نائف حسان لا أستطيع أن أفهم حالة السلبية التي يُراوح فيها الرئيس هادي مكانه باعتبارها مجرد عجز لرئيس متقدم في السن، يفتقد للحيوية المطلوبة، وللمشروع الوطني، الذي يُفترض أن يدفعه نحو مواجهة مراكز القوى التقليدية، التي دمرت البلاد خلال العقود الخمسة الماضية. يفتقد الرجل للحيوية المطلوبة في الحركة، وليس لديه مشروع وطني حقيقي، لهذا لا يعكس، في توجهاته وقراراته، اليمن ومصالحها، بل مصالحه الخاصة، ومصالح مراكز القوى المتحالفة معه. لم تُحقق اليمن أي خطوة نحو التغيير والبناء، أو تحقيق الدولة الوطنية الحديثة، التي كانت المطلب الرئيسي لثورة الشباب في فبراير 2011. والمشكلة أن الرئيس هادي يبدو كما لو أنه غير معني بالاقتراب من هذه الآمال الوطنية العامة، أو دفع اليمن بعيداً عن زمن علي عبد الله صالح، ومراكز القوى التقليدية. لقد مضى أكثر من عامين على ثورة الشباب؛ إلا أن البلاد مازالت رهينة لزمن هيمنة القبيلة والعسكر. عوضاً عن المضي نحو الأمن والاستقرار؛ تتداعى مؤشرات الانهيار بشكل يُهدد الدولة الهشة التي كانت قائمة. يجري هذا فيما الرئيس هادي صامت في موقع من يؤدي دوراً في رواية مأساوية. هو يتعامل مع الرئاسة بعقلية موظف أثقلته بيروقراطية الدولة حتى طبعته بهويتها محولة إياه ترس في آلتها العامة. بدلاً من القيام بدوره الوطني المفترض؛ يُمارس الرجل مهامه بذهنية حذرة تُحاول التكيف مع المشاكل والأزمات، لا تجاوزها والتغلب عليها. لا يتقدم خطوة؛ لكنه لا يغضب، ولا يتحدث عن العقبات التي تحول دون حركته! لم نراه يواجه مراكز القوى بشكل جاد، ولم نسمعه يشكو إعاقة، أو عجزاُ عن مواجهتها. خلافاً لذلك؛ يظهر في حالة انسجام وتعايش تام مع مراكز القوى، التي منحها ما لم تكن تحلم به في زمن ما بعد ثورة الشباب، الذي تم سرقته من اليمنيين: شراكة غير معلنة في ممارسة الحكم، شراكة كاملة تُعبر عن نفسها في إدارة البلاد وفقاً لعملية تقاسم ممنهجة ومكشوفة للوظيفة العامة وأجهزة الدولة. كان وارداً ممانعة مراكز القوى التقليدية، العسكرية والقبلية، للتغيير، وإعاقتها لحدوث أي إصلاحات، أو المضي نحو بناء دولة وطنية حقيقية في البلاد. بيد أن مراكز القوى هذه كانت محظوظة بثورة شعبية سلمت موقع الرجل الأول في البلاد إلى شخص كعبد ربه منصور هادي، لم يجعل مراكز القوى تبذل أي جهد في الحفاظ على امتيازاتها، إذ تولى هو المهمة. لم يُظهر الرجل أي توجه نحو بناء الدولة، أو حتى الحفاظ على حالتها الهشة التي ورثها من سلفه. وبدلاً من إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية فعالة، كرس جهده لتقاسم الوظائف الرسمية مع مراكز القوى التقليدية، ممثلة بعلي محسن الأحمر ومن إليه. المسار الطبيعي لثورة الشباب كان يُفترض أن يفضي إلى تغيير حقيقي وجوهري يقود إلى بناء دولة وطنية حقيقية، ولا يُمكن أن يتم ذلك إلا على حساب مصالح وامتيازات مراكز القوى التقليدية. ما حدث كان العكس تماماً، وحالة التقاسم الحاصلة لجثة وإرث اليمن المريض لا تقول إلا أن ثورة التغيير انتهت إلى جيبَيْ الرئيس هادي وزمرته، وعلي محسن وطغمته. كنا ننتظر من الرئيس هادي القيام حتى بمجرد محاولة لتحقيق المطالب الوطنية، وطموحات الثورة