القائم بأعمال رئيس الوزراء يزور وزارة الكهرباء والمياه    إتلاف 5.5 طن من المواد الغذائية منتهية الصلاحية في البيضاء    مسيرة ووقفة طلابية في الدريهمي تضامناً مع فلسطين واحتفاءً بثورة 21 سبتمبر    هكذا يتغير الشرق الأوسط.. الصراع السعودي الإسرائيلي    مركز الملك سلمان يوزّع خيام وحقائب إيواء للمتضررين من السيول بمحافظة حجة    صنعاء: مناقشة دور وزارة الداخلية في جذب الاستثمارات    البقوليات وسيلة فعّالة لتحسين صحة الرجال والتحكم في أوزانهم    الديوان الملكي السعودي : وفاة المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ    الرئيس الزُبيدي في الأمم المتحدة.. الجنوب حاضر بصوته وقضية شعبه    أمن العاصمة عدن يضبط متهمًا بسرقة 100 جرام ذهب بالمنصورة    نائب وزير المياه يبحث ترتيبات إحياء يوم اللغة المهرية    أمانة الانتقالي ثمن دور الحزام الأمني في حفظ الاستقرار    في مهرجان خطابي وفني.. إصلاح الحديدة يؤكد أن تحرير المحافظة مفتاح لانتصار الجمهورية    ديمبيلي ثالث مسلم يتوج بالكرة الذهبية وحضور لافت للاعبين مسلمين بالقائمة    نصائح من كاتب محب لوطنه    الذهب عند ذروته: ارتفاع قياسي في الأسعار    بعد 14 عاما.. مارسيليا يُسقِط باريس في ال«فيلودروم»    الإمارات تدعو مجددًا مجلس الأمن لتحمل مسؤولياته لردع إسرائيل    قوات الإصلاح في تعز تحمي قتلة "افتهان المشهري"    تعرف على هوية الفائز بجائزة الكرة الذهبية 2025    احترام القانون اساس الأمن والاستقرار ..الاجراءات تجاه ماموري الضبط القضائي انموذجا    الرئيس الزُبيدي يلتقي رئيس اللجنة الدولية للإنقاذ ويشيد بجهودها الإغاثية والتنموية في بلادنا    يامال وفيكي يتوجان بجائزة «كوبا».. ودوناروما الحارس الأفضل    ديمبيلي.. المهرج الأنيق يتوج بالكرة الذهبية    المقالح: الولاية هلاك متعمد لسلطتكم    تجارب سيادية لا تُنسى: ثروة الجنوب السمكية    في تقرير لها حول استهداف مقر صحيفتي " 26 سبتمبر " و" اليمن ".. لجنة حماية الصحفيين الدولية: "إسرائيل" تحولت إلى قاتل إقليمي للصحفيين    حين تُغتال الكلمة.. وداعاً عبدالعزيز الشيخ    جدد موقف اليمن الثابت لنصرة فلسطين .. قائد الثورة: مسارنا الثوري مستمر في مواجهة الأعداء    في مهرجان شبابي كشفي شهدته العاصمة صنعاء احتفاءٍ بالعيد ال 11 لثورة 21 سبتمبر..    غموض يكتنف اختفاء شاعر في صنعاء    عبقرية "سورج" مع برشلونة جعلته اقوي جهاز فني في أوروبا..!    إلى أرواح أبنائي الشهيدين    الدوري الايطالي: نابولي يواصل انطلاقته المثالية بانتصار مثير على بيزا    حين يُتّهم الجائع بأنه عميل: خبز حافي وتهم بالعمالة..!    رئيس مجلس القيادة يصل نيويورك للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة    منارة عدن المنسية.. إعادة ترميم الفندق واجب وطني    صحة بنجلادش : وفاة 12 شخصًا وإصابة 740 آخرين بحمى الضنك    التحويلات المالية للمغتربين ودورها في الاقتصاد    11 عاما على «نكبة» اليمن.. هل بدأت رحلة انهيار الحوثيين؟    القاتل الصامت يودي بحياة خمسة أطفال من أسرة واحدة في محافظة إب    نائب وزير الإعلام والثقافة والسياحة ومدير صيرة يتفقدان أعمال تأهيل سينما أروى بصيرة    صحة البيئة بالمنصورة تشن حملة واسعة لسحب وإتلاف "شمة الحوت" من الأسواق    لقاء تشاوري بين النيابة العامة وهيئة الأراضي لمناقشة قضايا أملاك الدولة بالوادي والصحراء    عدن.. البنك المركزي يكشف عن استخدامات المنحة السعودية ومستقبل أسعار الصرف خلال الفترة القادمة    خبير طقس: اضطراب مداري يتجه تاثيره خلال الساعات القادمة نحو خليج عدن    هبوط جماعي للأسهم الأوروبية!    