إجتماع لم ينته بعد في 25 /9/ 2002م كان عبد السلام الحيلة على موعد مع الرحلة الأهم في حياته، وكانت أسرته على موعد مع رحلة طويلة من الألم لم تنته بعد.. وكأنما تخضع الأسرة لامتحان قاس حين خبأ لها القدر كل هذه المآسي ليصبها بكثافة في فترة وجيزة.
فحين قرر رجل الأعمال عبد السلام الحيلة السفر إلى مصر بغرض حضور اجتماع مهم لشركة اتحاد المقاولين العرب باعتباره وكيلها في اليمن لم يكن يعلم أنه يساق إلى مصيدة نصبت له بإحكام.
وعلى الرغم أنه كان كثير السفر إلى خارج الوطن إلا أن حوالي خمس سنوات مضت عليه دون أن يزور مصر على الرغم أنه وكيل لشركة تتخذ من القاهرة مقرا لها.. ربما كان لدى الرجل - وبحكم خبرته كضابط أمن- من الأسباب والشكوك ما جعله يفعل ذلك.
اعتقد الرجل أن رحلته لن تتعدى عشرة أيام كما أخبر أسرته.. لكن آخرين حينها كانوا قرروا أن الرحلة ستستغرق أكثر من ذلك بكثير. وكما في الأفلام البوليسية المثيرة فإن أهدافا أخرى رسمتها أجهزة مخابرات دولية لتلك الرحلة وأدارتها كما لم يخطر ببال الحيلة أو أي من أفراد أسرته..
قبل سفريته الأخيرة كان السفير المصري آنذاك كثير التردد على منزل الحيلة. وبحسب نبيل الحيلة (29عاما) "قبل سفر أخي عبد السلام بأيام جاء السفير المصري إلى بيتنا، وشاركنا آخر مرة في عزاء لأحد أقاربنا".
ربما كان إلحاح السفير المصري على الحيلة للسفر إلى القاهرة أحد أسباب غيابه عنها لفترة طويلة. بدت علاقة السفير المصري حينها بالحيلة أكثر حميمية وذلك لم يثر استغراب أحد من أقارب وجيران اعتادوا علاقات الرجل بكبار القوم.. إلا أن سعادة السفير، وكما هو حال معظم السفراء العرب، لم يكن في مهمة دبلوماسية وإنما في مهمة أمنية كان ينفذها بإتقان لصالح المخابرات المصرية.
في فندق الميريديان بالقاهرة نزل الحيلة، وهو ذات الفندق الذي عقد فيه الاجتماع المزعوم. وعلى غير العادة كان الرجل يتصل يوميا وبشكل منتظم بمعظم أفراد أسرته.. لم يفصح لأحد من أقاربه عن ما يعمله بشكل يومي.. لكن اتصالات متكررة تنبئ عن شيء ما كان يدور بين الحيلة ومستضيفيه جعله يشعر بالقلق.. ربما كان يساوم للإفصاح عن معلومات تتعلق بعمله كضابط أمن كان مسؤولا في وقت سابق عن ملفات أمنية خطيرة.
في آخر اتصال أجراه بأسرته من القاهرة قال لهم أنه سيدخل "اجتماع هام". قدرت الأسرة عدم اتصاله بهم في اليوم التالي، فربما أرهقه الاجتماع الهام الليلة الفائتة، لكن اتصالا من هذا القبيل لم يحدث، وظلت الأسرة أسابيع وشهور تنتظر اتصالا يخلصها من الحيرة..
تلك الليلة غادر مقر إقامته في الفندق ليأخذ قسطه من الضيافة القسرية في سجون المخابرات المصرية لمدة أربعة أشهر.. لم تكن المخابرات المصرية تطلبه لنفسها وإنما كانت تقدم خدمة للمخابرات الأمريكية الواقعة في دوامة مكافحة ما تسميه الإرهاب.
ودون معرفة تفاصيل سيكشف عنها الرجل لاحقا إذا ما تمكن من كتابة سيرته الذاتية، فقد وجد نفسه بعد أربعة أشهر من الاعتقال في سجن "باغرام" التابع للقوات الأمريكية في أفغانستان.
وهو نفس السيناريو الذي تكرر بعدها بأشهر مع الشيخ المؤيد ورفيقه محمد زايد اللذين استدرجا إلى ألمانيا ومن ثم سلما للولايات المتحدةالأمريكية.
يضيف نبيل الحيلة: "أنكرت مصر في البداية دخوله إلى أراضيها ثم تراجعت وقالت إنه دخل المطار واستقل من هناك طائرة خاصة إلى اذربيجان. لكن الحقيقة أنه ظل في مصر شهوراً ثم رحل قسراً إلى باغرام بأفغانستان، وظل فيها شهوراً ثم نقلوه إلى معتقل غوانتانامو".
