فيما هو منهمك يستجر أفكاره الخاصة، توقف الباص لتصعد امرأة وتجلس في الكرسي المقابل له. لم يهتم لأول وهلة، لكنه سرعان ما توحّد مع كفّيها اللتين تعانقتا على سطح حقيبة يدها المستقرة على ركبتيها، واللتين بدتا مثل زوج حمام أبيض في حالة عناق. لكن ليست هذه المرة الأولى التي يرى فيها أكفّاً أنثوية بيضاء، فلماذا استحوذت عليه هذه على هذا النحو؟! أيتعلق الأمر بحالته النفسية هذا الصباح؟! لا يدري. تحرك زوج الحمام فجأة على نحو مرتبك فانتبه الرجل إلى أن تركيزه ذاك قد أزعج المرأة. اقتلع عيناه وصوّبها عبر زجاج النافذة الجانبية، دون أن يقدر على الخروج من حال الدهشة تلك الممزوجة بسعادة ممتلئة وهادئة. توقف الباص. نزلت المرأة، وصعدت أخرى لتستقر محلها. وبشكل لا يصدّق، اتخذت نفس الجلسة، بذات التفاصيل. لكن زوج الحمام هذه المرة أسمر اللون. وهو يتمعنه، لم يندهش بذات القدر لدهشته السابقة. كلاهما وضعت صباغ أظافر أسود اللون. هذا هو التفصيل الذي دققه الرجل في تسائله عن سبب اختلاف مدى تأثره في الحالتين. هذا اللون حقق لدى الأولى مشهد تناقض صارخ، تناقض كان لا بد وأن يستجلب اهتمامه وتركيزه وبالتالي تحقيق أثر جمالي. في حين هذا اللون نفسه لم يظهر لدى أكف الثانية سوى كدرجة لونية للأكف نفسها، أكثر قتامة بقليل، وهذا لا يكاد يفصح عن شيء. "يتعلق الأمر بحاجة المرء إلى الوضوح"، تمتم في نفسه وقد صوّب عينيه عبر زجاج نافذة الباص، ولكن هذه المرة من تلقائه، ليس لأن زوج الحمام الأسمر قد ارتبك مثلاً. راح يغوص أبعد: "ربما السبب في عدم قدرتنا على استساغة الحياة والمضي فيها باستمتاع كما لو كانت عملاً فنياً بهيجاً وكاملاً، أنها لا تتسم بالوضوح الكافي، أن ليس هنالك حدود واضحة تفصل بين مكوّناتها، بين متناقضاتها، بين الليل والنهار، الظلام والنور، الشر والخير، ...، أننا محكومون فيها بتدرّج اللون وأن الأقاصي لا توجد سوى كنظرية لا كتجسيد...". "ييه، وصلنا آخر موقف"، كان هذا نداء سائق الباص. لقد استغرق الرجل في فلسفته حد تفويت مكان الوظيفة. نزل، دفع الأجرة مقطّباً ومتعجلاً، ليمضي إلى صف الباصات في الاتجاه المعاكس.