الراحلون دون وداع۔۔۔    السعودية تسرق لحن زامل يمني شهير "ما نبالي" في عيدها الوطني    التعايش الإنساني.. خيار البقاء    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    على خلفية إضراب عمّال النظافة وهطول الأمطار.. شوارع تعز تتحول إلى مستنقعات ومخاوف من تفشّي الأوبئة    الكوليرا تفتك ب2500 شخصًا في السودان    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    خواطر سرية..( الحبر الأحمر )    في محراب النفس المترعة..    بدء أعمال المؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم في صنعاء    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة في عقل قاص وروائي حضرمي (أ‌.صالح سعيد باعامر ) "الحلقة الرابعة "

الروائي والقاص صالح باعامر في تطواف مستمر في رحلته التي نرافقه فيها ونستمتع بشخوص رواياته وقصصه التي جاءت لتدعم أدواته الفنية بما يحقق أكبر قدر من المتعة والتشويق ، … ونبدأ بالسؤال التالي :
*لك إسهامات جميلة في الكتابة باللهجة العامية الحضرمية مترافقة مع كتاباتك باللغة العربية الفصحى .. وكنت تنشر في الصفحة الأخيرة من صحيفة الشرارة موضوعاً شعبياً في السبعينيات من القرن العشرين تحت اسم " بسابيس " وهو عمود ساخر يلتفت إلى الظواهر الاجتماعية وفي الثمانينيات كنت تعد برنامجاً إذاعياً شعبياً في إذاعة المكلا موسوم ب " نقطة ضوء " .. ترى هل تفكر في إحياء مثل هذه الموضوعات والحلقات ؟
( ج ) مثل هذه الموضوعات أكانت صحفية أو إذاعية لست أنا أول من ابتدعها في الصحافة الحضرمية وليست صحيفة الشرارة . الصحيفة الأولى التي بادرت بنشر مثل ذلك ، ففي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات عالجت صحيفة الطليعة الحضرمية التي يرأسها الأستاذ المرحوم أحمد عوض باوزير قدمت موضوعاً مشابهاً من خلال عمود أسبوعي الذي كانت تنشره تحت اسم " كلام عاقل " يعالج العديد من القضايا الاجتماعية بلهجة عامية منها نقد التخلف والحث على وحدة الصف الحضرمي من أجل التطور واللحاق بالركب الحضاري الذي تشهده كل بلدان العالم لاسيما مصر بعد ثورة 23 يوليو الناصرية التي كانت الدافع والمثال والنموذج الذي تطالب به مثل هذه الكتابات أكانت شعبية أو فصيحة ، وكان ثمة ما ينشر في صحيفة الرائد الحضرمية أيضاً باسم " يقول بو عامر " التي يرأسها الشاعر والمحامي والصحفي المرحوم حسين محمد البار وكان يكتبه شعراً شعبياً فيه العظة والنصيحة وأيضاً يحث الجماهير على التخلص من الاتكالية والسلبية والسعي الجاد من أجل الاستقلال لكي تتمكن حضرموت من أداء دورها الوطني والإداري وتعيين مسئولين حضارم . وكان هذا العمود ينتقد الفساد والرشوة وكان له تأثير كبير في حياة الناس .
أما بالنسبة للشرارة لسان حال الجبهة القومية بحضرموت التي صدرت في يناير 1968م أي بعد الاستقلال مستفيدين من إعلان الجنوب دولة مستقلة في الثلاثين من نوفمبر 1967م وتم نشر باب تحت عنوان " بسابيس " الذي تناول موضوعات اجتماعية وسياسية وعكس الحياة السياسية في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية والصراع الذي ساد بين الفرقاء في الجبهة القومية التي كانت تحكم البلاد ، إذ إن الشرارة كانت تنحاز آنئذٍ إلى اليسار ثم إلى اليمين ثم إلى اليسار وهكذا .