تسعة أشهر من الزمن بين آخر مكالمة وأول رسالة تسربت من سجن "باغرام" عرف من خلالها الأهل أن عبد السلام لا يزال حيا.
حينها صرح وزير الخارجية اليمني أن سفارة اليمن في باكستان تلقت رسالة من الحيلة حينما كان معتقلا في أفغانستان ذكر فيها أنه محبوس مع يمني آخر اعتقل من تايلاند. كما كتب في خطابه أيضاً أنه يعتقد أنه محبوس في أفغانستان لدى CIA وأن مسؤولي الوكالة يريدون منه إطلاعهم على معلومات اكتسبها من عمله في الاستخبارات اليمنية وهي فيما يتعلق بالأفغان العرب الذين حاربوا السوفيت في أفغانستان ثم هاجروا إلى أوروبا، إلا أن مسؤولي CIA رفضوا التعليق على القضية حينها.
في تلك الفترة تحدث الإعلام الحكومي عن اجتماع طارئ عقده مجلس الوزراء لمناقشة اختفاء رجل الأعمال (لم يكن قد اتضح أين هو بالضبط) وتم تكليف وزير الخارجية لمتابعة الجهات المختصة في مصر، إلا أن هذا الصراخ بدأ يخفت تدريجياً، ربما بعد علم الحكومة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية وراء الموضوع. تم تغيير السفير المصري و الملحق العسكري بالسفارة بصنعاء بعد الحادثة بأسبوعين فقط.
في ظل الحالة الهستيرية التي أصابت الولاياتالمتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر تم تجاهل كل القوانين الدولية والإنسانية وقامت أجهزة الأمن الأمريكية بما لم تقم به أجهزة دولة أخرى من انتهاكات للقوانين وحقوق الإنسان، ومثال على ذلك اعتقال الحيلة. يقول جون سيفون، الباحث بمنظمة هيومن رايتس ووتش، والذي جمع معلومات حوله وقام بإجراء مقابلات مع أسرته: إن ما حدث مع عبد السلام الحيلة يعتبر مثالاً على تجاوز الولاياتالمتحدة لقوانين ومبادئ الحرب وحقوق الإنسان. وأضاف: "لا يمكن ببساطة وضع أشخاص في حبس انفرادي لفترة غير محدودة فقط لسبب اعتبارهم مقاتلين أعداء".
يؤكد عبد السلام الحيلة أنه تنقل بين خمسة سجون قبل انتقاله إلى غوانتانامو في 17 سبتمبر 2004، وأنه تعرض للضرب والسب وحرم من العلاج الطبيعي. وأضاف أيضاً في رسائل له أنهم كانوا يعلقونه من رجليه، وأن إحدى يديه كانت مقيدة دائماً إلى أعلى، لحرمانه من النوم. وفي آخر مكالمة له قبل ثلاثة أسابيع تقريباً شكا أنهم نقلوه إلى أسوأ مكان في غوانتانامو، وأن المعاملة لم تتغير حتى الآن سوى في التلفزيون والصحافة، حسب كلامه.
يكتنف الغموض ملامح حياة الرجل ذلك لأنه رجل أمن من طراز عال. ورغم أن أخاه اكتفى بتعريفه عند سؤالي له عن عمل أخيه المعتقل قائلا: أخي رجل أعمال وعضو اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام، ومستشار للقائد علي محسن صالح الأحمر برتبة عقيد.. إلا أن معلومات تتداولها وسائل الإعلام أن الرجل كان ذو منصب رفيع في الأمن، وأنه كان له أدوار كبيرة في مراحل حساسة. وذكرت صحيفة الشرق الأوسط أن الحيلة كان رئيس قسم ترحيل الأفغان العرب من اليمن، وهو ما لم ينفه أخوه، بل أكد أنه كان أحد المكلفين بهذا الملف نظراً لثقله على كاهل الدولة، وأنه إنما قام بواجبه الوطني كما كلف به. وحسب مصادر إعلامية، فقد أوكل إليه في 1995م ملف هام جداً يتعلق بإعادة العلاقات اليمنية الكويتية حينها والمتضمن جمع المعلومات الممكنة حول الأسرى الكويتيين لدى نظام صدام، وقد قطع عبد السلام شوطاً في ذلك واستطاع أن يجمع الكثير بمساعدة طيار حرب عراقي كان يعمل مع القوة الجوية اليمنية. وغير هذا الكثير الذي يدور حول شخصية عبد السلام الحيلة الذي استدرجته CIA بالتعاون مع المخابرات المصرية إلى القاهرة وتم تسليمه إلى السلطات الأمريكية.
