(آخر كلام لا يُقصد به الكلام الذي بعده السكوت، ولكن آخر كلام هنا بمعنى الذي لا رجعة عنه بإذن الله أو كما يقول المصريون: بعد منه ما فيش كلام.. وهو ما سنحاول خلال الأيام المقبلة تسجيله قبل فوات الأوان). بوصفها اليتيمة الوحيدة والمقطوعة من شجرة في اليمن؛ فإن كل الشرور تلقى مسؤوليتها على الوحدة اليمنية، ويصر البعض على أن يكون رأسها ثمناً لأخطاء الفاشلين والفاسدين الوحدويين منهم والانفصاليين على حد سواء.. وكما كانت أخطاء نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح مبرراً عند دعاة الانفصال للمطالبة به؛ فيبدو أن التطورات الأخيرة التي جرت منذ اقتحام الحوثيين صنعاء وعدداً آخر من المحافظات؛ وبمساندة ودعممة جنوبية شمالية مشتركة؛ صارت تنفع أيضاً للمطالبة بالانفصال وفك الارتباط (أيهما أسرع!).
المهم لا بد من تفكيك وحدة اليمن بأي عذر وحجة: وحدوية انفصالية، حداثية رجعية؛ حتى ولو كان العذر من قبيل الاحتجاج على أخذ منزل علي سالم البيض، وفي المقابل لا أحد يجد في آلاف المنازل المؤممة التي لم يعوّض أصحابها الجنوبيون حتى الآن مبرراً للانفصال وفك الارتباط أو استمرار الوحدة؛ لأنه نهب جنوبي- جنوبي، وكثيرون من المستفيدين منه من مؤسسي الانفصال حنقاً على منزل قيادي منهم! أو كان العذر من قبيل ممارسة الفساد في مشروع الخصخصة الذي كان للجنوبي عبد القادر باجمال دور كبير فيه.. أو كان العذر امتلاك نافذين عدداً من الشقق والمنازل وقطع الأراضي في مدينة عدن بشرط ألا يكون نافذاً جنوبياً مثل صاحب أشهر تقرير عن عمليات النهب المزعومة!.. أو كان العذر من قبيل نهب الثروة النفطية وتهريب المشتقات النفطية رغم الاتهامات التي تشير إلى عدد من النافذين الجنوبيين من ضمن المتورطين أصالة أو المشاركين بالنسبة! وآخر هذه الأعذار التي يجب أن يكون ثمنها رأس الوحدة: عذر "نشتي انفصال.. سرقوا ثروتنا السمكية" كما صرخ بها أحدهم تبريراً لمطالب الانفصال.. مع أن الحقائق تقول إن مواطني الجنوب لم يستعيدوا تراثهم الغذائي الشهير مع الأسماك وثروتهم السمكية إلا مع الوحدة؛ بعد أن ولى زمن الدولة الجنوبية يوم كانت السفن الروسية واليابانية تلهف الثروة السمكية الجنوبية مقابل الديون والالتزامات المالية على النظام الحاكم في عدن (انظر بعض تفاصيل ذلك في مذكرات الدبلوماسي الروسي أوليغ بيريسيبكين الذي عمل 4سنوات في عدن، وكان يضطر مع طاقم السفارة للذهاب إلى شقرة بأبين للبحث عن السمك، وإلى تعز لشراء المواد الغذائية! ص 249 و302 و303].. أما الشعب صاحب ثروتنا السمكية المنهوبة فقد كان يكتفي بأكل أردأ أنواع السمك (إن وجدت) وبعد أن يرابط في الطابور منذ الفجر (مش يتأخر ويجيء الساعة سبعة صباحاً وبعدين يقول: فين راحت ثروتنا السمكية!).. وفي الأخير هو وحظه: يلاقي نصيبه من ثروته السمكية فوا عيداه.. ما يلاقيش: فقد الغداء بيكون صانونة الهواء! وهذه طبخة جديدة تعني أنها خالية من أي صنف بروتيني: لحم، سمك، دقة، بيض.. اكتفاء بالهواء الذي نجا من التأميم أو المصادرة أو إدارة القطاع العام! صاحب صرخة "سرقوا ثروتنا السمكية" لم يكشف حيثيات صرخته، وهل يقصد بمعنى السرقة أن الصيادين العاملين في البحر من المهرة إلى عدن كلهم شماليون ينهبون الثروة السمكية الجنوبية والصيادون الجنوبيون ممنوعون من العمل والنزول إلى البحر؟ أم يقصد أن الصيادين الجنوبيين هم الذين يصطادون حقيقة لكن الناهبين الشماليين يصادرون عليهم الإنتاج، ويبيعونه لحسابهم ولا ينوب الصيادين الجنوبيين منه شيء على طريقة تعامل التعاونيات السمكية القديمة معهم بمنحهم أجرتهم: رز وسمن ودقيق فقط؟ أو ربما كان المقصود من صرخة "نشتي انفصال.. سرقوا ثروتنا السمكية" أن مصانع تعليب التونة العديدة في حضرموت كلها مملوكة لنافذين من الشمال ولا يوجد رجل أعمال جنوبي واحد من بينهم يملك مصنعاً بالأصالة أو الشراكة؟ هذه التفاصيل على أهميتها لإقناع الناس بفكرة "الانفصال هو الحل" لا يهتمون بها.. ويكتفون فقط بإرسال الكلام في الهواء. ولعله سيكون مفيداً أن نحصل على إجابات حاسمة للأسئلة السابقة حتى يكون الانفصال مبنياً على أسس حقيقية.. لا أن نكتشف في الأخير أن تلك الاتهامات كانت على طريقة اتهامات الشيطان الأكبر بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل التي برروا بها غزو العراق واحتلاله، ثم طلع الكلام كله من تأليف أبو لمعة (الأمريكاني) والخواجة بيجو (البريطاني) وأن العراق ليس فيه أسلحة دمار شامل إلا.. حزب البعث! (أبو لمعة والخواجة بيجو كوميديان مصريان اشتهرا في الخمسينيات بمشاركتهما في برنامج إذاعي كوميدي شهير اسمه: ساعة لقلبك (عرضت منه نسخة بالرسوم المتحركة في قناة النيل الكوميدية) ثم واصلا إبداعهما في التلفزيون المصري عند تأسيسه في الستينيات.. وتقوم فكرة فقرتهما النقدية على المقابلة بين غباء وبلادة الخواجة بيجو ومكر أبو لمعة وأكاذيبه وشطحاته غير المعقولة أبداً.. مثل هذه النكتة التي سخرا فيها من الأوضاع المعيشية الصعبة في مصر.. فقد حكى أبو لمعة لزميله بيجو عن رحلة قام بها إلى الغابة واجه فيها أسداً واشتبك معه في معركة انتهت بأن أكل الأسد أبو لمعة.. وكالعادة يجري بنيهما الحوار على النحو التالي إذ يستوقفه بيجو قائلاً: "إيه. إيه.. بتقول إيه يا خبيبي؟ الأسد أكلك؟.. أيوه أكلني الأسد وحياتك يا خواجة بيجو! ..طيب إزاي وأنت قدامي عايش أهو؟.. فيرد معبراً عن خلاصة الفكرة: وهي دي عيشة دي اللي إحنا عايشنها يا خواجة؟).
حكاية "سرقوا ثروتنا السمكية" تبريراً للانفصال مثلها كثير مما سمعناه خلال العشرين سنة الماضية؛ بل ومن قبلها وتحديداً منذ انفجر الخلاف بين شريكي الوحدة عام 1992.. كمثل تغيير علم الجنوب عند قيام الوحدة، واستبدال العملة، ونقل العاصمة، وتغيير أسماء الشوارع والمدارس، والإقصاء والتهميش.. إلخ المبررات والحيثيات التي لو اعتمدت في كل الدول العربية لما بقيت خارطة دولة عربية على حالها، وخاصة تلك الدول المتحمسة للانفصال ولكن فقط في.. اليمن حيث يحلو ويسهل الطنطنة عن أن الوحدة ليست بالقوة ولا هي مكسب, والانفصال ليس عيباً ولا مغرماً.. وقطعاً فأمثال هذه المقولات لا يمكن أن تقال عن بلد القائل لأنه يعلم أن رأسه أول من سينفصل، وسيبكي دماً على وحدة رأسه وجسمه في.. البرزخ طبعاً! وحتى مصر التي استضافت منذ 20 سنة دعاة الانفصال اليمني بمبررات النهب، والتهميش والإقصاء، والانقلاب على الوحدة الديمقراطية؛ فلن يستطيع مصري من سيناء والبحر الأحمر والصحراء الغربية أن يطالب بالانفصال بسبب نهب المتنفذين والفاسدين في القاهرة لثروتها البترولية والغازية والثروة السمكية مقابل إهمال مناطقها، وهي حقيقة يقر بها الجميع الآن في الوقت الضائع.. ولن يقبل المتنفذون المصريون كذلك أن يسمحوا لأهالي النوبة والصعيد والواحات الذين يعانون التهميش والفقر والإقصاء؛ أن يطالبوا حتى بفيدرالية فضلاً عن حكم ذاتي أو تقرير حق المصير! اليمن ووحدتها هي فقط الكائن اليتيم في هذه المنطقة المطلوب رأسها كل حين بأعذار ومبررات لا تنتهي ولا تخجل! فلما اقتحم الحوثيون صنعاء صاح البعض "جاك الفرج!" وبدأ العقل اليمني الغريب يسفح الأعذار لفكرة تقرير المصير.. وهو ما سنناقشه غدا بإذن الله تعالى.