أول من كتب " بسابيس " الأستاذ يحي السقاف .. وقد سخره للجانب السياسي والصراع السائد ثم كتبه الأستاذ صالح منصر السييلي وعند انشغالهما بقضايا أخرى جلها سياسية تركا الصحافة . كما تركها المرحوم عبدالله الأشطل الذي كان ضمن القيادة المحلية للجبهة القومية وأيضاً خالد عبد العزيز وعبدالله صالح البار وظللت أنا الوحيد المتفرغ ولكن دون أن أكون رئيساً للتحرير إلا فيما بعد لأن كل من كان يكتب وينشر لا يضع اسمه تحت ما نشر . وهذا التقليد جاء بتأثير العمل السياسي السري الذي انتهجته الجبهة القومية في حضرموت منذ أوائل الستينيات من القرن العشرين إبان النضال المسلح ضد الاستعمار البريطاني .
عندئذٍ كنت أنشر موضوعات مختلفة في الشرارة ومن ضمن ما كنت أكتبه وأنشره موضوع "بسابيس " الذي انصرف أكثر وأكثر إلى الجوانب الاجتماعية وخصوصيات حضرموت . وفي الثمانينيات من القرن نفسه وبعد أن تم تحويلي إلى إدارة وزارة الثقافة 1978م اهتممت بالكتابة الأدبية التي هجرتها إلى حين مستعيداً هوايتي في كتابة القصة منذ سبعينيات القرن نفسه وجاءت فكرة برنامج " نقطة ضوء " وإذاعته من إذاعة المكلا المحلية وقدمت خلال ثلاثة فصول كاملة حوالي عشر حلقات إذاعية .
وقد اعتنى هذا البرنامج بالقضايا الاجتماعية البحتة مثل : الزواج المبكر وزواج المسنين من الصغيرات وغيرها من القضايا التي كانت سائدة آنذاك مثل علاقة المغترب بالوطن والبون الشاسع بين حياة عوائل المغتربين وأبنائهم بسبب الاغتراب وحياة الآخر وتبيان الفارق الاقتصادي والمعيشي تحديداً الذي أنتج وضعاً اجتماعياً استحق المعالجة الإعلامية واتجاه الفتيات إلى الزواج من أصحاب "العودة " أي العامين ف السعودية أو الخليج لوفرة المال لديهم والمتطلبات الاستهلاكية
كما نشرت موضوعات مشابهة أي باللهجة الشعبية _ في صحيفة الأحقاف التي يرأسها الأستاذ المرحوم عمر السقاف تحت اسم " أبو عامر الشحاري " أيضاً ، وأخرى مثلها في صحيفة المسيلة ، ولا أعتقد أنني سأعود لهذا النوع من الكتابات لأنني توجهت توجهاً كاملاً إلى كتابة الرواية ، هذا العالم الممتع والساحر الذي عوضني عن كل الكتابات ، لكن إذا واتتني الفرصة يمكن أن أجمع ما كتبت في هذا الجانب في كتاب . إلى جانب جمع ما كتبت من قصص في الفترة الأخيرة وإصدارها في كتاب وأيضاً مقالاتي الأدبية والخواطر الأدبية وكذلك المسرحيات التي كتبتها .
*لماذا لم تبقَ في الكويت طالما فتحت لك الأبواب الواسعة ؟
( ج ) في أواخر عام ألف وتسعمائة وستة وستين عدت إلى حضرموت وما كنت راغباً في العودة لولا تشجيع الصديق ( سعيد ) فلولاه لظللت منغمساً في البلد كان لي بمثابة المأوى لما اتسم به من مزايا حضارية ومناشط ثقافية لن أجدها في موطني بسلطنتيه القعيطية والكثيرية اللتين تأخرتا عن الركب وإن كانت حضرموت آنذاك تتقدم على بعض مناطق الخليج العربي الأخرى .
