لم تكن فاجعة يناير من عام 1986 أمرا سهلا، يمكن طيّه، ووضعه في خانة الأحداث العابرة، ولكنها كانت زلزالا قويا أحدث دمارا هائلا، ما تزال شروخه ماثلة في جدار الوطن حتى اليوم. ومن البلاهة الاعتقاد أن هذه الأحداث المهولة ناتجة عن خلاف بسيط بين الرفاق بسبب نزعة الاستحواذ التي تبنتها مختلف أجنحة الحزب بأبعاده القبلية والمناطقية والسياسية، فما حدث لم يكن إلا ولادة لحمل بدأ منذ ما يقرب من عقدين من الزمان حين غاب المشروع الوطني الشافع الجامع وحضرت بدلا عنه تلك المشاريع الضيقة التي قامت على الشللية الحزبية والتصفيات السياسية منذ الخطوة الأولى، وصادمت المجتمع في أخص خصوصياته الدينية والاجتماعية، فسحلت العلماء والمفكرين، وطردت القدرات والكفاءات الوطنية خارجا، واستوردت النظريات المشئومة تسوس بها شعبا لم يكن في نظرها أكثر من فئران تجارب. كانت أحداث يناير إذن ولادة شنيعة لذلك الحمل المتوحش، نتج عنها ما يزيد عن عشرين ألف قبر، توزعتها مختلف المحافظات الجنوبية آنذاك، إضافة إلى تسونامي الدمار الذي ضرب البنية التحتية والمرافق الحكومية ومساكن المواطنين وأفرز موجاتٍ حادة من النزوح صوب مناطق الشمال بحثا عن منجى من سكاكين الرفاق وخناجرهم. لقد تموشجت التشوهات المتنوعة داخل الجسد السياسي فيما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية منذ الوهلة الأولى لبناء الدولة، وظلت تتنامى خفية بشكل مخيف كالجمر تحت الرماد، وكانت التصفيات البينية بين الرفاق هي العامل الأبرز في إنماء وتوسعة هذه التشوهات ابتداء باعتقال قحطان الشعبي، ومقتل فيصل عبداللطيف، مرورا بمقتل سالمين وعدد من رفاقه، وإعفاء عبدالفتاح إسماعيل من منصبه في رئاسة الحزب والدولة، وطرده إلى موسكو، وصولا إلى يناير المشئوم حيث جعل كل جناح من الأجنحة المتصارعة من نفسه سكينا ومن الآخر رقبة للذبح فكان جميعهم ضحية لجميعهم، وخيبوا بذلك آمال الرفاق في الوسط الإقليمي والدولي الذين كانوا يفاخرون بهم وبوصولهم إلى مقاليد الحكم كخطوة مهمة في إرساء مداميك النظام الاشتراكي في العالم العربي. في يناير سقطت كل تلك الشعارات الأممية الجوفاء وتسيّد الساحة شعار القتل، يلمع هدير مدافع وأزيز رصاص، ولأن الساسة دائما عبيطون ولا يستفيدون من التجارب، فقد ذهبت أحداث يناير بالرؤوس، ولم تذهب بشيء من تلك التشوهات السياسية داخل منظومة الحكم، والتي عادت للتشكل بصور جديدة تحضر فيها المشاريع الصغيرة البائسة، ويُحجب عنها الوطن، ومالم تحدث مراجعات وتصحيحات جادة فإن القادم ينذر بكوارث أشد فتكا، وعندها ستمر ذكرى أحداث يناير في قادم السنوات، ولسان الحال يقول: ربَّ يومٍ بكيتُ منهُ فلمّا صرتُ في غيره بكيتُ عليهِ