بحذر مدعوم شعبياً، وفي فترة هي الأصعب على حياة اليمنيين منذ قيام الوحدة: صعد عبد ربه منصور هادي ليتبوأ الكرسي الأول في البلاد، وسط تحديق شرير من بقايا العائلة وثوار ينتظرون إحراز تقدم في تحقيق أهدافهم. وإذ يتطلع اليمنيون إلى حياة أفضل في ظل كثير من المصاعب والتعقيدات، يبقى على الرئيس الجديد معرفة أن الثورة قد أدت إلى نشوء «مواطن الثورة»، كما أن العاطفة الثورية لا يمكن إخمادها بسهولة بقدر ما هي عاطفة متقدة وتستجد عند أول إحساس بفقدان الجدوى نهائياً أو تفاقم العبث الوطني بلا حدود. لذلك يريد الشعب من عبد ربه منصور هادي أن يراه متفانياً في تحرير نشاطه من حزب علي عبد الله صالح بصفته رئيساً لكل اليمنيين. ولئن كان الرجل مثقلاً جداً بالمسؤولية فإنه لن ينتصر أبداً دون تفعيله لإيديولوجية الخيار الوطني. بالتأكيد لا يمكن تمرير مشروع إعادة تدوير بقايا العائلة في الجيش والأمن تحت أي مبرر كان، ما يعني أن على الرئيس الجديد إعادة إقامة التوازنات السياسية التي دمرها مشروع التوريث واستفراد عائلة الرئيس السابق بأحلام وطموحات اليمنيين على نحو همجي لا شرعي بالغ السوء و«الهنجمة». والشاهد أن الاحتمالات متوفرة بقدرة عبد ربه على تجنيب اليمنيين التواقين للحرية والكرامة شعور الإجحاف والغبن، غير انه يعرف تماماً أنه محاط بحفنة من المخلصين لعلي عبد الله صالح في حزبه المؤتمر، سيدأبون لا محالة من اجل الحد من نفوذه إضافة إلى التأثير سلباً على كل فاعلية وطنية منتظرة منه. الأمر يتطلب إذاً: مساندة داخلية وخارجية لائقة حتى يستطيع عبد ربه أن يعمل برؤية شاملة لمعاناة اليمن واليمنيين، إذ ما دون ذلك سيبقى التغيير مجرداً كمعنى من أهم ميزاته ودلالاته. ولحسن الحظ، فقد جاءت المبادرة بعبد ربه وفق مباركة دولية وإقليمية ومحلية واسعة التفهم للمشكلة اليمنية الأعمق عربياً من ناحيتي الفساد والتوريث. على أن عبد ربه منصور هادي قد قبل بتحمل كل هذه المشقة، بل لعله أكثر من يعرف تردّي منظومة الدولة بسبب ممارسات أنصار فساد نظام علي عبد الله صالح طوال سنوات. فإذا كانت الشلة المؤتمرية التوريثية بالذات -حسب رأينا- هي المتحمسة الأكبر لإعاقة عبد ربه عن أي معنى تغييري، يتوجب عليه جيداً عدم ممالأة الأغبياء الصغار في حزب علي عبد الله صالح، نافخاً روح الطمأنينة في الشعب بوضع مسافة بينه وبينهم كنافذين معيقين لأي صيغة وطنية جديرة كما نعرف. والأهم في هذا كله هو انفراطه الجريء الذي سيُمجد شعبياً عن تلك الشلة المؤتمرية التوريثية ليحترمه اليمنيون أكثر، حيث وان الأسوأ في هؤلاء أنهم يقدمون وصفاً مشوهاً لكل مشاكل البلد ومنهم ضالعون ومتمرسون في الفساد والتخريب المتعمّد لموارد البلاد. ففي معرض إجابتي لجريدة «الشرق الأوسط» اللندنية مؤخراً عن سؤالها «ماذا تريد من الرئيس الجديد»، عبرت عن مخاوفي من أن «يمارس الرئيس هادي دور الرئيس بذهنية النائب»، وقلتُ: «تلك مشكلة عظمى» إلا أنني رأيت كلمته الأولى في البرلمان «حملت بشارات محترمة للإرادة والمسؤولية والإيجابية والحزم والأمل تفعيلاً لتطلعات الشعب المتأجج بالأحلام».. كما أكدت على أهمية «الدخول في مرحلة مفصلية جديدة تكون فيها الذاكرة الجمعية اليمنية خالية أكثر من بشاعة الاستقواء والاستحواذ والغلبة وغشم الدولة واللا شراكة واللا قانون، إضافة إلى تعسفات مراكز القوى التقليدية وعدم جبر ضرر المواطنين بشكل عاجل وحاسم يليق بهم كمواطنين لا باعتبارهم مجرد رعايا مستلبين لا حقوق لهم ولا اعتبارات أو هموم، كما حاول أن يجعلهم كذلك نظام علي عبد الله صالح طوال 33 عاماً». إزاء ذلك يبقى على فخامة الرئيس الجديد أن يتحلّى بالعزم الكافي ليصبح في الطريق الصحيح لإنصاف الثورة، وليعمل في السياق ذاته على تلاقي كل الجهود السياسية لتتضافر من اجل انتشال كيان الدولة من الغرق. وبالمقابل لتنتقل حماسته المطلوبة أيضاً في اتجاه تقوية أداء الدولة وتكثيف معالجات الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تحتدم، نحو