كتب/د.ناصر محمد ناصر كيف تم بناء وتشييد النظام الحالي؟ وما هي الثغرات التي رافقت عملية بنائه وتشييده؟ وكيف أدت الأخطاء والتراكمات إلى تفاقم تلك الثغرات؟ وكيف باتت أزمة النظام اليوم شبه مستعصية على الحل؟ وأين المخرج من ذلك كله؟ هذا ما ستحاول السطور والصفحات التالية الإجابة عليه. النظام السياسي في اليمن هو نتاج واقعه الاجتماعي، المتمثل في البنية الاجتماعية القبلية والعشائرية والمذهبية، وهذا الواقع لازم مسيرة تطور الدولة اليمنية، منذ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، فالثورة قامت بها أساساً النخب الحداثية من العسكريين والمدنيين الذين تلقوا تعليمهم في الخارج، ولكن هذه النخب تبين لها بعد قيام الثورة بأيام قليلة أنها لا ترتكز على واقع اجتماعي، وأن بقاء الثورة مرهون باستقطاب القوى القبلية التي تحظى بوزن وثقل اجتماعي ولها القدرة على تجييش أبناء القبائل للدفاع عن الثورة، ضد خصومها، ومن ثم سارت القبيلة في علاقتها بالدولة في خط بياني صاعد، منذ ستينيات القرن المنصرم وحتى اليوم، فقد تمكن شيوخ القبائل الذين ربطوا مشاركتهم في الدفاع عن الثورة بمشاركتهم في صنع القرار، في عهد المشير عبد الله السلال أو رئيس للجمهورية من اختراق مجلس الوزراء، ومجلس الدفاع الوطني، ومجلس الرئاسة، ثم تمكنوا من إسقاط السلال نفسه في نهاية المطاف، والإتيان بالقاضي عبد الرحمن الإرياني في أواخر الستينيات، والذين تمكنوا في عهده من ضرب قوى اليسار وشرائح المجتمع المدني، والسيطرة على مؤسسة الدولة، وعندما حاول الرئيس إبراهيم الحمدي الذي انقلب على الإرياني في منتصف السبعينيات إعادة الاعتبار للدولة بالحد من نفوذ وسطوة المشايخ قاموا باغتياله في ظل ملابسات إقليمية ودولية لا مجال لذكرها الآن، ولم يعمر حكم أحمد حسين الغشمي سوى ثمانية أشهر فلم تستبن ملامح حكمه. أولاً: بناء وتشييد النظام: يمثل وصول علي عبد الله صالح إلى السلطة في أواخر سبعينيات القرن المنصرم الذروة التي وصلت إليها العلاقة بين القبيلة والدولة، فعلي عبد الله صالح يتحدر من قبيلة سنحان، إحدى بطون قبيلة حاشد القوية والنافذة، وبالتالي فقد كان وصوله محل قبول ورضا تلك القبائل، وقد تمكن علي عبد الله صالح الذي جمع بين الحنكة السياسية والمرونة والصرامة والقسوة في تعامله مع خصومه، من استغلال مجمل الظروف المحلية والإقليمية والدولية لتأسيس نظامه، فاستغل مخاوف القوى المتخوفة من امتداد النفوذ الشيوعي من الجنوب، وهي القوى القبيلة والدينية، ومن خلفهما السعودية والولاياتالمتحدة، وحصل على دعم غير مشروط لمواجهة المد الشيوعي في المنطقة، وفي ظل هذه الظروف أخذ يبني نظامه المرتكز على عصبيته القبلية، فشرع في الإمساك بجوهر النظام السياسي والقوة المحركة له وهي المؤسسة العسكرية، وواته الفرصة لذلك عقب مذبحة الناصريين في 15 أكتوبر عام 1978م، التي أتت بعد محاولة انقلابية استغلها لضرب وتصفية كل من يعترض على مشروع احتكار السيطرة على المؤسسة العسكرية، وشرع بعدها في إسناد المواقع القيادية في الجيش والأمن لإخوانه وأبناء عمومته وبذلك يكون قد أمن الركن الأول والدعامة الأساسية التي قام عليها نظامه العتيد. ثم شرع بتنصيب بقية أركان