عندما قرر التجمع اليمني للإصلاح تأجيل مؤتمره العام الخامس الذي كان من المفترض انعقاده في شهر فبراير 2011، كانت اليمن تشهد إرهاصات ثورة شبابية على خطى الثورتين التونسية والمصرية، وكان على الإصلاح وأحزاب المعارضة حسم خياراتها بشأن الانضمام للثورة أو الاكتفاء بالحوار مع السلطة بالاستفادة من ضغط الزخم الجماهيري، وتداعيات الحراك الشعبي العربي في أكثر من دولة. وليس خافياً أن موقف المعارضة كان ولا يزال رهن موقف حزب الإصلاح الذي يعد أوسع أحزاب اللقاء المشترك جماهيرية، وأفضلها من ناحية الإمكانات المادية والبشرية، والاقتدار التنظيمي، بالإضافة إلى علاقات الحزب بالأوساط القبلية النافذة في البلاد. لم يتأخر موقف الإصلاح كثيراً، فقد أعلن مع اللقاء المشترك عن الالتحام بالثورة الشبابية المطالبة بالتغيير وإسقاط النظام، وشهدت جمعة الوحدة والتلاحم في 25 فبراير2011 زخماً شعبياً في مختلف الساحات اليمنية، ما منح الثورة الشبابية دفعة قوية إلى الأمام. والسؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي دفع حزب الإصلاح إلى الانضمام للثورة، مع العلم أن تجربة الحزب التاريخية نجحت لفترة طويلة في تجنب الصدام المباشر مع السلطة والنظام الحاكم؟ ويكتسب السؤال أهميته إذا عرفنا أيضاً أن الإصلاح، باعتباره امتداد لحركة الإخوان المسلمين، نشأ وترعرع في حضن السلطة، وظل على تحالف استراتيجي مع نظام علي عبدالله صالح قبل الوحدة وبعدها إلى عام 2001، حيث سلكت علاقة الإصلاح بالرئيس طريق المواجهة وإن بشكل متدرج وصل ذروته في الانتخابات الرئاسية 2006. للإجابة على السؤال آنف الذكر، يمكن القول أن حزب الإصلاح ومعه أحزاب اللقاء المشترك وصلت إلى طريق مسدود وهي تحاول إقناع النظام الحاكم بالعمل معاً على الإصلاح السياسي والانتخابي، بما يصون المشروع الديمقراطي، باعتباره صمام أمان الاستقرار والتنمية. ويعرف المتابع للشأن السياسي اليمني أن أحزاب اللقاء المشترك قدمت الكثير من التنازلات في سبيل التوصل إلى تفاهم وطني يفضي إلى حلحلة الأزمة السياسية، ويحول دون إعلان اليمن كدولة فاشلة تتناوشها الخطوب من كل جانب. كانت هذه التنازلات على حساب علاقة المشترك بأعضائه و مناصريه وبعموم فئات الشعب اليمني التي كانت تنتظر من المعارضة مواقف أشد حزماً تجاه نظام يلعب بالوقت والأوراق ويقامر بمستقبل شعب يتكبد ويلات سلطة مستبدة على مدى 33 عاماً. ورغم أن المجتمع الدولي قد نبه ومنذ وقت مبكر إلى خطورة الحالة اليمنية بمختلف تشعباتها، إلا أن استجابة النظام الحاكم كانت محدودة حتى وقد بات الدرس التونسي ينذر بزلزال عنيف يضرب عروش التسلط العربي. ولأن السلطة تعمدت تجاهل الحالة التونسية، فقد جاءت الثورة المصرية لتؤكد أن المنطقة دخلت عصر " الشعب يريد " ، وهو الأمر الذي استجابت له المعارضة، كما أسلفنا، وزاد الأمر بالنسبة للإصلاح أن الحركات الإسلامية كانت في قلب الثورتين المصرية والتونسية، وكان أمام الإصلاح استحقاق تاريخي استوجب إغفال كثير من المحاذير التي اعتادها الحزب في معارضته للسلطة. وخلال شهري فبراير ومارس اكتسبت الثورة اليمنية ألقاً غير مسبوق، واتسع نطاق شعبيتها لتتجاوز الحالة المصرية، ويرجع الفضل في نسبة كبيرة منه إلى جماهير الإصلاح المنظمة والمنخرطة في ساحات الحرية والتغيير، والتي حافظت قبل كل شيء على " سلمية الثورة " في مجتمع قبلي مسلح كان العالم يرى فيه القابلية للحرب والعنف. لقد كان المشهد الثوري في الجوف ومأرب مثلاً، دليلاً على مدى القوة التنظيمية لحزب الإصلاح، وتأثيرها على الوعي القبلي، ولجم نوازع العنف، برغم عنفوان الثورة، وحماس شبابها، وكانت النتيجة أن المجتمع القبلي المسلح الذي اشتهر