لم يكن ممكنا أن تمر الانتخابات البلدية الأخيرة في تركيا دون أن تنعكس صراعاتها وتجاذباتها السياسية والإعلامية على الوضع العربي وقواه السياسية والاجتماعية المتنازعة. ووفقا لسنة (الطيور على أشكالها تقع) فقد انقسم العرب في مواقفهم مما يجري في تركيا: تأييدا لهذا الطرف أو ذاك وفقا للفرز السياسي الراهن في بلدانهم. ولأن فلول وبقايا أنظمة المخلوعين العرب كان لهم رؤية أن تركيا هي أرض مرحلة جديدة من معركة استرداد كرامة زعاماتهم المخلوعة؛ فقد بدأت الشرارة الأولى من أحد الأبواق الأمنية العربية التي أخذت على عاتقها التبشير بسقوط حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان نكاية بالموقف التركي المؤيد لثورات الربيع العربي التي حاز فيها الإسلاميون مكانة متقدمة بحكم شعبيتهم الكبيرة. وكانت شرارة معركتهم الترويج الإعلامي الهائل لاتهام الحكومة التركية بالتورط في ممارسات فساد. وكان الجانب الكوميدي في الموقف العربي أن القوى التي أبدت غيرتها ضد الفساد التركي هي نفسها القوى التي رعت أخطر ممارسات الفساد في الوطن العربي التي تجلت في أنظمة المخلوعين العرب مثل تونس ومصر تحديدا، وهي أيضا نفسها الأنظمة الغارقة في مستنقع الفساد الشامل حتى الآذان وما فوقها؛ حتى يمكن القول إنها أنموذج عالمي للفساد الشامل وفي كل المجالات الذي ينطبق عليه قوله تعالى: [ ظهر الفساد في البر والبحر..]. لذلك كان من الطبيعي أن ينحاز المؤتمريون وأشباههم ضد حزب العدالة والتنمية.. مثلهم في ذلك كمثل أشباههم في مصر من أنصار الانقلاب العسكري في مصرن ومؤيديهم في الداخل والخارج فالطيور على أشكالها تقع؛ سواء أكانت أحزابا أو قنوات فضائية مثل قناة (العربية) التي أسهمت كعادتها في التحريض ضد الإسلاميين في الترويج للتغيير القادم في تركيا أن تصيب سكتة إعلامية (العربية) بعد هزيمة العلمانيين المعادين (للعرب والمسلمين)! وقد لاحظت أن القناة وصفت فوز الإسلاميين في اليوم الأول بأنه (فوز بسيط) فلما ترددت أنباء عن مطالب المعارضة إعادة الفرز بسبب وجود تزوير تغير الوصف ليصير (وجهت المعارضة التركية اتهامات بتزوير الانتخابات التي هيمن (!) عليها الحزب الحاكم!). شيء من التاريخ! وهكذا انقسمت القوى العربية تجاه الحدث التركي ما بين مؤيد للمعارضة العلمانية ذات الطابع الشوفيني المعروف تاريخيا حتى ضد العرب الذين أيدوهم.. وما بين متعاطف مع الاتجاه الإسلامي الذي يمثله حزب العدالة والتنمية صاحب المواقف المتميزة في التاريخ التركي المعاصر المؤيدة للقضايا العربية وخاصة قضية فلسطين (أثناء التحضير للغزو الأمريكي على العراق 2003 رفض البرلمان التركي ذو الأغلبية الإسلامية الموافقة على السماح للقوات الأمريكية باستخدام قاعدة إنجرليك لغزو شمال العراق مما أدى إلى تغيير الخطط الأمريكية في آخر لحظة!). هذان الموقفان استمدا وقود حماستهما من الخلاف الحاصل بينهما حول مستقبل التغيير في الوطن العربي؛ فالذين ما يزالون يرون في الثورة والتغيير أملا لانعتاق الأمة العربية من حالة البؤس والتخلف والحكم العسكري أيدوا حزب أردوغان.. والذين كرهوا ثورات الربيع العربي ابتداء لأنها هددت مصالحهم، أو انتهاء لأنها جاءت بالإسلاميين إلى السلطة؛ انحازوا ضد أردوغان وما يمثله في الحالة التركية. على هامش التهييج الإعلامي؛ جرى في بعض البلدان استدعاء جوانب من تاريخ العلاقات التركية العربية التي شهدت مرحلة عداء بين النخب الحاكمة في البلدين على خلفية مواقفهما في الحرب العالمية الأولى وما قبلها وما