النظام فشرع في التحرر من النفوذ السعودي الطاغي، بإقالة الموالين للنظام السعودي داخل نظامه بطلب من رئيس الشطر الجنوبي لليمن وقتها عبد الفتاح إسماعيل، ورغم أن هذا الإجراء أثار حنق السعودية، التي عملت على الدفع بمحاولة انقلابية فاشلة ضده بقيادة وزير خارجيته الأسبق عبد الله الأصنج، إلا أن تمكنه من دحر خطر اليسار بالقضاء على الجبهة الوطنية المدعومة من الجنوب، خصوصاً بعد وصول علي ناصر محمد إلى سدة الرئاسة في الشطر الجنوبي في عام 1980م، أزال أسباب اعتراض السعودية على حكمه، وبالتالي تمكن من بناء نظام متوازن على الصعيد الإقليمي، وزاد من استقرار حكمه تلاشي هيبة النظام في الجنوب عقب أحداث 13 يناير1986م، وفرار علي ناصر محمد إلى الشمال، فتخلص بذلك من أحد فكي الكماشة، وبتحرره من النظام في الجنوب تمكن من تجاوز السعودية التي كانت الولاياتالمتحدة تدير اليمن من خلالها، وقام ببناء علاقات مباشرة مع القوة الأكبر في العالم، فتحالف معها مباشرة، وجسد تحالفه ذاك عبر أداء النظام إبان الحرب العراقية لإيرانية، وإبان الحرب ضد السوفيت في أفغانستان، حيث تبنى النظام المواقف الأمريكية كاملة، وأصبح جزءاً من إستراتيجيتها، وبالتالي أصبح بمنأى عن التهديدات والإملاءات الخارجية، وبذلك يكون قد أكمل تشييد الركن الثاني من أركان النظام. ومكنه تأمين النظام من مخاطر التهديدات الخارجية إلى الالتفات إلى الداخل، فشرع في استقطاب شيوخ القبائل النافذين وأسكنهم في صنعاء بحجة حاجته لمشورتهم، وأغدق عليهم الأموال، وسلم بعضهم مواقع في بيروقراطية الدولة، وغض الطرف عن تصرفهم الواسع في المال العام، ودفع بأبنائهم إلى الانتساب إلى أرقى الجامعات في غرب أوروبا وشمال أمريكا، بصرف النظر عن عدم أهلية الكثير منهم، ثم دفع بالعائدين منهم للانخراط في السلك الدبلوماسي، ومع مرور الأيام أصبح هؤلاء المشايخ أرباب مؤسسات تجارية وصناعية، تفرغ البعض لإدارتها وبقي البعض منهم يجمع بين العمل التجاري والمنصب العام، ثم أسس مصلحة شؤون القبائل، واستقطب من خلالها معظم المشايخ الذين بقوا متوطنين في الأرياف، وأعطاهم مرتبات ثابتة، مقابل ولائهم، ثم التفت إلى شرائح المجتمع المدني وهم قله فاستقطب معظم المثقفين بالمال والمنصب العام، وجعل البارزين منهم من الأدباء والمفكرين واجهة وصورة لتجميل صورة نظامه، ومن رفض منهم هذه الإغراءات كان مصيره التصفية، وبذلك تمكن من القبض على أطراف النخبة السياسية وربط مصيرها بمصير النظام الذي يقف على رأسه، وساعده في ذلك انفتاح دول الخليج وقتها على اليمن، فمن ضاق به العيش من اليمنيين اتجه إلى السعودية ودول الخليج، فكان النظام في حل من أي ضغوط شعبية، تطالبه في الإنجاز في مضمار التنمية. وبذلك يكون قد تمكن من تشييد الركن الثالث من أركان النظام. ثم شرع صالح في بناء واجهة عصرية للنظام فقام في مطلع الثمانينات بتأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام، وهو عبارة عن وعاء جمع معظم العناصر النفعية من يساريين وشيوخ قبائل ورجال دين، والحزب لا يحكم ولا شأن له بالحكم، ولا يظهر له صوت سوى إبان الحملات الانتخابية، ووظيفته الوحيده انه واجهة لحكم الأسرة التي تمسك بزمام الدولة تحت مسمى