بأعمال الخطف وقطع الطرقات، انخرط في مسيرات واعتصامات سلمية، واجهت الرصاص الحي بصدور عارية! المرأة اليمنية خرجت هي الأخرى إلى ساحات الثورة، وبزخم غير مسبوق، وكانت نسبة كبيرة من النساء مؤطرات في حزب الإصلاح. وكما تحمل الإصلاح وأنصاره عبئاً كبيراً في إطار دعم مخيمات الثورة، والحملة الإعلامية، والتواصل مع القوى والشخصيات الاجتماعية النافذة في البلد، سقط للحزب شهداء في أكثر من ساحة، وعاش قياديو الإصلاح مرحلة حذر وترقب استلزمت نوعاً من الاحتياطات الأمنية ما أثر بشكل أو بآخر على حركة الحزب وتنقلات قياديه واتصالاتهم. جمعة الكرامة وتداعياتها في 18 مارس 2011 ، بلغت الثورة الشعبية ذروتها، واكتمل الحماس الثوري الذي دفع بمئات الشباب إلى طلب الشهادة من أجل كرامة الوطن، ولذا سمي حشد ذلك اليوم ب " جمعة الكرامة"، وفضل البعض تسميته ب " جمعة الإنذار"، في الوقت الذي أدركت فيه أجهزة النظام القمعية أنها عاجزة بالفعل عن احتواء ثورة بهذا القدر الهائل من الزخم، فكانت المجزرة البشعة بعيد صلاة جمعة ذلك اليوم، عندما أعتلى " القناصة " أسطح المنازل المطلة على ساحة التغيير بصنعاء، واستهدفوا رؤوس وأعناق العشرات من الشباب، الذين ضربوا بدورهم أروع دروس التضحيات والفداء، بعد أن سقط منهم ما يقارب 55 شهيداً، ومئات الجرحى. ارتدت " المذبحة " على النظام، فباتت أركانه تتهاوى بفعل الاستقالات الجماعية من مؤسسات الدولة، وإعلان جزء كبير من قيادات الجيش عن انضمامهم للثورة، وكان واضحاً حينها أن سقوط النظام أصبح وشيكاً جداً، وهو بالفعل ما كاد أن يحدث عندما استغاث الرئيس صالح بالسفير الأمريكي، لترتيب نقل السلطة سلمياً وبما يحفظ كرامة الرئيس، وكان الاتفاق قد أقر بالفعل الإعلان عن نقل السلطة في 26 مارس 2011، لولا أن صالح انقلب – كعادته – على اتفاق قيل أنه خط بنوده بيده. في هذه الأجواء كانت النشوة تغمر الثوار، و كانت كوادر الإصلاح تعيش فرحة انتصار الثورة والوصول إلى السلطة، في الوقت الذي استنجد فيه رئيس النظام بدول الخليج كي تضمن له خروجاً آمناً من السلطة.. هنا كانت المبادرة الخليجية بمثابة طوق النجاة الذي أنقذ صالح إلى حين. وظناً من المشترك والإصلاح أن النظام قد سقط بالفعل، ولم يتبق سوى الترتيب لتشييع جنازته، انخرطت المعارضة في التفاهم السياسي والقبول بالمبادرة الخليجية، رغم رفض الشباب الثائرين و تحذيرهم المبكر من الوصاية الأمريكية / السعودية على اليمن. استغل النظام ارتباك القوى الثورية، فماطل وراوغ الداخل والخارج، واستفاد من الوقت المتاح لإعادة ترتيب أوراقه من جديد ليظهر في الأخير رافضاً ومتحدياً جهود الوساطة، ومعلناً جهوزيته لخوض حرب دامية دفاعاً عما يسميه ب " الشرعية الدستورية"! وهكذا انتقل المشهد السياسي من مربع الثورة إلى مربع الأزمة السياسية، مع استعداد الأطراف للحرب، وبات على الإصلاح أن يتعامل مع واقع جديد ينذر بما كان يخشاه الحزب ويتجنبه منذ تأسيسه قبل عشرين عاماً. بدخول الثورة مربع الأزمة ، وبعد أن طال مكوث الشباب في الساحات، وفي ظل الخوف من فشل الثورة طفت إلى السطح نتوءات كانت بالنسبة للثورة من مخلفات الماضي، وبدا أن الجسم الثوري المتماسك يعاني بعض الاختلالات أغلبها ذات صلة بعلاقة حزب الإصلاح بالقوى الثورية الأخرى، كجماعة الحوثي، وبشباب وشابات اليسار إن جاز التعبير. ففي إحدى المسيرات الثورية بالعاصمة صنعاء تعرضت نخبة من المثقفات والناشطات الحقوقية للإعتداء المباشر من قبل عساكر القوات المنظمة إلى الثورة، وبتواطؤ من اللجنة الأمنية المحسوبة على حزب الإصلاح، وبذريعة منع الاختلاط بين الرجال والنساء في المسيرة. لقد بدا الأمر هنا وكأن الإصلاح لا يحتمل