في الكويت اندمجت مع الحياة المتقدمة وغصت في مناطقه وأحياءه : كويت العاصمة ، حولي ، السالمية ، المرقاب ، الشويخ ، القبلة ، الشرق ، الفحاحيل الدوغه ، الرميثية .. الخ . تعاطيت مكتباته التي اقتنيت منها روايات نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس و"جوركي" و "جاك لندن" وقصص يوسف إدريس وغادة السمان وأشعار نزار والسياب والبياتي وحجازي وصلاح عبد الصبور وشاهدت أفلاماً لا زالت بعضها عالقة في الذاكرة : " إشاعة حب "، "سيدتي الجميلة " ، "الخطايا" ، "بين القصرين" ، "قصر الشوق" ، " يوم بلا غد" ، " ذهب مع الريح " ، "يوم من عمري " ، "سفينة بونتي " ..
لم أدرِ كيف وجدتني أغادر ميناء الكويت البحري عائداً إلى حضرموت على ظهر الباخرة " فان رابك " خالي الوفاض . لم أعد بدنانير كثيرة كما هو حال معظم المغتربين فالذي حملته بضع كراتين ضجت بكتب ومجلات وقليلاً من الثقافة من خلال ما قرأته وشاهدته واستمعت إليه وتلقيته واختزنته بداخلي.
وفي ليلة كان اللون الفضي مفترشاً على صفحة بحر العرب والباخرة تقترب من المكلا تنفست أريجاً أعادني إلى اليوم الذي غادرت فيه إلى حلمي ذلك التوق الذي هجست به طويلاً :
لما تميل الشمس نحو الغروب حين خطوت نحو ( ريدة عبد الودود ) راجلاً برفقة عدد من أبناء قصيعر لكي استقل سفينة ( بن سلطان ) المتجهة إلى الكويت في رحلة من رحلاتها المعتادة ،لا أملك سوى مائة وخمسين شلن وورقة مرور "إلى الكويت" هي بمثابة جواز باسم السلطنة المهرية ، وفي مقدمة من رافقتهم أستاذي ( أحمد ) الذي عبر عن مشعل التنوير في قصيعر والتف حوله عدد من الشباب في بداية ستينيات القرن العشرين والذي حمل نواة مشروع ثقافي وحضاري إذ أن له الفضل في تأسيس نادي الوحدة الرياضي الاجتماعي الثقافي ببلدتي قصيعر ( 1959م ) الذي احتضن المواهب والمناشط الثقافية والرياضية بإصداره مجلة حائطية تحت اسم ( الفكر ) وفتح مكتبة للقراءة وتنظيم الندوات والمحاضرات وعرض المسرحيات والقيام بالرحلات وخوض حوار داخل قصيعر لحل المشاكل الاجتماعية والتوفيق بين الفئات المتصارعة على " الحويف " .
في صبيحة ذات يوم من عام ألف وتسعمائة وواحد وستين غادرت السفينة مرسى الريدة متوجهة إلى " ماخر " مروراً بالمناطق الساحلية ابتداءً بسيحوت وقشن ورأس فرتك . وفي ظهيرة اليوم التالي وما إن بدأت السفينة في الإمخار فوق المياه الإقليمية العمانية اعترضتنا أمواجاً كالجبال قابلت اندفاعاتها بخوف وهلع .
انكمش الركاب كل في مكانه ولذت أنا لذاتي نادماً على اتخاذ قرار السفر : لماذا الاغتراب ؟ أهو طلباً للمال ؟ إن أبي يملك دكاناً وإن كان رأسماله لا يزيد عن المائة دينار إلا أن هذه المائة دينار كانت تعادل الشيء الكثير من المال . لماذا اخترت السفر ؟ لماذا تركت بلدك وأمك وأبيك وأنت وحيدهما ؟؟؟ حارت الأسئلة بداخلي وانتصر الصمت .
في تلك اللحظة لا تفكير إلا في ما أواجهه وصحبي . ولا سؤال إلا لمن له علاقة بإدارة دفة السفينة ، ما الذي حدث ؟ كيف سننجو ؟ هل يمكن أن أعود إلى بلدتي :
في الجلسات التي تحتوينا أنا وبعض من أقراني التي يتصدرها أستاذي ( أحمد ) . تدور أحاديث جمّة جلها ثقافية أدبية وسياسية . كنت منبهراً ب ( أستاذي ) وبالزاد الثقافي الذي يزخر به فهو الذي احتذيت به . فإذا كنت قد أخذت من أبي شيئاً من الفن الغنائي الشعبي والحكائي . وإذا كان امتطاء البحر كان حلماً لم يتحقق فإن ( أستاذي ) كان رافداً آخراً ساعدني على أن أخطوَ نحو المعرفة فهو إضافة إلى أنه غرس فيّ الكثير من الأفكار والمعارف ، فهو أيضاً الذي شجعني على الغربة التي توقعت أن أجد فيها ضالتي لكي أتحرر من ربقة ما أعانيه من أسر وتقييد في مجتمعي الضيق والصغير "قصيعر" . تيمنّا بفوائد السفر والتي فعلاً وجدتها . في غربتي : الحرية والاعتماد على الذات، اختيار ما أريد ،كسب الأصدقاء وتفريج الهم والذي تعلمت منه الكثير .