بعدها، وخاصة انحياز قوى وزعامات سياسية في المشرق العربي إلى جانب الإنجليز فيما عرف بالثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين التي خطط لها البريطانيون لضرب الجيوش التركية من الخلف.. فمنذ تلك الأيام صار الجنس العربي هم العدو الأول للنخبة التركية الحاكمة، وفيما بعد صار الإسلاميون الأتراك يقدمون في الإعلام العلماني بأنهم عملاء للدول العربية؛ حتى أنه عندما وصل الإسلاميون إلى حكم البلديات للمرة الأولى عام 1994 كان من ضمن وعودهم للناس تنشيط الاستثمار وتثبيت الأسعار، ويومها سخرت منهم الصحافة العلمانية متسائلة عن مصدر هذه الأموال وهل هي بنوك السعودية أم الكويت؟ وكان الرد على لسان أحد زعامات الرفاه: (ليس لنا أموال إلا التي كنتم تسرقونها ونحن وضعناها في مكانها!) وفي ظننا أن هذا الرد يلخص حقيقة ما حدث في تركيا منذ وصول الإسلاميين إلى السلطة؛ فقد كانت مشكلة البلد الرئيسية هي في الفساد المستشري الذي أرهق الأتراك فلما جاء حزب العدالة والتنمية ووضع الإمكانيات في محلها شهدت تركيا تطورات هائلة قفزت بها إلى مصاف العشرين دولة الأكثر تقدما في الجانب الاقتصادي، وها هم الآن يخططون لتصل بلادهم في العام 2023 إلى مصاف الدول الستة الأولى!
[ من ظرائف المقارنة بين السلطة العسكرية الانقلابية في مصر وبين السلطة الحاكمة في تركيا المؤيدة للرفض الشعبي للانقلاب ما سجله مصري تعليقا على الانتقادات المصرية ضد حكم أردوغان.. إذ لاحظ أنه في الوقت الذي بدأت تركيا بناء مجمع طبي عالمي بقيمة مليار دولار كان وزير الصحة المصري يوجه نداء للأطباء المصريين أن يهتموا بهش القطط التي تسرح وتمرح في المستشفيات!]. هاوية.. العلمانية! ما يهمنا هنا هو ما يختص بالموقف التركي الرسمي العدائي للنخبة الحاكمة منذ إسقاط الدولة العثمانية رسميا على أيدي النخبة التركية العلمانية التي هيمت على حكم تركيا حتى2012؛ عندما وصل الإسلاميون بقيادة أردوغان إلى السلطة منفردين لأول مرة في تاريخ تركيا المعاصر، فخلال أكثر من 80 سنة كرست النخبة التركية العلمانية حالة من العداء الشامل للإسلام والعرب شمل كما هو معروف: علمنة الدولة وتغريب المجتمع في إحدى أسوأ التجارب العلمانية تطرفا وعداء للدين، وإلغاء كل المظاهر والرموز الإسلامية بدءا بالأذان باللغة العربية، ومنع الحجاب والذهاب إلى الحج، وإلغاء استخدام الحروف العربية في كتابة اللغة التركية وإحلال الحروف اللاتينية بدلا منها.. وأذكر مثلا على حالة العداء لكل ما هو إسلامي أن أردوغان عندما كان رئيسا لبلدية إستانبول في التسعينيات دعا إلى صلاة الاستسقاء لمواجهة حالة جفاف شديدة أصابت المنطقة.. واستجاب الله لدعاء الناس فنزل مطر غزير أغرق المدينة.. ويومها سخرت الصحافة العلمانية مما حدث، ونشرت صحيفة رسما كاريكاتيريا يسخر مما حدث، كان عبارة عن مطر نازل من السماء ومعه فاتورة! [المثير للريبة في حالة العداء هذه أن العلاقات التركية توثقت في المقابل في تحالف تاريخي مع الدولة الصهيونية والدول الغربية التي كانت العدو الأول والتاريخي للأتراك طوال مئات السنين حتى وصلت إلى مرحلة اجتثاث الدولة من أصولها في الحرب العالمية الأولى!]