أينما كنت وفي أي مكان من ربوع السعيدة، لن تفقدهم، وإن اختلفت الأساليب التي يتفننون بها من أجل استعطاف الآخرين واسترحامهم، وربما يلجأ بعضهم إلى القوة لأخذ ما يدعي أنه حق له (بالصميل). وأنت تسير في الشارع، لاسيما إذا ظهرت عليك آثار النعمة من ملابسك ومظهرك سيصادفك أحدهم- عجوزاً أو شاباً- أشعث الرأس رث الثياب، ركيك البنية عليه صفرة الأموات، يمد يده إليك بالسؤال، لتتصدق عليه، ويبدأ يشرح لك حالته، لأجل أن تعطف عليه، وترحمه فإن رق قلبك، وعلمت صدق حاله ستجود عليه بما يسّر الله لك، وإلا ستتولى عنه مدبراً وتودعه بعبارة "الله كريم"، عندها سيبحث عن شخص آخر.
إذا كنت طالباً في الجامعة ستفاجأ وأنت في قاعة المحاضرة والمحاضر يلقي الدرس على طلابه، بقرع الباب، وعندما يفتح ترى أحدهم يستعطف ويسترحم الطلاب لأجل الصدقة عليه. إذا كان المحاضر ذا قلب رحيم سيتوقف عن المحاضرة ويأمر أحد الطلاب بجمع التبرعات لهذا المسكين، وإن كان من الأشقاء الوافدين ستأخذه الدهشة والاستغراب مما يرى، لأنه لم يسبق أن مر عليه هذا المشهد إلا في اليمن الشقيق.
حسناً.. الآن أذن المؤذن للصلاة فدخلت الجامع وصليت مع الإمام حتى سلم، وفي هذه اللحظة حدث ولا حرج.. أكثر من واحد تظنهم يتسابقون إلى المقدمة لإلقاء موعظة أو خاطرة يذكّرون بها عباد الل،ه وإذا بهم تتعالى صيحاتهم، وكلٌ يشكو حالته ويستعطف المصلين ويستجديهم. ولأن هذا المشهد يتكرر عقب كل صلاة أصبح كأنه ذكر مأثور يتلازم مع قراءة آية الكرسي والأذكار. وأقسم أني في بعض الأوقات إذا صليت وسلم الإمام ولم أرَ متسولاً يقف أمام المصلين أحس أن شيئاً ما ناقصاً!.
هذه عينة من التسول، بصرف النظر عما إذا كان من يزاولونها محتاجين فعلاً أو أنهم اتخذوها مهنة لهم لا يستطيعون العيش بدونها. أما غيرها فهي مما يزيد الطين بله ويزيد القلب ألماً وحسرة، فالعسكري- مثلاً- إذا كلف بمهمة يتناسى أنه موظف دولة، ويتقاضى أجراً مقابل خدمته، لا يقتات على نوال المواطنين وعطاءات الغلابى والمقهورين! أو أنه ربما رأى من هو أعلى منه رتبة ومكانة فسار على نهجه وخطته وما حاد يوماً على ذلك. ولكم يتكرر هذا المشهد عند الموظفين في وزارة الأشغال العامة والطرق ومكاتبها، وفي البلدية والمكلفين بالضرائب وغيرها.
عند ذهابك إلى أي مرفق حكومي ستندهش عندما ترى أحدهم يلبس الكرفتة والبدلة الفرنسية جالساً على كرسي دوار، وإذا كان لديك معاملة تريد أن تتمها أو ورقة تريد أن توقعها أو مشكلة تريد حلها، ستفاجأ بأنه يمد يده إليك يستعطفك، ولكن بطريقته الخاصة، وسيقولها صراحة: هات حق ابن هادي.. هات حق القات، ويا عجبي؟ بالرغم من أنك تطالب بحق مشروع لك أصلاً. وهكذا داليك.. كلما نظرت إلى من هو أعلى رتبة، ستجد أنه يمارس المهنة نفسها، إلا أن الفرق هو مقدار العطاء بما يتناسب مع مكانته ورتبته.
ولتنظر إلى دولتنا وحكومتنا الرشيدة تجد أنها تمد يدها إلى منظمات عالمية ودول كبرى مانحة تطلب منها العون والمساعدة، بحجة القضاء البطالة والفقر والمرض. وربما لو سلمنا من أعمالهم وتصرفهم العشوائي بالمال العام لكانت الدنيا بألف خير، فهم سبب الجهل والبطالة والفقر، لأنهم يسيرون بالبلاد إلى الهاوية، كل همهم مصالحهم الشخصية ومناصبهم الرفيعة ومراكبهم الهنيئة وقصورهم الفارهة، ليتحمل المواطن بقية العناء والتعب ومذلة السؤال.