.. وانفجار ضاعف المأساة تحول الحيلة فجأة من ضابط أمن مرموق ورجل أعمال ناجح إلى سجين لا يحظى بأبسط الحقوق الإنسانية. وعلى الرغم من التصريحات الرسمية والتحركات الشكلية التي قامت بها الحكومة اليمنية بشأن هذا الموضوع.. فإن كل ذلك لم يكن كافيا، حيث أن التهمة التي يواجهها الحيلة والمصائب التي لحقت به وبأسرته الصابرة لم يكن ليتعرض لها لولا قيامه بأدوار كلف بها رسمياً ضمن جهاز أمن رسمي، بل أن بقاءه رهن الاعتقال في جوانتنامو مع زملائه اليمنيين تتحمل مسؤوليته الحكومة التي تطالب بمبلغ عشرة ملايين دولار مقابل تسلم معتقليها. قارب على إتمام سبع سنوات من الاعتقال والسجن بعيدا عن الأهل والأولاد.. مجرد رقم في سجن جوانتنامو يتلقى صنوف العذاب النفسي والجسدي، إلا أن الرجل ومن خلال مكالمته الهاتفية التي أجراها مع أسرته قبل حوالي ثلاثة أسابيع بدا قويا ومتماسكا أكثر مما يمكن تصوره. أسرته التي عاشت حياة هانئة مستقرة في الماضي.. شكل لها تاريخ اعتقاله منعطفا صعبا حيث تحول المنزل إلى مهبط ابتلاءات ومحن متتالية، لم يتمكنوا من تقسيط أخبارها عليه. فقبل عامين توفي أقرب إخوته إليه (علي 25 سنة) وأحبهم إلى قلبه كما قال في آخر مكالمة له، إلا أنهم أجلوا نقل خبر الوفاة اليه الى اتصاله الأخير. بأسى يقول شقيقه نبيل: "أخفينا عنه الخبر لأن أخي علي كان لصيقاً به وكان أقربنا إليه فخفنا على عبدالسلام من مضاعفات الخبر". وظلت الأسرة تؤجل خبر وفاة أخيه حتى توفيت الأم فرأوا أن يخبروه عن وفاة أخيه ليتمكنوا في فرصة قادمة من إخباره عن وفاة أمه التي كانت محور اتصاله الأخير. يقول نبيل: "أخبرناه بوفاة أخي علي بعد وفاة أمي والآن نحن مضطرون لإخباره بوفاتها ولكن لا ندري كيف". الأربعاء الحزين كان يوم الأربعاء الماضي آخر أيام الأسبوع في المدرسة الأهلية التي يدرس فيها عمر ويوسف ابنا عبدالسلام الحيلة وكان أيضاً آخر يوم في حياتهما. كان عمر -12عاما- الطالب في الصف السادس الأساسي في غاية اللياقة حين قدم الشوكلاتة لأستاذته معتذراً عن أنه أتعبها في الدراسة. كما حاول الطفلان عمر وأخوه يوسف إقناع أستاذهما عبد الحكيم السوري بتناول الغداء معهما ذلك اليوم وكأنما يودعان معلميهم الذين طالما تبادلا معهم الحب. فبعد أن أدى الطفلان عمر ويوسف صلاة العصر في الجامع كما وعدا أباهما في الاتصال الأخير توجها إلى غرفتهما للمذاكرة. أغلقت الأم عليهما باب الغرفة فلم يعد ثمة من الأمان ما يجعلها قادرة على الثقة في إيكال رعاية أبنائها لأحد ولو كان من الأقارب. يقول نبيل الحيلة: "كانت من شدة خوفها عليهما ورعايتها لهما تمنعهما من اللعب في الشارع، وتتابع حركاتهما،وإذا تأخر باص المدرسة قليلاً تمطره بوابل من الاتصالات، وتعاقبهما إذا غابا عن عينيها كثيراً". حضت ولديها على المذاكرة جيدا وذهبت إلى مدرسة التحفيظ المجاورة للبيت ككل يوم، فهي تسعى لحفظ المصحف. وفجأة في الساعة الرابعة والنصف عصرا دوى انفجار مريع، جعل الجميع في حالة من الذهول. فلم يكن الأقارب يعلمون ما تحتويه خزنة قديمة يملكها عبد السلام، ولا تزال مغلقة منذ غادر المنزل في 2002م. كانت الخزنة أسفل مكتبه في شقته الواقعة في الدور الثالث في منزل الأسرة الكائن في شارع مأرب في العاصمة صنعاء. وبحسب رواية أقاربه فإن الخزنة لم يفتحها أحد بل لم يقترب منها أحد منذ اعتقال عبدالسلام الحيلة، ربما ذكرتهما الخزنة بوالدهما الذي اختفى عنهما قبل أكثر من سبع سنوات. أو ربما فكر الطفلان في العثور على ما يذكرهم بوالدهم، فحاولا فتح الخزنة القديمة.. تفاصيل أكثر من ذلك لا يستطيع أن يجزم بها أحد، هل تمكنا من فتح الخزنة والحصول على قنبلة؟ هل انفجرت بهما الخزنة قبل أن يتمكنا من فتحها؟ التفاصيل رحلت مع وفاة الضحيتين ولا يمكن تقديم أكثر من هذه الاحتمالات باستثناء ما يمكن أن توضحه الأم المكلومة بولديها. لا أحد معهما في الغرفة، وأسفل منهما بطابق واحد كانت أختهما الكبرى ملاك-13سنة- في غرفتها مع معلمتها تتدرب على أناشيد ستقدمها اليوم التالي في حفلة بالمدرسة، لكن الحفلة أجلت وأجلت معها ملاك الإنشاد الى أجل غير معلوم. يواصل عمهما نبيل: "سمعنا الانفجار وسمعه من في الخارج أكثر ممن في الداخل. كان أول الواصلين عمهما عبد الرحمن قام بكسر الباب مع مجموعة من الجيران ليظهر أمامهما منظر مريع: أشلاء ودماء". جثتان رمى الانفجار بما تبقى منهما إلى أطراف الغرفة بعد أن تناثرت أشلاؤهما على جدرانها وصبغت باللون الأحمر. لا شيء يمكن فعله، عجزوا حتى عن مجرد الصراخ. يقول نبيل: "حينها وصلت ورأيتهم حائرين، لكنني كنت متماسكا. طلبت من الجميع الانصراف وأغلقت الباب وقمت بتجميع الجثتين. لم يتأثر يوسف كثيراً، لكنه فارق الحياة لوقته، أما عمر فقد تأثر كثيرا، وفي الحال قمنا بالصلاة عليهما ومواراتهما الثرى حتى لا نزيد في الأحزان بتأخيرهما". يضيف: "قمت على الفور بإحضار مرنج لتصليح الغرفة، وعندما رأى المنظر سقط فاقداً للوعي، فذهبت وأحضرت آخرين، قمنا بإصلاح ما أفسده الانفجار حتى لا يظل مثيراً للأحزان". رفض نبيل الحديث عن الحادث بأي اتجاه سوى أنه قضاء وقدر، ولا مجال لتأويله. بدا جميع من التقيتهم من الأسرة متماسكين، فلديهم من الإيمان ما يمكنهم من ذلك كما أنهم ألفوا المصاعب والمحن، فلم تعد تهزهم كثيراً. يقول نبيل: كذلك كان رد فعل الأم عندما أخبرتها بوفاة الطفلين بدت متماسكة أكثر ولم تعمل أكثر من أن حمدت الله، ومع تأكيده على أن ثلاث من نساء الأسرة ذاتها أسعفن بعد تعرضهن للإغماء إثر علمهن بالحادث، لكن الأم بدت أقوى، وعندما أكثرت النساء العويل في العزاء طلبت منهن الصمت أو المغادرة.. فامرأة تعيش المآسي والمحن منذ سنوات ربما جفت دموعها وباتت غير قادرة على البكاء، وكيف يمكن أن يبدو عليها الحزن وقد صار جزءا من تركيبتها. انتشر خبر الفاجعة كانتشار النار في الهشيم، لتوقع الناس تسييس الحادثة. نشرته معظم وكالات الأنباء ووصل الخبر إلى محامي عبد السلام الحيلة فاتصلوا بأهله. يقول نبيل الحيلة: اتصلوا بأخي عبدالرحمن يتأكدوا من الخبر، فطلب منهم عدم إخبار عبدالسلام وأخبرهم أننا نريد أن نبلغه نحن بطريقتنا علنا نسطيع تخفييف وقع الحدث عليه. ويضيف: لم نبلغه بموت أخي علي إلا بعد وفاة الوالدة، والآن سنضطر أن نخبره بوفاة الوالدة بعد وفاة ولديه، ومن ثم بعد فترة نخبره بوفاتهما ولا ندري كيف سيكون حاله. بدا الموقف مؤثراً جداً، فقبل ثلاثة أسابيع فقط كان الطفلان يخبران أباهما في التلفون بأنهما اشتاقا إليه (اشتقنا لك يابه) هكذا قالها يوسف عندما كلم أباه في التلفون ورد عليهما عبد السلام: لا رحم الله الظالمين الذين فرقوا بيننا، الفرج قريب.