الإنسان مركب ثقافي, ولا يمكن أن يكتسب شخصيته إلاّ داخل سياق ثقافي ما, ووجود الفرد في ذلك السياق الثقافي يمكن يمده بمجموعة من الأفكار أو المعتقدات واليقينيات, بيد أن وجود الإنسان في هذا السياق الثقافي أو ذاك مسألة لا اختيار فيها , أي أنها مسألة تعود إلى الصدفة المحضة, ولذا فإن الإنسان سواءً في معتقداته ويقينياته أو في أفكاره ومعارفه لا علاقة لها بأي ترتيب مسبق. وعليه فإن إنسان المجتمعات التقليدية والأنظمة المغلقة, مجتمعات الافتقار إلى الحرية ونظامها التعليمي تقليدي يستند على منهج التلقين والحفظ والاستذكار, نظام تعليمي كهذا, بالتأكيد نظاماً يخلق يقينيات وقناعات, واليقين بالتعريف الفلسفي لا يمت للمعرفة بصلة, اليقين وليد للإيمان, أي أن اليقين ليس معرفة, وغاية اليقين طمأنة تفضي إلى ثبات وسكون النفس وبالتالي فإن مآلها الإيمان, بينما المعرفة قلق دائم وبحث مستمر, وتظل المعرفة في حركة دائمة, لأنها بحثاً عن الحقيقة. السعي إلى اليقين يولد تعصب وأصولية عقلية منغلقة على نفسها ولا يعترف بالأخر, بينما السعي إلى المعرفة تولد عقلاً مرناً وقابلاً التعاطي مع الحياة والأخر, أي عقلاً منفتحاً. وإذا أردنا أن نبحث عن الخلل في هذا التعصب الأعمى والأصولية في أي مجتمع, ينبغي أن نبحث في نظامها التعليمي, بوصفه سبباً مباشراً لها. لقد شهدت فلسفة التربية تطوراً كبيراً , وانتقلت فيه التربية من الأساليب التقليدية إلى الأساليب الحديثة بفعل تطور العلوم السلوكية, ولقد تم مبارحة الأساليب التقليدية في معظم دول العالم, بينما هذه الأساليب التقليدية تعد أس وجذر التخلف في مجتمعاتنا, نظام التربية التقليدي نظام عابر في تاريخ البشرية تم تجاوزه. ولقد اثبتت العلوم السلوكية , أن الإنسان يكتسب مجمل شخصيته بفعل تنشئته وتربيته , ويتسم الإنسان بأنه الكائن الفاعل والمنفعل أيضاً, أي بقدر ما يؤثر الإنسان في الأخرين, فإنه يتأثر بهم أيضاً , وفي الحقل التربوي فإن الإنسان بقدر ما يتلقى التربية من سواه, فإنه يربي غيره. ويظل الإنسان في حالة من التأثير والتأثر طوال حياته, لكنه في بعض الأحيان يحدث أنه كلما تقدم به العمر أكثر فأكثر فإن تأثيره يتسع ويكبر على حساب تأثٌره, وإذا تكونت شخصيته على نظام تعليمي تلقيني وتقليدي ينتج يقينيات ومعتقدات, فإنه ينقل إلى الجيل الذي يليه وبنفس الطريقة أما إذا كان النظام التعليمي الذي صاغ شخصية المربي نظاماً حديثاً, فإنه حداثة النظام التربوي تؤثر في الجيل الذي يليه, السؤال كيف نخرج من نظام تعليمي تقليدي إلى رحاب نظام تعليمي حديث ؟ إن نظامنا التربوي كأي نظام تربوي تقليدي يفتقر لمبدأ الاحترام والشعور بالمسئولية الذاتية والمسئولية تجاه الأخرين, والاحترام يتطلب حسب الفيلسوف برنتراند راسل خيالاً واسعاً وحماسة مشبوبة, وهو يتطلب أكثر ما يتطلب سعة الخيال في من لا حولة لهم ولا مقدرة, فالطفل ضعيف , وتبدو عليه حماقة ظاهرية, بينما المدرس قوي, ويبدو لنا أكبر من الطفل عقلاً , ولذا في غياب مبدأ الاحترام يتجسد اعتقاد لدى المدرس أن واجبه أن يصوغ الطفل, فهو يتعامل معه كما لو كان صلصلاً , وإنه الخزاف. وفي ظل سياسة تربوية كهذه يتشكل الطفل في قالب مشوه غير طبيعي يصبح مع الوقت صلباً غير قابل للتغير, وينشأ عنه توتر وقلق نفسي ينتج عنهما قسوة وحسد, واعتقاد بأن الأخرين يجب أن يشوهوا بالطريقة نفسها. أما المدرس في النظام التربوي الذي يستند على مبدأ الاحترام , حيث يحس المدرس بمسئولية بالغة تجاه تلاميذه , تجاه أطفال لا يملكون من أمرهم شيئاً إلاّ الخضوع لسلطة المدرس, ولذا فأنه يسعى أن يخلق منهم أفراد صالحين في المجتمع, وذلك من خلال مدهم بمعارف قابلة للنقاش ويطور فيهم ملكة الحوار والاقتناع بها عبر الحوار معها. إن التعليم الذي أساسه وجوب تصديق كل ما يدرس سرعان ما يقود المرء في خطوات سريعة إلى فساد القوى الذهنية, ولا يمكن المحافظة على الحد الأدنى الضروري من التقدم البشري إلاّ بالإبقاء على روح البحث الحر. أن الظروف الاجتماعية بقدر ما هي مسئولة عن تربية الإنسان وتنشئته, فإنها تتغير بفعل نشاط الإنسان أيضاً, البيئة تصنع الإنسان , وفي المقابل فإن الإنسان يؤثر فيها, أي أن الإنسان يؤثر ويتأثر, وبلغة أدق الإنسان يربي ويتربى, ومن هذه الإشكالية تبرز مشكلة مسئولية الإنسان عن أفعاله, المسئولية القانونية والاخلاقية, وتنبع مشكلة عدالة الحكم على سلوكه ويبرز سؤال أساسي صيغته على النحو التالي, كيف يكون حكم على فعل شرير أو جريمة عادلاً , إذا كانت ظروف تنشئته لم تكن سليمة, أي أن حكم العقل هنا يضعه في موقع الضحية..., وهذا المبدأ" المسئولية" كان مثار بحث بدأه الفكر المعتزلي في الفكر العربي الاسلامي , حيث تصدى له وقدم إبداع فكري وتأصيل نظري له, وعليه عُدت المعتزلة بأفكارها عن المسئولية وارتباطها بالحرية أساس لتيار جديد في الأخلاق أطلق عليه ب "أخلاق العقل" الذي جاء امتداد لفلسفة سقراط , ومن ثم جاء الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1727-1804م) مواصلاً تطوير هذا الاتجاه في علم الاخلاق. لذا فإن أي محاكمة عقلية لأصل الشرور في هذا العالم؛ تتطلب أن نضع هذه المسائل قيد النظر, ناهيك عن حلها الذي يتطلب إصلاح بيئة الناس وإحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية وتربوية , بغير ذلك يغدو الجدل حول إصلاح الإنسان جدلاً بيزنطياً فارغاً وعبثيا.ً إذا لم تتأسس فلسفة الحياة على أن الأصل في الإنسان الطيبة , وبالتالي يغدو تنمية بذرة الطيبة هذه مهمة تربية الإنسان وتنشئته, وهذا يتطلب الخروج من ثقافة تقسيم وتفتيت الناس إلى مؤمنين وكفار, أخيار وأشرار, إلى رحاب الثقافة الجديدة التي تتأسس على مبدأ أن الإنسان خيّر بطبعه, بغير ذلك سيغدو المجتمع فضاءً رحباً للانتقام والانتقام المضاد , وبذلك يدور الناس فيه؛ في حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد. صحيفة "الشارع"