حزب. ثم قام بانتخاب مجلس تشريعي في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، مهمته إصدار التشريعات التي يريدها النظام، وحكومة ذات طابع تنفيذي، لا تتخذ القرار من الناحية الفعلية وإنما تنفذ سياسة رأس النظام، وتتحمل المسؤولية أمام الشعب في حالة إخفاق تلك السياسة. وخلف هذه الواجهة هناك رجل واحد هو الذي يمسك بزمام ومفاصل الدولة ويبت في كل صغيرة وكبيرة، فهو رئيس الجمهورية، والقائد العام للقوات المسلحة، والأمين العام للحزب الحاكم، ورئيس مجلس القضاء الأعلى. وبذلك تكون عملية بناء النظام بجوهره ومضمونه العائلي والقبلي، وبأركانه الداخلية والخارجية، وبواجهته العصرية قد اكتملت. ووصل النظام إلى أوج قوته في عام 1990م بعد أن ارتمى في أحضانه النظام في الشطر الجنوبي من اليمن، بعد سلسلة من المذابح والتصفيات الداخلية التي أدارها على مدى عقدين من الزمان من عمره، والتي أوصلته إلى حافة الإفلاس، السياسي الاقتصادي، وعقب تساقط الأنظمة الشيوعية، في دول المعسكر الشرقي، الذي وجد في الوحدة طوق نجاة من دفع فاتورة حساب ثقيلة، حملها دولة الوحدة، ونأى بنفسه عن أي محاسبة، إ ذ اكتسب حينها النظام مشروعية داخلية لا تضاهى هي مشروعية الوحدة. وأصبح بمنأى عن الضغوط السعودية التي كانت ركيزة سياستها الخارجية نحو اليمن تقوم على محور الصراعات الشطرية. ثانياً: الثغرات الكامنة في صلب النظام: لقد أخذ النظام في التراجع بفعل عوامل عديدة، أهما الثغرات الكامنة فيه والتي رافقت عملية بنائه وتشييده، فهو من ناحية كونه نظاماً مغلقاً على أسرة بعينها لا يمثل ولا يستوعب كل أبناء اليمن لا قبل الوحدة ولا بعدها، فالمؤسسة العسكرية، والتي تعتبر الركن والركيزة الأساسية التي يقوم عليها النظام، أقدم النظام على تجزئتها إلى عدة مؤسسات عسكرية تواجه بعضها البعض، وقام بإنشاء قوات موازية لها تمثلت في الحرس الجمهوري، وقوات الأمن المركزي، وهي ليست مجرد قوات شرطة مهمتها حفظ الأمن، فهي مسلحة بعتاد وسلاح ثقيل، شأنها شأن وبقية وحدات الجيش، وهذا أثار كثيراً من الامتعاض داخل المؤسسة العسكرية وفي الأوساط السياسية والثقافية، حيث بات الكثير يعتبرها بأنها قد خرجت عن هدفها الوطني وأصبحت مهمتها الدفاع عن النظام وعن مصالح الأسرة الحاكمة، وخريجي الكليات والعاهد العسكرية يجدون أنفسهم في وضع مهمش مقارنة بأبناء سنحان الذين يحتلون مواقع قيادية في تلك المؤسسة لا تتناسب مع مؤهلاتهم ومستواهم التعليمي الضحل، فالمؤهل الوحيد الذي تفتح أمامه المواقع القيادية في الجيش هو الانتماء إلى قبيلة سنحان. وهذا يحدث تذمرا مكبوتا ومتنامياً داخل الركن والركيزة الأولى للنظام. والقوى المستفيدة من النظام بعد الأسرة الحاكمة هي القوى القبلية المتحالفة معه، وعلى وجه التحديد مشايخ القبائل الذين استقطبهم النظام، ومكنهم من المال العام، وبعض المناصب الصورية في بيروقراطية الدولة، بهدف كسب ولائهم وربط مصيرهم بمصير النظام، وهؤلاء بفعل الفوارق الطبقية بينهم وبين أبناء القبائل المعدمين التي نمت واتسعت مع مرور السنين، لم يعد الكثير منهم، يقوى على تحريك القبائل الجائعة، وتجنيد أبنائها في صف النظام، فضلاً عن كون كثيراً منهم، بحكم إقامتهم الدائمة