لأن مفهوم مراجعة النفس ركن أصيل في الثقافة الإسلامية، آثرت تخصيص هذا الأسبوع لمراجعة نفسي كاتباً، وذلك مع مرور عامي الأول في الكتابة هنا. المتأمل المواضيع التي تناولتها في هذا العمود، يجدها تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أنماط التفكير لدى العقل المسلم، والتحوّل القيمي الحاصل في ثقافتنا المعاصرة، وأشكال العلاقات الإنسانية مع أنفسنا ومع الآخرين وما يحكمها. وإذا اعتمدنا منهج المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي رحمه الله، في تقسيم العوالم المحيطة بالإنسان إلى ثلاثة، هي: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص (وما يربطهم من علاقات)، وعالم الأشياء، فإنني أجد المواضيع التي أبحث فيها تقع في عالمي الأفكار والأشخاص. وأزعم أن ما يجعل هذين العالمين مناط البحث لديّ هو ثقتي أن التغيير الذي نرجوه لأمتنا لا يمكن أن يحصل دون أن نرتب عالم أفكارنا ورؤانا للإنسان والكون والحياة من جهة، ودون أن نؤسس لعلاقات محكومة بالقيم النبيلة فيما بيننا وبين أنفسنا وبيننا وبين الآخرين. ومما لاحظته في نفسي، حتى قبل أن أبدأ الكتابة، هو تأمّلي لما يجري حولي ومحاولة تحليله على الدوام. ورغم أن هذا الأمر شكل لي إزعاجاً بعض الأحيان، فإنه في الغالب جعلني أكثر وعياً وتنبّهاً لما يدور في المجتمع. خاصة أنه يخدمني ليس في مجال الكتابة الصحافية فحسب، بل أيضاً في الكتابة الفنية من شعر ونصوص سينمائية أتناول فيها بعض تلك الظواهر التي أرصدها. ولعل من المهم أن أشير إلى أنني كنت كثيراً ما أكتب نتيجة تفاعل شخصي بيني وبين ما أتناوله. أقول تفاعل، ربما تلطيفاً لكلمة انفعال، إذ إن هذا هو في الغالب ما يجري. بيد أنني بعد تفريغ الأفكار الأساسية على صدر الورق، أعمل ما استطعت على تخفيف حدة الانفعال، والابتعاد عن عاطفتي قدر الإمكان لتناول الأمر من وجهة نظر عقلانية. وذلك حتى لا أكتب ما يمليه عليّ قلبي دون أن يمر على عقلي. ولست أدري كم أفلحت في ذلك، إذ يبقى الإنسان محكوماً في بعضِه بالعاطفة مهما حاول منها فكاكاً. فأنا من الإنسان أنطلق، وعنه أكتب، وإليه أتوجه. فالإنسان وحده هو مناط أي تنمية، والقادر على إحداث أي تغيير. الإنسان، ذلك الكائن الذي يصفه الفقيد عبد الوهاب المسيري، بالكائن الفريد، المتجاوز للمادة، صاحب الإرادة الخاصة، والاختيار الحر. ومن غير أن ندرك هذه الحقيقة، فإن أي سعيٍّ منا للتغيير في (عالم الأشياء) سيكون محكوماً بالزوال، عاجلاً أم آجلاً. ورغم ذلك الحرص على التوجه للإنسان، وربما بسببه، فقد سعيت دائماً للابتعاد عن العامل الشخصي فيما أطرحه، لأركز على العامل الموضوعي. ولذلك تجنبت ذكر أسماء الأشخاص أو المؤسسات أو الدول عندما كنت أتعرض لأي منها بالنقد. فالغاية ليست الفضيحة، إنما الاعتبار. وإذا كان البعض رأى في ذلك جبناً أحياناً، فأنا أعذرهم في ذلك. فثقافتنا المعاصرة تتراوح في الغالب بين طرفي النقائض في مجملها. ومن ذلك التطرف نحو الجبن المطلق أو الجرأة المتهورة، فيما عدِمنا شجاعة الفرسان، التي لا تميل إلى الأول إيثاراً للسلامة أو إلى الآخِر اندفاعاً للموت! كما أنني حرصت ما استطعت على توخي الدقة فيما أكتب. فلم أتجرأ يوماً على كتابة معلومة دون أن أتوثق من صدقيتها، ومن أكثر من مصدر. وإذا اعتراني شيء من الشك، تجنبتها تماماً حتى لا أكون ممن وَصَفهُم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله {كَفى بالمَرْءِ كذِباً أن يُحَدّثَ بكُلّ مَا سَمِع}. وهو ميزان دقيق في تحري نقل المعلومات للناس، يغفل عنه الكثيرون. إضافة إلى ذلك، فإنني عملت على التزام الكتابة بالعربية الفصيحة (مستثنياً مقالة خواطر نفر مثقف!). فاللغة أولاً انتماء للذات الثقافية التي أحرص على تأكيد أهميتها. وهي كذلك وسيلة التفاهم، ودون امتلاك ناصيتها، تقلّ إمكانية الفهم، فتكون سبباً للخلاف أكثر منها وسيلة تواصل. ولقد نقِمَ البعضُ عليّ أنني أكتب ما لا يُفهم. وإجابتي كانت ما قاله أبو تمام، حين سُئل عن شعره: (لماذا لا تقول ما يُفهم؟)، فأجاب: (لماذا لا تفهموا ما يُقال؟). بمعنى أن الكاتب ليس ملزماً على الدوام أن يتحرى مستوى القارئ. بل من الواجب عليه أن يعمل على رفع مستوى فهم القارئ بتحدي عقله وقدرته على الفهم بعض الشيء. وأظنني لهذا أجد صدري يضيق أحياناً لبعض ما يُوجَّه لي من نقد. ذلك أنه مبنيّ على أساس من قصور في فهم ما كتبت. فتجد البعض يقتطع جملة ما من سياقها، ويحاسبني عليها وكأنها موقفي الأصيل. أما الانتقادات الشخصية، فإنني ولله الحمد، لم أعبأ بها كثيراً. فهي في تقديري وضعٌ طبيعيٌ لبيئةٍ لم تعد قبول الآخر كما هو. ولذلك، فإن الشتائم التي وُجِّهت لي كانت مدعاة للضحك أكثر منها للغضب. وقد حرصت على عدم الرد على المنتقدين. فما أؤمن به أن الواجب على الكاتب بعد أن يقول كلمته، أن يلتزم الصمت ويسمع، تماماً كما يُحب أن يُسمع له حين يقول. خاصة أن النقد أحياناً يقود الكاتب إلى التقاط خيط فكرة جديدة، يمكن أن يتطرق خلالها إلى نمط تفكير أو أسلوب تعامل ما. * * * لقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (رحِمَ اللهُ امرءاً أهدى إليّ عُيُوبي). وقد كان بعض زملاء القلم وعدني بتقويم ما أكتب، وهو ما لم أجده بعد. لذلك فضلت أن أبدأ بنفسي. فإذا أصبت فيما قلت، فالحمد كل الحمد لله سبحانه وتعالى. إذ لست أشك لحظة أن الأخطاء وحدَها هي التي اقترفتها يداي. وهذا رأيي، فما رأيكم، دام فضلكم؟