تريد قتله، لقب تكفيري أو داعشي، فيصبح حلالاً قتله، بل وتصير مجاهداً، وهناك من يؤيد ذلك ويدافع ويبرر لتلك الأعمال، يبدو أن الناس قد هانت عليهم نفوسهم، أو أنهم أصبحوا غير قادرين على أن يضعوا أنفسهم في أماكن المكلومين من ذوي القتلى، لقد تبلدت المشاعر، لا يحسون بذلك إلا عندما يصير بهم نفس ذلك المصير، عندها يدركون بأن المقتولين بشراً، وأن لهم أسر وأبناء وأقارب، وأن لهم حرمة مقدسة، وأن القاتل قد أسرف كثيراً، وان الدنيا كلها لا تساوي شيء أمام مصابهم. أخيراً: لم أجد عبارة أكثر تعبيراً لكي أختم بها هذا الموضوع، من هذه الأبيات في واحدة من أروع روائع الأديب/عبدالله البردوني (غريبان وكانا هما البلد) التي كتبها في سبتمبر1974م، هي طويلة تحكي غربة يمنيين في الخارج، يسائل المغترب أحد القادمين الجدد عن أحوال اليمن، فعرج على أحداث الحرب بين الجمهوريين والملكيين، بعد ثورة سبتمبر1962م بما يشبه الأوضاع الحالية اليوم. ماذا جرى في السنين الست في سفري؟! *** أخشى وقوع الذي ما دار في خلدي مارستُ يا عم حرب السبعِ مُتقداً *** تقودني فطنة أغبى من الوتدِ كانت بلا أرجلٍ تمشي بلا نظرٍ *** كان القتال بلا داعي سوى العددِ وكيف كنتم تنوحون الرجال؟! ***بلا نوحٍ نموتُ كما نحيا بلا رَشدِ فوجٌ يموتُ وننساه بأربعةٍ *** فلم يعد أحدٌ يبكي على أحدِ وفوق ذلك ألقى ألفُ مُرتزقٍ *** في اليوم، يسألني ما لون مُعتقدي بلا اعتقادٍ، وهم مثلي، بلا هدفٍ *** يا عمُ ما أرخص الإنسان في بلدي [email protected]