في العاصمة أصبح غير ذي صلة بالمجتمع القبلي في الأرياف، وكثير من النافذين من هؤلاء والذين رافقوا النظام وتحالفوا معه إبان قيامه، قد رحلوا عن هذا العالم، وخلفهم أبنائهم الذين أصبحوا أكثر انشغالاً بالعمل التجاري أو السياسي، فلم يعد للكثير منهم وزن يذكر على صعيد القدرة على تحريك أبناء القبائل، والاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هو مشايخ حاشد، حيث استطاع الأبناء الحفاظ على بعض صلاتهم وقدرتهم على التأثير بين أبناء القبائل، وبالتالي فإن هذا الركن من أركان النظام قد تآكل كثيراً، ولم يعد يقوى على حمل أثقال النظام. أما النخبة السياسية التي كان بمقدور النظام استيعابها في ثمانينيات القرن المنصرم، فقد توسعت كثيراً بحكم التعليم، وتوسعت أكثر بعد الوحدة التي رفدت هذه النخبة، بكثير من الشخصيات النافذة القادمة من الجنوب، وخصوصاً بعد حرب عام 1994م، التي أقصت الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة، وكرست وضع أبناء الجنوب، كأبناء الشمال كمجاميع تعيش على هامش الثروة والسلطة التي يحتكرها النظام، حيث أصبح النظام أكثر حرصاً على إرضاء واستقطاب هذه الشخصيات، لا سيما بعد بروز الحركة الانفصالية في بعض محافظات الجنوب خشية لحاق هذه الشخصيات بطابور الانفصال ومساندته علناً، رغم أن كثيراً منهم متعاون مع دعوات الانفصال، بمن فيهم أسماء تحتل مواقع قيادية في نيابة رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، ورغم محاولة النظام استقطاب كل من يقوى على استقطابه ووصول عدد مستشاري الرئيس إلى المئات، وكثير منهم وزراء سابقون، باتوا يجأرون بالشكوى من التهميش الذي طالهم، إلا أنه لم يعد بإمكانه أن يرضي كل من أراد المال بالمال وكل من أراد المنصب بالمنصب، فالأموال والمناصب بطبيعتها محدودة، بينما عدد المتكالبين عليها في ازدياد. وبالتالي فإن هذه الركيزة، التي استوعبتها المؤسسات الصورية للنظام باتت أكبر من الاحتواء، وأصبح لها نتوءات، باتت تهددها بالتداعي والانهيار. وبما أن النظام في جوهره يقوم على مبدأ الاسترضاء ونسج التحالفات، وهي عملية تقوم وتنهض على ركيزتين، أولاهما هدم وإضعاف مؤسسات الدولة، التي تعتبرها القوى والشخصيات التي وضعت على رأسها مجرد غنائم لقاء تعاونها مع النظام، وثانيهما نهب وإهدار المال العام، ومن البديهي أن أي نظام يقوم على مبدأ تقاسم المنافع، لا يمكن أن ينجح في مضمار التنمية، والنظام القائم اليوم عبر تاريخه لم ينجح لا في مضمار خلق الثروة، التي هي ركيزة عملية التنمية، ولا في ميدان توزيع الثروة بين أفراد المجتمع، بهدف الحد من تزايد السخط العام بين الغالبية العظمى من المعدمين، ولا زال النظام منذ تأسيسه يحكم إما بشرعية ثورية كما كان الحال عليه قبل الوحدة أو بمشروعية الوحدة عقب إعلانها، وبمشروعية الدفاع عنها اليوم. فلم يتمكن النظام الانتقال من شرعية إيجاد الدولة، إلى شرعية الانجاز في مضمار تنمية الدولة التي تعود على مواطنيها بالرفاه، أو بالحد الأدنى من العيش الكريم، وهو ما طال انتظاره من قبل الأغلبية الساحقة من اليمنيين الذين لم يلمسوا لا ثمار الثورة، ولا ثمار الوحدة التي أطنب النظام كثيراً في الحديث عنهما. وعليه