نفت إسرائيل بشكل قاطع على لسان أحد المتحدثين الرسميين باسمها بأن لاعلاقة لها بوفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي مات مسموما بمادة شديدة الإشعاع هي البولونيوم يؤكد الكل أنها مصدره الوحيد. في الجرائم السياسية والجنائية توجه أصابع الاتهام إلى المستفيد من ارتكاب الجريمة. والمستفيد الأكبر من التخلص من عرفات هي إسرائيل.إن تاريخ إسرائيل في التخلص من قيادات المقاومة التاريخية غني عن الحديث عنه فهي التي اغتالت عددا من المناضلين البارزين من شتى الأطياف السياسية. قبل تسميم عرفات كان الصمت المريب هو السياسة الإسرائيلية التقليدية و بعد سنوات طويلة لا تجد إسرائيل مانعا من الاعتراف بأنها هي التي قامت بتنفيذ أكثر من عملية اغتيال في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة وبيروت وتونس وباريس وغيرها. إسرائيل منّت نفسها قبل اتفاق اوسلو 1993 بتطويع عرفات التدريجي عبر تلاعبها بعملية السلام ومماطلتها لاستحقاقاته حتى ييأس ويستسلم. هذا الاتفاق رغم عيوبه الكبيرة الذي لو احترمته إسرائيل نصا وروحا لأنشئت الدولة الفلسطينية في مايو 1998. باسم عملية السلام وتحت رعاية أمريكية في عهد الرئيس الأسبق بل كلينتون سعت إسرائيل لدفع عرفات للتنازل عن بعض ماتبقى للشعب الفلسطيني من أراض وعن الحق الفلسطيني والعربي والإسلامي في القدس الشرقية ومسجدها الشريف. وبعد فشل الاجتماع الثلاثي لعرفات وكلينتون وإيهود بارك عام 2002 في كامب ديفيد الذي أدى، أي الفشل، إلى نشوب الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد زيارة مجرم الحرب إريل شارون للمسجد الأقصى بتواطؤ من حكومة العمال بقيادة باراك. تلك الانتفاضة حرفتها حركة حماس المناوئة لفتح عن سلميتها بتبنيها سياسة الهجمات الانتحارية التي جارتها فيها حركة فتح لكي تفوت عليها كسب تأييد الشعب الفلسطيني والشعب العربي الذي لم يعترض عليها. كانت العمليات الانتحارية خسارة مطلقة من الناحية السياسية والأخلاقية للقضية الفلسطينية لأن إسرائيل تمكنت من استثمارها والاستفادة من خوف بعض الدول الغربية من انتقالها إلى شوارعها بعد اشتراك مواطنين غربيين من أصول غير اوروبية فيها لصالح سياستها القمعية التي بلغت وحشيتها ذروتها في جنين وبيت لحم. وكسفير للجامعة العربية في بريطانيا سمعت نصائح من دبلوماسيين بريطانيين مفادها بأن مصلحة القضية الفلسطينية الحقيقية هي في سلمية الانتفاضة، وأتذكر بأن المفوض العام الفلسطيني كان يؤيد، وإن على استحياء، سلمية الانتفاضة. تاريخيا معروف عن الدور الإسرائيلي في تسهيل إنشاء حماس وتقوية ساعدها لتصارع وتضعف فتح ومعروف أيضا اتباع هذه الحركة لسياسة المنافسة والمناكفة منذ نشأتها وحتى إلى ما قبل انقلابها في غزة على السلطة الشرعية. مثلا عندما كانت فتح تدعو لإضراب شامل تقوم هي بدعوة لإضراب قبل موعد الإضراب الذي دعت إليه فتح بيوم واحد وتجبر التجار على إغلاق دكاكينهم بالقوة وجمع الأموال منهم بالقوة أيضا. وإلى جانب ذلك كان توظيف الدين ركنا أساسيا في سياستها للإقصاء والاستقطاب والاستحواذ على تأييد الرأي العام الفلسطيني. كانت هذه الحركة تعتبر ضحايا القمع الإسرائيلي من عناصرها هم الشهداء وتجازيهم هي بالجنة أما غيرهم فليسوا بشهداء وحسابهم معلق عند الله وفي نفس الوقت سلبت من المسيحيين الفلسطينين انتماءهم الوطني بتديين الوطنية والانتماء الفلسطينيين بدعوى أن فلسطين وقفا إسلاميا وتعاملت مع شهدائهم كشهداء حركة فتح. التخلص من عرفات كان مصلحة تفاوتت درجاتها لأن التململ الغربي بدأ بعد احتلال العراق وبرز ت تعبيراته بالرغبة الغربية بتقوية مركز رئيس