مشاركة المرأة فعلياً في الثورة بقدر ما يستأنس لحشدهن كقطيع يسمع ويطيع لا أكثر! وعلى صلة بالنفس السلفي المتشدد تجاه المرأة، عبر العلماء المنظمين إلى الثورة – أغلبهم من الإصلاح- عن ضيقهم بشعار الدولة المدنية كهدف أساسي التقى عليه الثوار الشباب في مختلف الساحات اليمنية، و بفضل محاضرة مسجلة للشيخ عبد المجيد الزنداني، ثار الجدل حول دعوة الزنداني للدولة الإسلامية، ومدى تعارضها مع " الدولة المدنية". وإذ فضلت قيادات الإصلاح السياسية والفكرية عدم الخوض في هذا النقاش، فقد اعتبر صمتها انحيازاً للقوى التقليدية، تماماً كما حدث مع قضية الإعتداء على النساء الثائرات. العلاقة بجماعة الحوثي هي الأخرى شهدت توتراً طيلة الأشهر الماضية، فشباب الجماعة المتواجدون في أكثر من ساحة وجدوا أنفسهم مضطرين للتعامل مع القوات المنظمة للثورة مع أن قياداتها كانت رأس الحربة في حروب صعدة التي اتسمت بتعبئة مذهبية تورط فيها عدد من السلفييين و الإصلاحيين. وبرغم أن شباب الإصلاح كما الشباب الزيديين كانوا على وفاق غالباً، إلا أن النزعة المذهبية وتراكمات الماضي أفضت في كثير من الحالات إلى سوء فهم جر الشباب إلى خلافات ثانوية خارج صلب الهدف الثوري العام. ساعد على ذلك أن طرفا الصراع على سد فراغ الدولة في محافظة الجوف لم يكونا سوى الإصلاح وجماعة الحوثي. ودخل الطرفان في مواجهات مسلحة أكثر من مرة قبل أن يتدخل اللقاء المشترك لينتهي الأمر إلى إعلان اتفاق لتقاسم النفوذ في الجوف و تعيين محافظ للمحافظة بتوافق بين الطرفين. ويحسب للإصلاح في هذا التفاهم أنه تخطى القوى المشيخية الدينية والقبلية في محافظة الجوف وفرض عليهم التسوية السياسية مع الحوثيين بما يخدم المصلحة الثورية ومصلحة الحزب ككيان براجماتي تفرض عليه التطورات التعامل بمنطق السياسة وحكمتها، " فحيثما تكون المصلحة العامة فثم شرع الله". الإصلاح والعنف على أن الملف الأخطر بالنسبة لمستقبل الثورة والإصلاح، مرتبط بحالة العنف التي تعيشها البلد على هامش الثورة في أبين وتعز وشمال صنعاء. ورغم أن القبائل هي التي تتصدى بشكل مباشر لاعتداءات قوات بقايا نظام صالح، إلا أن غالبية القبائل المسلحة المنظمة للثورة محسوبة تنظيمياً على حزب الإصلاح، وفوق ذلك فإن التعبئة الجهادية دفعت بشباب الإصلاح للمشاركة في المواجهات حتى وهم لا ينتمون قبلياً إلى مناطق الحرب. صحيح أن المواجهات تدور تحت غطاء الشرعية الثورية إلا أن بعض الشباب في الساحات لا يؤيدون " عسكرة الثورة " ويحرصون على طابعها السلمي وإن طال بهم المكوث في الساحات. من هذا المدخل تنفذ أباطيل إعلام بقايا النظام لتصور للرأي العام أن المواجهات المسلحة تدور بين جيش الدولة وقوى إرهابية متمردة تنتمي إلى حزب الإصلاح، في تضليل مزدوج يهدف إلى جلب التأييد الدولي لاستمرار النظام، وإلى تحييد بقية القوى الثورية. و يخشى أن تنزلق البلد إلى حرب شاملة مع إعلان اللقاء المشترك للمجلس الوطني، وهو ما يعني إغلاق باب الحوار مع المؤتمر الشعبي العام، والشروع في " الحرب" على خطى السيناريو الليبي. وفي ظل الحرب الشاملة يغدو حزب الإصلاح وقد انزلق إلى فخ العنف الذي تجنبه طويلاً. وسيكون من الضروري على الحزب والثورة الحسم السريع، رغم أن مؤشرات توازن القوى توحي أن الحرب ستطول، وأنها في ظل ماكنة التضليل التي تستهدف حزب الإصلاح قد تقود البلاد إلى الحالة الجزائرية بكل تفاصيلها المرعبة لا سمح الله! هنا يمكن القول أن من مصلحة الإصلاح والثورة التوصل إلى اتفاق سياسي مع بقايا النظام على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب " ، فالحرب الشاملة في بلد كاليمن كارثة بكل المقاييس، والمنتصر فيها مهزوم كما يقال!