فإن النظام قد وقع بين حدين هما رضا النخبة الفاعلة في المجتمع والتي لا يمكن أن توافق على مسألة احتكاره للجيش والسلطة إلا بثمن مشاركتها في الثروة، وهو أقل ما يمكن أن تقبل به، ورضا الجماهير التي لا يمكن أن يستمر سكوتها على شراكة في قمة الهرم السياسي والاجتماعي تستثنيها من خيرات بلادها، وتنظر إليها على أنها مجرد مجاميع تعيش على الهوامش والتخوم، تتفرج على احتكار السلطة وتوزيع الثروة بين سادة النظام وسدنته من المنتفعين، وبالتالي فإننا أمام مأزق يصعب الخروج منه في ظل التركيبة الراهنة للنظام. وفي ظل هذا الوضع المأزوم شرع النظام مع مطلع الألفية الثالثة في إحداث نقلة في نواة النظام نفسها وهي الأسرة، بدأت معها أزمات النظام في التوالد والتداعي، فقد شرع مركز النظام في العمل على نقل السلطة من الإخوة إلى الأبناء، ومن ثم شرع في إبعاد وتهميش الإخوة الذين يعتبرون أنفسهم مؤسسين للنظام، وتركيز أبنائه في مواقعهم، وفي هذا الإطار تم إبعاد علي صالح الأحمر من قيادة الحرس الجمهوري، وإسنادها إلى نجله أحمد علي عبد الله صالح، الذي جمع بين قيادة الحرس الجمهوري وقيادة القوات الخاصة، ثم شرع في إبعاد قوات الفرقة التي يديرها علي محسن الأحمر من صنعاء ومحيطها، بهدف حصر النفوذ في عاصمة ومركز الدولة في نجله وحده، وهذا ما أثار اعتراض علي محسن الأحمر، وقادة آخرين من سنحان أبرزهم محمد إسماعيل، قائد المحور الشرقي، وأحمد فرج القائد السابق للواء خالد بن الوليد، اللذان يبدو أنهما شاركا على محسن الأحمر ذلك الاعتراض، فقتلا في حادث طائرة يشك الكثير أنه مدبر. ثم ما لبث أن ورط علي محسن الأحمر في ست جولات صراعية مع الحوثي، لم تشترك فيها أي من وحدات الحرس الجمهوري التي يديرها نجل الرئيس، وهو ما فهم على أنه رغبة رأس النظام ليس في إضعاف علي محسن الأحمر وحده، بل ورغبته في تصفية ما بقي من الجيش الجمهوري، لمصلحة القوات الموازية التي يديرها نجله، ورغم أن رأس النظام قد توصل كما يبدو إلى تسوية مع إخوانه قوامها أن يخلف الأبناء الآباء في قيادة المواقع العسكرية التي يحتلونها اليوم، كما حدث مع محمد عبد الله صالح الذي خلفه ابنه يحي في قيادة قوات الأمن المركزي، إلا أن الإخوة يعتبرون هذه التسوية ناقصة، كونها أتت بعد تهميشهم وإضعافهم، وبالتالي فإن أبناءهم الذي لا يتمتعون بنفوذهم لن يرثوا سوى ضعفاً مضاعفاً. ثالثا: الأخطاء والتداعيات: تزامن مع سياسة استهداف نواة النظام سياسة أخرى تهدف إلى إضعاف القوى السياسية، والشرائح الاجتماعية التي قد يشكل وجودها اعتراضاً ذا معنى على مشروع التوريث، فقام بضرب تلك القوى بعضها ببعض، بهدف إشغال الجميع بالجميع، والبقاء فوق الجميع بصفته الحلقة الضامنة بين المتصارعين والفرقاء التي يتمحور حولها بقاء الدولة والمجتمع، فلجأ إلى التحالف، مع حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يضم التيار الديني وقوى الإسلام السياسي عقب الوحدة مباشرة بهدف إقصاء الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة الذي قاد الجنوب إلى الوحدة، وعندما وقع هذا الحزب في الشرك، ومكّن النظام من التخلص من شريك الوحدة، خشي النظام من أن ينفرد الشريك الجديد بالهيمنة على