مساهمته الفاعلة في لم الشمل الوطني على طريق تمهيده لمؤتمر الحوار والخروج بمعالجات منصفة لقضيتي صعدة والجنوب عبر إلزام الأطراف المسلحة بلا جدوى غريزتها في العنف أولاً، إضافة إلى وضع حد لتوسعات الشرخ التقليدي في جدار اليمن الموحد بين دور القبيلة ودور الدولة. تحديداً فإن المأمول الآن من المشير عبد ربه منصور هادي أن لا يكون ناكراً للجميل الشعبي: أن يكون رئيساً حقيقياً للبلاد لا مجرد ترانزيت للتوريث والفاسدين وعبث أصحاب المشاريع الصغيرة على حساب المشروع الوطني الكبير. فيما يُنتظر منه إظهار الإرادة والحزم بالتصحيحات والإصلاحات لإنقاذ البلد من مشاكلها المتراكمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. الخ، إضافة إلى تعزيز حرية الرأي وحقوق المواطن والدفع بآليات الاندماج الوطني وتصحيح مسارات الأداءات المختلة في مؤسسات الدولة. من ناحية أخرى: لا يمكن تجاهل الأساس الوطني الذي قامت من اجله الثورة، إذ بالنظر إلى الخارطة السياسية اليمنية يبرز المشترك كأهم مؤازر حيوي لعبد ربه بصفته فاعلاً موضوعياً يربط آلياً بين التطلعات الشعبية على الصعيدين الثوري والسياسي، فيما يبدو الحوثيون والحراك المسلح إضافة إلى القاعدة عوائق وطنية كبرى تكبل مسيرة الفترة الانتقالية لا شك، وتستدعي تماسك عبد ربه كصيغة وحيدة لتقدم وعدم تشرذم اليمن أكثر. كذلك فإن المفترض بسياسة الوفاق أن تجعله وفاقاً وطنياً واسعاً مع مطالب الشعب، وليس وفاقاً حزبياً ضيقاً بعيداً عن هذه المطالب. وإذا كنا ضد أي أعمال انتقامية مثلا قد تقع على أنصار المشترك أو أنصار المؤتمر أو أي من الشباب الثوريين عموماً، في كل مرافق الدولة بسبب مواقفهم السياسية - بل إن على عبد ربه أن يعترض على مثل هذه التدبيرات التعسفية أولاً بأول- يجب أن نبقى مع حق الموظفين الأصيل في تلك المرافق بإقامة ثورات على قادة ومسؤولين فيها جعلوهم يعانون مختلف أنواع الاستغلال والفساد - وليفهم عبد ربه أن عليه مؤازرة هذه الثورات المؤسسية حتى يثبت بشكل خاص انه رديف للتغيير فعلاً لا لمصلحة «الخُبرة» وحمران العيون. خلاصة القول إن المطلوب الملّح الآن من الرجل الأول في الدولة هو وجود رغبة سياسية جادة في تصحيح الأداءات الإدارية والمالية داخل هذه المنظومة في المقام الأول. وأما من خلال استيعابه للواقع وإدراك الأولويات الشعبية والسياسية في آن، فإنه سيتمكن من المضي تماماً في الطريق الصحيح إلى إنصاف الثورة أيضاً! ****** نعرف أنها قاعدة علي عبد الله صالح التي تحت الطلب، لا يزال مرتبطاً بعلاقاته اللوجستية الأثيرة بها: يستحضرها عند الشدائد ويلعب بها لصالحه لأنه يعرف جيداً كم تقلق العالم في الوقت الذي يقدم فيه نفسه كمكافح مخلص وعتيد لها.. لقد أجاد ذلك الدور لسنوات كما جلب له ثروات طائلة، بينما من خلاله تكرس أكثر وحاز تدليلاً أمريكياً واسعاً ليستغل مخاوفهم في تثبيت أبنائه في مفاصل الدولة الأمنية والاستخباراتية بصفتهم ورثته كقاهر وحيد وجدير للقاعدة في اليمن.. السبت مثلاً تصدرت جريمتها المريعة في مدينة المكلا أخبار العالم، حتى أن خبر أداء الرئيس الجديد للقسم بدا باهتاً جداً - وهذا ما أراده علي عبد الله صالح بالضبط -وبما يثير المزيد من القلق العالمي على مستقبل اليمن في ظل هذا التفاقم القاعدي الذي نشط فجأة مع بدء العد التنازلي لرحيله.. (خذوا في البال خلال الشهور القليلة الماضية مجاهرة هذه القاعدة بالانتشار الملفت بأكثر من بؤرة واستيلائها بعد ذلك على مدينتي جعار ورداع بتواطؤ مفضوح أيضاً ثم هروب سجناء قاعديين كذلك من أكثر من سجن). على أنها تصرفات بلا معايير وطنية أو أخلاقية، فيما يبحث علي عبد الله صالح الآن عن مبرر ناجع ومقنع لبقاء أبنائه من بعده بدعوى أنهم على رأس قوات مكافحة الإرهاب التي لا يمكن لأمريكا الداعمة لها أن تعمل على تشتيتها في الوقت الحاضر، وبالتالي عليها أن تفكر فقط بعدم نزع قادتها الحليفين جداً مهما بلغت ضغوطات الهيكلة المفترضة في هذا الاتجاه!