اقتربت الباخرة " فان رابك " من ميناء المكلا ذات مساء فتغيرت أمامي الصور والأشكال والألوان والروائح وتكثفت بداخلي المشاعر والأحاسيس المفعمة بالحب وأيقنت بأن ما سيأتي هو الذي سيحدد معنى وجودي فالتغير الذي شممته وارتسم أمامي أخذ يتغلغل في جوارحي شيئاً فشيئاً وحصاد ما اكتسبته من قراءة ومشاهدة واستماع تلقي وتعاطي .. سيفعل فعله في الأيام القادمات.
رست " فان رابك " فوق ميناء المكلا فاختطفت بصري أضواء انهمرت كشلالات من المنازل المعلقة فوق الجبل ومن المنازل المنغمسة في أطراف الشاطئ المتمدد من البلاد وحتى أقصى برع السدة فإذا بي أودع حسرة بداخلي .
تنفست طيباً موغلاً وإن زاحمته رائحة أيقظت عاطفة ، نامت " فان رابك " ولم أنم وإن حاولت التناوم فكل شيء في اللاوعي لم يقر على حال ، الجبل الشاهق ، البحر المترامي ، الأزقة ، الأحياء ، الأسواق، المنازل ، أخال كل شيء يضاحكني ويغمز لي ويراقصني ، ينشد ، يغني، يوعدني بحب مغاير .
شعشعت الأضواء من الجبل معلنة صعود الشمس .. نظرت إلى يميني فرأيت مبنى ( النوبة ) يناديني وأمامي بزغ ضريح الشيخ يعقوب ، ملت يساراً فلوحت لي الولية ( علوية ) أرهفت السمع لتبتلاتها وانتصبت منارة مسجد الروضة بألوانها الأخاذة ، ونفح سوق النساء برائحة الخصوبة والتجدد والتوق وفتح مسجد عمر ومسجد الروضة منافذهما المؤدية إلى أجواء روحانية خففت من أدران وأثقال الرحلة التي قطعتها من الكويت إلى المكلا .
أنشددت إلى اليسار فإذا بقصر المعين محتمياً ببوابة المكلا العتيدة وبالسور وبوابتيه الخارجيتين.
أطلت الشمس مبتسمة تتقدمها خيوطها الذهبية لتغسل مكنونات ما تراكم فوق البسيطة وتسللت نسمة نقلت إليّ عبق امرأة كنت على موعد معها قبل أن أنبت .
" فان رابك " توقظ كل من بداخلها عندما تلثم أول موجة ارتدت من تحت منزل أبيض أطل من إحدى نوافذه وجه صبيح تعفر بالطرطشات وبالزبد المتطاير .
مر الزمن بطيئاً وأنا أتأمل كل شيء أمامي وخلفي وحواليّ . أنظر إلى العمق المائي وإلى الذرى و الامتدادات والسفوح والشواطئ والوديان أو عندما تلثم روحي الجزيئات المكونة لعالمي الجديد . يلامس ناظري طرف الرصيف من داخل القوارب المتراقصة فوق الماء .
نظرت خلفي مودعاً ( فان رابك ) التي أخذت تطلق صيحات المغادرة . أول بقعة تطأها قدماي حي البلاد والواسط . توغلت ( حافة العبيد ) إلى أن ضمني منزل ( آل باعامر ) وغدت الرؤية تتسع نحو أفق تمدد إلى ما لا نهاية .