الشارع، خصوصاً وأن النظام يدرك أن حزب المؤتمر الحاكم هو حزب واجهة يقوم على قوة ونفوذ وأموال الدولة، وليس حزباً جماهيرياً، فلجأ إلى تحريك المكون الزيدي الخامل في المجتمع اليمني، بهدف إيجاد موازن مذهبي لحزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يتضمن المكون السلفي، العدو التقليدي للزيدية، وبهدف إيجاد رديف للجيش، في حالة تطور الخلاف مع السعودية إلى حالة حرب على خلفية ملف المشكل الحدودي، الذي تفاقم بعد حرب الانفصال عام 1994م، وبدأ الدعم الرسمي يتدفق على حسين بدر الدين الحوثي الذي أسس ما سمي وقتها بالشباب المؤمن، والذي أصبح فيما بعد ركيزة جيش الحوثي، فكان نحو 80% من هؤلاء الشباب يحملون عضوية الحزب الحاكم. وعلى خلفية مشروع التوريث الذي يديره رأس الدولة من قصر الرئاسة، بدأ الناقمون على النظام والمتضررون من مشروع التوريث، يدفعون بالحوثي إلى تبني مشروع مماثل، باعتبار أن الحوثي ينحدر من البيت الهاشمي، ويحظى بمشروعية دينية وتاريخية، لا تقارن بتلك التي يحظى بها رأس النظام، ولا أستطيع الجزم بعلاقة مقتل كل من يحي المتوكل وزير الداخلية الأسبق، والشيخ مجاهد أبو شوارب بهذه التطورات، فالأمر يحتج إلى مزيد من البحث والتقصي، لإثبات أو نفي الشكوك القائمة في هذا الجانب، والمحصلة أن الحوثي بدأ يطرح علناً شرط الانتماء إلى البطنين، وهما الحسن والحسين ابنا علي ابن أبي طالب، فيمن يتولى سدة الحكم، ثم بدأ في طرح شعارات تعبوية، مثل الموت لأمريكا والموت لإسرائيل، تساعده على ترويج أفكاره وجلب الأنصار، مما أثار حفيظة النظام المتحالف مع الولاياتالمتحدة في حربها ضد ما يسمى بالإرهاب، عندها طلب رأس النظام من حسين الحوثي القدوم إلى صنعاء، لمعالجة الموقف، لكن الرجل رفض، مما دفع رأس النظام إلى تجريد حملة عسكرية صغيرة، كان الهدف منها إحضار الحوثي، إلى قصر الرئاسة مكبلاً، إلا أن هذه الحملة لقيت هزيمة ساحقة على يد أتباع الحوثي، وهنا قرر النظام أن يستفيد من الحوثي الخارج عن نطاق السيطرة بطريقة أخرى، بالدفع بقوات الفرقة التي يديرها على محسن الأحمر في مواجهة مع الحوثي بهدف إضعاف الطرفين معاً ومن هنا بدأ مسلسل الحروب السته، التي استهلكت قوات الفرقة بالكامل تقريباً، وبعض وحدات الجيش النظامي، والتي لم يشترك فيها الحرس الجمهوري، إلا مرة واحدة وبفرق متخصصة ومحدودة عندما وصلت قوات الحوثي إلى منطقة بني حشيش قرب مطار صنعاء الدولي، والتي تمكنت من إجلائها عن المنطقة. واليوم أصبح الحوثي بالنسبة للنظام خطراً وضرورة في نفس الوقت، فقوته المتزايدة باتت تشكل خطراً ماحقاً على النظام سيما بعد الحرب السادسة التي اشتركت فيها ضده كل من السعودية واليمن، وخرج منها أكثر قوة ولكن وجوده يعد ضرورة للنظام، فيما يمنع السعودية من الدفع بالجنوب نحو الانفصال هو خشيتها من أن يعقب سقوط النظام الذي يستمد شرعيته من الوحدة قيام دويلة شيعية على حدودها الجنوبية، تشكل رأس جسر للنفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، ومن ثم فإن سياسة النظام هنا تقوم على ضرورة إقفال ملف الانفصال قبل إقفال ملف الحوثية، ولا يبدو أن ذلك أمر قابل للتحقق في الأمد المنظور على الأقل. Dr.Naserf @Yahoo.com