ينظر التجمع اليمني للإصلاح إلى الشراكة الوطنية على أنها من أهم العلاقات الناظمة اليوم لمسيرة العمل السياسي، خاصة وأن الظروف الحالية التي يمر بها الواقع اليمني تستدعي مزيدا من التعاون والتقارب بين الأحزاب، وصولاً إلى مصفوفة سياسية قوية قادرة على إحداث التأثير المطلوب في الواقع السياسي. وفي اعتقادي أن مثل هذه الشراكة تستدعي من جميع أطرافها أن يتحلوا بروح المسئولية، وأن يحملوا قيماً من شأنها أن تُسهم في تعزيز سلطة الدولة، كل بقدر إمكانياته، وعندها يصبح العمل السياسي متكاملاً، ومتناغماً، وتصبح الأحزاب السياسية عاملاً مهماً في تعزيز الاستقرار السياسي، ولمّ الشمل، أما إذا فقدت هذه القيم الحامية لكيان الدولة طريقها إلى الأحزاب أو فقدت الأحزاب طريقها إلى هذه القيم، أو استبدلناها بقيم أخرى ضيقة سواء كانت حزبية أو شخصية؛ فإنَّ الشراكة الوطنية هنا تفقد روحها الفاعلة، وإنني أعجب ممن يدعون إلى مراعاة خصوصيات معينة تتصادم مع قيم الدولة، وكأننا في تجمع طفولي نرضي فيه كل طرف بما يناسبه، لا في شراكة تؤسس لقيام دولة، ومن ثم فإنَّ كل الاعتبارات المناهضة لقيم الدولة ينبغي أن تستبعد من أي طرف كان. وأعتقد أنَّ من أولويات الحوار الوطني اليوم أن نتخلى عن الاعتبارات الشخصية وأن نقف أمام مسئولياتنا في مستوى واحد، بعيداً عن تلك التصنيفات الاجتماعية التي تكرس التفاوت بين مكونات العمل السياسي، حتى نستطيع فعلاً أن نبني دولة نفاخر بها أمام العالم، وحين أقول (نبني دولة) فإنني أعني ما أقول لأن الدولة بما لهذه الكلمة من مدلول غائبة ليس فقط في واقعنا اليمني، وإنما في عموم البلاد العربية والإسلامية، باستثناء تركيا التي بدأت في الآونة الأخيرة تظهر ملامح الدولة فيها بشكل واضح وجلي، وأما ما عدا ذلك فهي أنظمة وسلطات ليس إلا. ويصبح لزاماً على مختلف ألوان الطيف السياسي في اليمن اليوم أن تتفق على القيم المؤسسة للدولة، ولا أقصد هنا القيم التي تعتنقها النخبة، وإنما القيم التي يؤمن بها المجتمع، لأن التجربة أثبتت أن قيم النخبة التي فرضت على الشعوب في مناطق مختلفة من العالم العربي كالقوميين واليساريين وحتى الإسلاميين في السودان فشلت فشلاً ذريعاً، فتحولت من خادمة للشعوب إلى حامية لأنظمة قمعية، وينطبق هذا الأمر أيضاً على الأحزاب والجماعات التي فقدت قيم الدولة فلجأت إلى الفقه المسلح لفرض رؤاها وأفكارها، ولإيجاد مكانة لها في الواقع الاجتماعي والسياسي، فلا يؤدي ذلك إلا إلى مزيد فشل، وقد ثبت فشله عبر تاريخ الدول. ونحن حين نؤكد على معيارية الشعوب في تحديد قيم الدولة، فلأننا بذلك ندرك تماماً أن قيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية هي الآفاق التي تنشدها الشعوب، ولاشك أنها لا تلتقي وقيم السلبية التي تعبر عن نزعات ضيقة للأحزاب والجماعات، مثل مبدأ التوريث في الحكم، أو الإعفاء من المساءلة، أو نظرية الحق الإلهي التي تنادي بها بعض الأحزاب، فإذا كانت مثل هذه النزعات السلبية تلبي حاجة قلة قليلة من النخبة، فإن قيم الشعوب التي هي في نهاية المطاف قيم الدولة تلبي حاجة كل أفراد الشعب، وتضع الجميع على مستوى واحد من الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص. تهم باطلة ما أكثر التهم التي تلقى ضد الحركة الإسلامية جزافاً، ففي اليمن مثلاً يتهم حزب الإصلاح بأنه حزب إقصائي لا يؤمن بالشراكة الوطنية وبأنه متى ما وصل إلى السلطة فقد ذلك الخطاب المسالم ليتبنى خطاباً قهرياً قائماً على الاستعلاء، وبناء على مثل هذه التهم يروج البعض بأن الإصلاح غير صالح للحكم، وبأن غيره من التنظيمات التي لها تاريخ في حكم اليمن هي الأقوى والأقدر على الحكم والقيام بواجبات السلطة، ومثل هذا القول التهمة ينطوي على جانب كبير من المغالطات، فهاهو ذا حزب الإصلاح يثبت للجميع من خلال مشاركته في حكومة الوفاق الوطني بأنه أزهد