*في المكلا لذتَ إلى كتابة القصة والرواية .. كيف ؟
( ج ) قراءاتي للقصة القصيرة والرواية منذ البدء كانت حجر الأساس الذي ابتنيت فوقه ثقافتي الأدبية عموماً والسردية خصوصاً . فلقد شغفت حباً بهما . منذ أن وقعت يدي على رواية الحرب والسلام للكاتب الروسي تولستوى عن دار الهلال في أواخر الخمسينات من القرن العشرين جلبها لي والدي من المكتبة الوطنية لصاحبها أحمد سعيد حداد بالمكلا لكن علاقتي بالرواية لم تتوطد وتتطور إلا في الكويت عندما كنت أعمل فيها متنقلاً بين أعمالاً مختلفة وفي الوقت نفسه أدرس الصحافة بالمراسلة في معهد الصحافة بالقاهرة والتي توجت بالعمل في مجلة الطليعة الكويتية بعد نيلي دبلوماً في الصحافة .
الكويت أنذاك كانت بمثابة العاصمة الثقافية العربية إذ أنها كانت منفتحة على كل الأفكار والثقافات والأطياف .. وقد أستفدت أنا وبعض الزملاء من أبناء وطني من الأجواء القومية والليبرالية إذ أني انكببت على كل ما ينشر في الصحف والمجلات وعلى كل الأجناس الأدبية لاسيما السرديات باللغة العربية كانت أو مترجمة . ومن الدوريات التي اهتممت بها هي مجلة القصة التي كان يرأس تحريرها نادي القصة في القاهرة ويتولى مسئوليتها الكاتب الكبير يحيى حقى .
من أولى الروايات التي اطلعت عليها في الكويت هي رواية ( الأم ) لمكسيم حوركي وبداية ونهاية لنجيب محفوظ ولا أنام لإحسان عبد القدوس . تم تعرفت على الكاتب اليوناني كز نتزاكي من خلال روايته الشهيرة الأخوة الأعداء والشيخ والبحر لآرنست همنجواي ومع مرور الوقت قرأت لغير هؤلاء الكثير ثم تنقلت بين يوسف أدريس وفتحي غانم . وعند عودتي إلى الوطن تعرفت على محمد عبد الولي وعبدالله سالم باوزير وحنا مينه والطيب صالح وجمال الغيطاني وحسين باصديق واطلعت على رواية زوربا لكنتزاكي . كل هذه القراءات نقلتني إلى طور آخر في نظري كان هو الأعلى وهو محاولة الكتابة بدءً بكتابة الحكاية والخاطرة . وأول محاولة قصصية تنشر لي هي أصدقاء البحر وقصة انتظار في صحيفة ( الشرارة ) الحضرمية تلتها عدة محاولات إلى أن تمكنت من إصدار أول مجموعة قصصية هي (حلم الأم يمني ) عن وزارة الثقافة بعدن 1983م ثم (دهوم المشقاصي) عام 1993م عن وزارة الثقافة بصنعاء ، دفعني ذلك إلى أن أهجس بكتابة الرواية وبعد محاولات شطب وتمزيق أصدرت رواية (الصمصام) 1993م عن دار الكوبرا بعمَّان .
صارت الرواية فيما بعد هي الأقرب إلى نفسي وإن لم أهجر القصة القصيرة التي أخذت تلاحقني . وفي الوقت الذي كنت فيه أكتب رواية جديدة كنت أعد مجموعة قصصية جديدة (احتمالات المغايرة) قصص عن نادي القصة (المقه) 2002 وفي 2004 إبان إعلان صنعاء عاصمة للثقافة العربية أصدرت رواية المكلا عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين . ثم مجموعتين قصصيتين هما ( حين نطق القصر ) و( بعيداً عن البروتوكول ) ضُمت ضمن أعمالي الكاملة 2005 آخر أعمالي هي رواية ( إنه البحر) الصادرة عن (طوى) للثقافة والنشر بلندن .
لم أدرِ كيف كتبت الرواية ، إذ أن حلمي كان لا يتعدى كتابه القصة القصيرة إلا أنني وجدت أن القصة القصيرة لم تعد تتسع لكل هواجسي ودون أن ادري وكيف حدث هذا حين وجدتني ألوذ إلى الإسهاب في الكتابة إلى أن تراصت أمامي العشرات من الصفحات وكانت الصمصام .
أعزائي القراء اللقاء بكم يتجدد بمشيئة الله تعالى في الاسبوع القادم وحتى ذلك الحين نتمنى لكم أسعد الأوقات وأطيبها ودمتم في حفظ الرحمن .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.