الوزراء آنذاك محمود عباس (أبو مازن) وإضعاف مركز الرئيس عرفات وسلطاته باعتباره "عقبة" لم تفصح عنها هذه الدول صراحة في طريق " السلام". ولكي لايكون عرفات هو الهم الغربي الوحيد وموضوعا وحيدا في جدول أعمال مؤتمر عقد في لندن لدعم الاقتصاد الفلسطيني هرولت له الجامعة العربية و"دولة فلسطين " نفسها وبعض الدول العربية وحضرته كونوليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا السابقة وروسيا والاتحاد الأوربي وخلاله تحولت قضية فلسطين على لسان السيد توني بلير رئيس وزراء بريطانيا العمالي آنذاك من قضية سياسية- نضالية للتخلص من الاحتلال إلى قضية بناء دولة بأولوية اقتصاديه ومحاربة الفساد في أجهزة السلطة الوطنية الفلسطينية كانت شهادات البنك الدولي تقول العكس وبخارطة طريق تقودها الرباعية. ورقصت إسرائيل على هذه النغمات البليرية ونسي بلير بعدها أحاديثه العديدة عن ربط الاستقرار في المنطقة بحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي (ليس العربي - الإسرائيلي). وبعد تحقيق هدفه وهدف إسرائيل معا في تدمير العراق وضع بلير العربة قبل الحصان وحول المطلب النضالي الفلسطيني في التحرير والاستقلال إلى فرعيات تتصل بالاقتصاد والديمقراطية وليس إيجاد حل تاريخي للصراع العربي- الإسرائيلي. قال بلير وقتها إن الديمقراطية قبل التحرير وإن الديمقراطية أهم من الأرض. بلير النصير الكبير لإسرائيل في بريطانيا، الذي اختاره الرئيس السابق جورج بوش وإسرائيل لرئاسة الرباعية، تناغم مع الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي بتجميد فعالية أي جهد دولي باتجاه التحقيق الفعلي للدولة الفلسطينية التي أعلن بوش في الأممالمتحدة أن شهر سبتمبر عام 2005 سيكون شهر ميلادها. ولخدمة هذا المشروع تعامل بلير مع عرفات بانتهازية واضحة فعندما نوى بالاشتراك مع واشنطن شن حربا على العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل استقبل عرفات في 10 داوننج ستريت ووقتها اعتبر هذا الاستقبال لدى الفلسطينيين خطوة متقدمة بالنظر إلى رفض الرئيس بوش الابن التعامل مع عرفات ورفض استقباله في البيت الأبيض. وكانت سياسة بوش الابن أول تطبيق لسياسة عزلة عرفات قبل فرضها إسرائيليا في المقاطعة" برام الله وتسميمه فيها. أصبح عرفات ابتداء من عام 2004 هو العقبة في طريق السلام وليس سياسات إسرائيل التوسعية ورفضها الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة. بلير في رئاسته للرباعية أكد التزامه بمصالح إسرائيل المحتلة وعدائه للقضية الفلسطسنية ولم يستنكر الاستيطان والقمع الإسرائيليين وترجم انحيازه الذي أعلن عنه قبل نجاحه الانتخابي عام 1997 في مقال كتبه في صحيفة الجويش كرونيكل الأسبوعية الناطقة باسم الجالية اليهودية في بريطانيا عبر فيه عن انبهاره بتحويل إسرائيل ما أسماه بالصحراء إلى جنة وارفة وأيد المشروع الصهيوني في فلسطين وكان ذلك إيذانا بإعلان ما عرف في عهد بلير بحزب العمال الجديد New Labour.الذي مثل قطيعة مع سياسات الاتحادات العمالية التقليدية المناصرة لفلسطين التي تعد عموده الفقري ودائرته الانتخابية الواسعة وتحول حزب العمال وقتها إلى حزب محافظين بدون مارجريت ثاتشر. بعد وفاة عرفات قام بلير بزيارة للضفة الغربية وعندما زار ضريح الرئيس عرفات الذي استقبله في 10 داوننج ستريت مبتسما مر من أمامه بملامح لا تخطئها العين تنبئ عن نفوره من قيامه بهذه المجاملة الواجبة التي تعتبر جزء من برنامج الزيارات الرسمية لرام الله وكأنه كان مجبرا على القيام بها. نخلص مما سبق إلى أن مصالح أخرى كانت ترغب في غياب عرفات وإن كانت مصلحة إسرائيل هي الأقوى.