الأحزاب في السلطة، وبأنه رغم مكانته الكبيرة في الشارع اليمني إلا أنه لم ينل من الحقائب الوزارية سوى حقيبتين أو ثلاث، وهذا يؤكد أن الإصلاح يسعى لإقامة دولة لا لإقامة سلطة، ولو أنه سعى لإقامة سلطة يتبوأ منها الصدارة لفشل فشلاً ذريعاً مثله في ذلك مثل تلك الأنظمة البائرة البائدة. أما عن تهمة تلبس الإصلاح بالنزعة الإقصائية والخطاب الاستعلائي، فإن مثل هذا القول تكذبه الوقائع، فقد أثبتت المسيرة السياسية في اليمن أن الإصلاح من أكثر التجمعات السياسية حرصاً على أن يسود الواقع السياسي روح الإخوة الوطنية، وأن يحتكم الجميع إلى قوة المنطق لا إلى منطق القوة، كما أثبتت التجارب أنه الأبعد عن تسفيه آراء الآخرين، والتشنيع عليهم، كما تفعل بعض الأحزاب التي تندفع في هجومها من منطلقات ضيقة. أما القول بأن الإصلاح لا يصلح للسلطة مطلقاً، وبأن غيره ممن لهم تاريخ في حكم اليمن هم الأقوى والأقدر على ذلك، فنحن هنا نرفض الأحكام المسبقة التي تستبطن مُنكراً من القول وزُوراً، وتضع نتائج مخالفة للمقدمات، فالإصلاح يمتلك من الكفاءات والقدرات الشيء الكثير، وهم إلى ذلك يتمثلون قيم النزاهة والتواضع والتفاني في خدمة الناس، أما أولئك الذين يشاع اليوم أنهم الأصلح لحكم اليمن لأن لهم تجارب سابقة، فنقول: وماذا قدموا من خلال هذه التجارب غير الإفقار والتجهيل والظلم والمرض، فأين هي منجزاتهم التي تدل على نجاحاتهم وتقديمهم نموذجاً للحكم الرشيد، وببساطة مطلقة يمكن أن نهمس في أذن من يرددون مثل هذا القول: "لو نجحوا في ذلك لما ثارت ثائرة الشعوب عليهم". إن نظرية الحق الإلهي في السلطة وحكم الشعوب أمر مرفوض، وقد أثبت التاريخ بطلانها، وكذا الممارسة الفعلية أثبتت بطلان ذلك، وهي أحلام لم ولن تتحقق لأنها خارج سنن الكون، وهاهي البشرية اليوم قد وصلت إلى قناعة أنها لا تُحكم إلا بإرادتها، ولم يعد الحاكم شخصاً مفروضاً من السماء، وإذا كنا نعد توريث الحكم على مدى التاريخ الإسلامي نقيصة شنيعة في حق مبتدعيها؛ فإننا يستحيل أن نقبل بإضافة هذه النقيصة المستقبحة إلى خاتم النبيين وسيد المرسلين، لأننا نعتقد يقيناً أن مثل هذه التأولات مرض شفي منه أناس، وبقي فيه آخرون، كما أنها مثلت على مدى التاريخ القريب والبعيد بذور صراع أدت إلى تطاحن عدد من الأسر التي تدعي هذا الحق، وبالتأمل الفاحص لتاريخ هذه النظرية نجد أنها ما نشطت إلا وقسم المجتمع إلى دويلات ودويلات فهل هذا التشرذم علامة تعافٍ؟؟ والخلاصة: أن على جميع أطياف العمل السياسي اليوم في اليمن أن تترك القيم الميتة، وأن تتجه إلى بناء الدولة، التي هي قائمة بإذن الله، فمن ساهم في قيامها كان له شرف الإسهام، وأجر المشاركة، أما من جاء إلى ساحة الوطن حاملاً مشاريعه الصغيرة، وقناعاته المحصورة، ويريد أن ينصب من نفسه حاكماً بأمر الله، فإن الشعوب والزمن ومنطق الواقع سيتجاوزه، ولن يرضى الشعب اليمني أن يأتي من يقسِّمه إلى سادة وعبيد؛ لأن هذا المنطق يثير الضغينة، ويصطدم مع أنفة أبناء الشعب اليمني الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا شك أن ضرر مثل هذه الادعاءات المنتفخة سيعود بالدرجة الأولى على معتنقيها، الذين سيواجهون ثورة شعبية عارمة، ومن ثم فإن على أولئك الذين يمارسون هذا الحمق الفكري والسياسي أن يصحوا وأن يقرؤوا الواقع بعين باصرة، لأنهم ليسوا عامل توازن سياسي كما يروج البعض، ممن ينظرون إلى الواقع نظرة جزئية لا تتعدى عقداً من الزمن، فاليمن ليست حزب الإصلاح، وإنما هي شعب وتاريخ بآلاف السنين، وأرض وإنسان، ومن ثم فإن إيجاد اتجاه مواز أو موازن له ليس أمرا ذا بال، فلا هو ضرورة تقتضيها الواقع، ولا هو أمر يفرضه منطق اللحظة. إن التوازنات الحقيقية التي ينبغي أن نسعى إليها اليوم تكمن في تكريسنا لقيم الدولة، لأن هذه القيم إذا ما فُعِّلت فإنها ستنعكس على اليمنيين جميعاً خيراً ورخاءً وعدلاً.