بعد أيام تطل علينا الذكرى الثالثة والخمسون لانتفاضة الطلاب الحضارم في مدينة غيل باوزير مارس 1958م ,وتصادف ذكرى هذا العام انطلاق مظاهرات طلاب المكلا التي تزيد من رقعتها الجغرافية كل يوم وتنظم إليها بقية فئات المجتمع في مشهد تراجيدي يعيد للأذهان دور الطلاب النضالي في الحركة الوطنية آنذاك, نجدها مناسبة للتذكير بجيل الرواد الحضارم من طلاب ومعلمي تلك الحقبة المضيئة في تاريخ نضالنا الوطني حين كان التعليم يعني النور والمعرفة الى جانب الوطنية والتحرر ,عندما كان صرخة ضد الجهل والتخلف كما هو ثورة على السياسة الاستعمارية في وطننا العربي الكبير. كانت البداية من حفل المدرسة الوسطى بالغيل الذي أزعج المستشار البريطاني لما اعتبره حينها نوعاً من التضامن مع الثورة العربية المصرية .وكانت البلاد العربية تعيش أعياد الوحدة العربية بين مصر وسوريا ,واليوم يعود الشعور القومي مجدداً وكان رياح العرب لا تهب إلا من ارض الكنانة دائماً ,ولا غرو فان -المسرحية التي عرضت في الحفل- قد حذرت الأنظمة العربية الاستبدادية من "النهاية المحتومة لها والسقوط تحت ضربات شعوبها".في اليوم التالي لحفل المدرسة أقيل مدير المدرسة ,فخرج الطلاب في مظاهرة سلمية رددت في البداية شعارات من قبيل "نريد مديرنا -لاعودة إلا بالمدير" ثم ما لبثت المظاهرة ان رددت" يسقط ....." لم يجتمع يومها المحافظ بمجالس الإباء- وكان القضية طلبة مشاغبين في الصف؟ ولكن عقد مجلس الدولة اجتماعاً طارئاً وردد الإعلام الرسمي الاسطوانة المشروخة التي لازلنا نسمعها الى اليوم" لا علاقة بين التلاميذ والسياسة ..إن انشغال الطلاب بالسياسة ... يعني تأجيل تخرجهم إلى الحياة ...إن انشغال الطلاب بالسياسة لا يستفيد منه إلا بعض الافراد الذين يتاجرون بالسياسة والزعامات" بينما كثيراً من رواد تلك المرحلة كانوا بالمرصاد لهذا التضليل ومنهم الأستاذ عبدالله باذيب الذي كتب"إذا كانت السياسة تعني أن يعبر الطالب عن شعوره الوطني ويشارك في نفس الوقت مع المناضلين العاملين من اجل حرية بلاده ,فهذا حق للطالب وواجب عليه أيضا..لا تعارض بين الوطنية والدرس والتحصيل,مثلما لاعلاقة بين وطنية الطالب ونجاحه وفشله في الدراسة,ومن المؤكد أن الطالب ذا العاطفة الوطنية أكثر ذكاءً وطموحاً من غيره ...واذا كان بعض الطلاب قد تعرضوا للمشاكل بسبب مواقفهم الوطنية فان هذا ناشئ في الواقع من تعارض السياسة التعليمية الراهنة مع الروح الوطنية".كيف وقد غدت كل أدوات النظام تسلخ الطالب يومياً من إذاعة الطابور الصباحي التي تتغنى بمنجزات القائد الملهم إلى قاعات درس كأنها زنازين أو زرائب لم تعد لآدميين ومنهج لا يمت للإبداع بصله وكوادر تكافح على شظف من العيش وأجور زهيده وأسرة تكافح في غابة من الفوضى- بعيدة عن سيادة القانون وقيم المساواة والعدالة -من اجل البقاء قبل الارتقاء, كل هذه البيئة التي ظن الحاكم إنها لن تنبت إلا ما يشبهه ,أنجبت من يعيد الأمل المفقود ويرسم البسمة من جديد. فصل على اثر الانتفاضة الأساتذة فرج سعيد بن غانم فيصل عثمان بن شملان سالم محمد عبد العزيز وصالح لرضي- وحقاً لجيلنا أن يعرف هؤلاء الرواد وان تدرس سيرتهم لطلابنا- لم يترك الطلاب ومدرسيهم ليواجهوا مصيرهم لوحدهم ,فبعد بيان المدرسين للرأي العام قائلين "إننا نؤمن بان التربية والتعليم يجب أن تقوم على أسس قومية وطنية تتمشى مع روح الوجود العربي ..مهيبين بالمواطنين أن يبذلوا كل الجهود لحماية أبنائهم وان يقفوا موقفاً صلباً تذكره الأجيال الصاعدة وان يحولوا دون القضاء على الروح الوطنية الفتية للجيل الذي سيرسم بلا ريب طريق المستقبل" تضامن معهم الأهالي في الغيل وسائر الموظفين هناك مطالبين بعودة المدير والمدرسين المفصولين"بما يحفظ كرامة المدرسين وسمعة التعليم ويضمن المصالح الوطنية على أحسن وجه" ثم توالت بيانات التضامن والتأييد من الأندية الثقافية واصدر طلاب كلية عدن بياناً تضامنياً وفعل مثلهم الأدباء والكتاب,وتقدم مشائخ القبائل بعريضة للحكومة مطالبين "بإعادة الدراسة المتوقفة..وإيقاف فصل مدير المدرسة الأستاذ سالم يعقوب باوزير"معبرين عن أسفهم واستيائهم عن هذه الإجراءات بحق الطلبة والمدرسين مؤكدين"ان مثل هذه الإجراءات ستؤدي إلى تأخير بلادنا إلى الوراء وعدم سير التعليم في البلاد وهذا سيؤثر على وطننا الحبيب". كالعادة على الجانب الأخر كان بيان السلطات الاستعمارية في عدن يتحدث عن إغلاق المدرسة الوسطى "بغيل باوزير عقب سلسلة من الحوادث غيرالمؤدبة ..وتمثيلية تضمنت سباً وشتماَ ..وعددٍ من الخطب الوقحة.." طبعاً تطور الفكر الاستبدادي مع تطور العلم اليوم لينتج مصطلحات جديدة من قبيل البلطجة والهلوسة والحفنة المندسة ..الخ.كل هذه الإله الإعلامية التي ينفق عليها الشعب ويسيرها جلادوه ,لن تحجب شمس الحرية كما أنها لن تستر عورة الاستبداد أو تقيه ضربات الشعوب التواقة للحرية, وأخيرا رضخت السلطات لمطالب المحتجين, وهكذا أخرجت وسطى الغيل جيل التميز من كانوا طليعة حركة التحرر ورجال دولة من طراز فريد لم يتكرر في تاريخنا الحديث. لم تكن هذه إلا خواطر ومقاربات بين الأمس واليوم وشجون تستدعي ماضي قريب ليس كله جميلاً بالطبع ولكن به اشراقات وومضات جيل حرياً بنا بعث رسومه التي أريد لها أن تدفن معه , وربما يكون التاريخ يعيد نفسه فعلاً.
* الاقتباسات من دراسة لمعالي الوزير د. صالح باصرة بعنوان"انتفاضة طلاب وتلاميذ مدارس مدينة غيل باوزير في حضرموت سنة 1958م"