. وخلال زيارة سريعة لتركيا نهاية عام 1996 أتيح لي معرفة شيء من تفاصيل تلك العداوة العلمانية للعرب؛ رغم أن الزيارة كانت في وقت متأخر عن زمن العداء الشامل قبل الصعود الكبير للإسلاميين المتعاطفين مع العرب، وبالذات كان الوقت زمن التحالف بين حزب الرفاه بزعامة البروفسور نجم الدين أربكان وحزب علماني آخر بقيادة (تانسو تشيلر).. فخلال أيام الزيارة (كتبت عنها عدة مقالات في صحيفة الصحوة يومها) كان الوضع أشبه بأيام الرئيس المصري محمد مرسي من حيث التآمر السياسي والتحريض الإعلامي، بل وانتهت التجربة بانقلاب عسكري مشابه فرض فيه فك التحالف الذي أوصل أول رئيس وزراء إسلامي للمرة الأولى منذ انقلاب أتاتورك.. وفيما بعد جرى تلفيق اتهامات لحزب الرفاه أدى إلى حله وسجن بعض رموزه! كان من أبرز اهتمامات أربكان في فترة رئاسته القصيرة توثيق التعاون مع الدول العربية والإسلامية الأمر الذي أثار غضب الاتجاه العلماني الذي رأى في ذلك إعادة للهوية الإسلامية العثمانية، وفي سبيل ذلك عمل أربكان على تأسيس منظمة اقتصادية تضم أكبر الدول الإسلامية سكانا منها مصر وإيران وباكستان وإندونيسيا ، كما قام بزيارتين تاريخيتين لمصر وليبيا أنتجت يومها ردود فعل عدائية علمانية اتكأت على بعض ما حدث فيهما لتهييج العداوة ضد العرب؛ فمثلا لم يرفع العلم التركي في مطار القاهرة أثناء وصول أربكان مما جعل الإعلام العلماني يعدها نوعا من الإهانة الوطنية من قبل (هؤلاء العرب الذين كنا نحكمهم يهينوننا هكذا!) على حد تعبير نائب يساري علماني.. وفي ليبيا أثاروا مسألة التأييد الليبي للأكراد في الوقت الذي يسعى فيه الزعيم الإسلامي لتوثيق العلاقات معها، حتى أن وزير الداخلية التركي (ممثل الحزب العلماني الحليف في الحكومة الائتلافية) الذي كان ضمن الوفد رفض التوقيع على أحد محاضر اللقاءات .. وقد رد الإسلاميون عليهم يومها بأن ما حصل في المطار كان بسبب أن وصول الوفد التركي كان مع حلول الليل كما اعتذر المصريون.. أما عن الدعم أو التأييد الليبي للتمرد التركي فهو يشابه التأييد الذي يلقاه في الدول الغربية ومع ذلك لم يحتج أحد من العلمانيين على ذلك! لمن كان له عقل! منذ الانقلاب العسكري في مصر؛ يسعى مؤيدوه المصريون والعرب لتقديمه على أنه ضربة لمخطط تركي قطري أمريكي، وتحظى تركيا أردوغان بنصيب كبير من التحريض بما فيها العمل لمصلحة إسرائيل، وقد يكون من المفيد قراءة هذه الفقرة من مقال الأستاّذ فهمي هويدي (رسالة الانتخابات التركية) حول حقيقة المواقف الدولية مما حدث في تركيا مؤخرا:
[ أعرب الأمريكيون عن «خيبة أملهم» في نتائج الانتخابات المحلية في تركيا. وأبرز الأهرام هذه الإشارة في العدد الصادر أمس (7/4) نقلا عن مراسله في أنقرة، الذي ذكر أن الرئيس الأمريكي لم يهنئ أردوغان على النتيجة، كما أن سفيره في العاصمة التركية تجاهله، وكان السفير الأمريكي قد صرح في وقت سابق تعليقا على قضايا الفساد التي جرى تسريبها بأن الحكومة التركية تجاهلت نصائح واشنطن «والآن تتابع انهيار الإمبراطورية»، خيبة الأمل هذه ترددت أصداؤها في إسرائيل، حيث ذكرت الإذاعة العبرية يوم السبت 29/3 أن نتنياهو رئيس الوزراء أكثر القلقين من نتائج الانتخابات التركية وأنه «يتطلع لفشل أردوغان وانتهاء حقبته». وذكرت صحيفة «إسرائيل اليوم» في عدد 30/6 على لسان المستشرق أ. بالاو الذى يرأس قسم الدراسات الشرقية في جامعة «أرئيل» إن فوز أردوغان يمثل خطورة على إسرائيل، خصوصا أن أزمة القرم عززت مكانة تركيا الاستراتيجية لدى الغرب والولايات المتحدة بوجه أخص. ذلك أن تركيا تتحكم في الدخول والخروج من البحر الأسود. ومن ثم فإنها أصبحت الدولة الوحيدة التي بإمكانها التحكم في قدرة الروس على الوصول للبحر الأبيض المتوسط. وبسبب تلك الأهمية الإضافية فإن واشنطن لن يكون بمقدورها إجبار أردوغان على تغيير سلوكه إزاء إسرائيل!].