الشبابية، التي أوصلته إلى كرسي الرئاسة؛ بيد أنه لم يقم بشيء يُذكر يُمكننا من القول بأنه فشل لكنه كسب شرف المحاولة. والشاهد أنه لم يقم بجهد ملحوظ للاقتراب، مجرد اقتراب، من أبسط المطالب الوطنية: تحقيق الأمن. لم يُظهر أي توجه، أو رغبة، في تحقيق الحد الأدنى من المطالب الأساسية للناس. ولقد مضى عليه أكثر من عام ونصف في موقعه؛ دون أن يفعل ما يبعث على الأمل. والمقلق أن مراوحته هذه لا تتجلى كحالة سلبية وعجز، بل كعملية ممنهجة تجري ضمن وعي وخطة مدروسة. النتيجة ستكون كارثية؛ لأن هذا المزاج في إدارة الدولة لن يفضي إلا إلى دفع البلاد إلى ما هو أسوأ وأخطر من انفصال الجنوب: التشظي والتفكك. سيحدث ذلك كتداعيات لحالة انهيار كاملة ستفضي إلى ازدهار المليشيات، واحتكام الحياة العامة لمنطق القوة والغلبة. وعندما تنهار الدول تتحول مراكز القوى إلى عصابات، وأدوات مليشياوية، ويتحول القادة السياسيون والقبليون الفاعلون، إلى زعماء، أو محركين، لجماعات الصراع والقتل مدفوعة الأجر. عادة ما يكون الانهيار مدمرا؛ بيد أن التاريخ يقول إن الانهيارات كانت، رغم سلبيتها، تصنع خارطة طريق لأصحاب المشاريع الصغيرة. أحاول الآن مراجعة مسيرة الرئيس هادي في كرسي الحكم فلا أجده إلا في موقع سلبي لا يقود إلا إلى انهيار اليمن بشكل كامل. يتجلى الخطأ الأبرز في التدمير الممنهج الذي وجه لقوات الحرس الجمهوري المنحلة. حتى اليوم؛ قطعت عملية هيكلة الجيش شوطاً كبيراً؛ إلا أنها لم تؤدِّ إلى الهدف الرئيسي الذي انطلقت من أجله: توحيد الجيش، وبناءه على أسس وطنية حديثة. خلافاً لذلك؛ تبدو "الهيكلة" كما لو أنها وجهت نحو تدمير قوات الحرس الجمهوري، التي كانت تُمثل نواة جيدة لبناء جيش وطني حقيقي. لقد تم حل لواءين من قوات الحرس، وتشتيت عدد أكبر من ألويتها الأخرى على عدد من المناطق والتسميات العسكرية الجديدة. كان يُفترض بالرئيس هادي رفع جاهزية ومستوى الوحدات العسكرية الأخرى من حالة المليشيات الرسمية إلى مستوى وحدات الحرس الجمهوري؛ غير أنه عمل على دفع قوات الحرس إلى الوضع الكارثي لبقية وحدات الجيش! الهامش المعقول للهيكلة يفرض إقالة أحمد علي عبد الله صالح، وتعيين قيادة وطنية جديدة لقوات الحرس بما يضمن إعادة صياغة عقيدتها القتالية. لكنه تجاوز ذلك إلى محاولة تدمير هذه القوات يصبح أمراً غير مفهوم. الحفاظ على هذه القوات متماسكة، لكان سيمكن الرئيس هادي من استخدامها في مواجهة المخربين ومراكز القوى التي تعيق بناء الدولة؛ غير أنه اتجه نحو تدمير هذه القوات والعبث بها، عبر عمليات تشتيت ونقل ممنهجة! طوال الفترة الماضية؛ لم أجد أسباب ومبررات منطقية تمكنني من فهم واستيعاب هذا التوجه الذي تبناه الرئيس هادي. كنت أرجع الأمر إلى أحقاد شخصية لديه، ولدى وزير دفاعه، جراء ما يُمكن وصفه بتنمر نجل الرئيس السابق، وأولاد عمه، خلال الفترة السابقة. كذلك أرجعت الأمر إلى إصرار اللواء علي محسن على الانتقام من قوات الحرس، ومعاقبة منتسبيها وقادتها. لكن ما حصل ويحصل يتجاوز الضغائن الشخصية للانتقام. دون إغفال هذه الدوافع الشخصية؛ يُمكن الإشارة إلى دافع آخر. ما الذي يعنيه تدمير قوات الحرس الجمهوري، بعد إجبار "صالح" ونجله على تسليمها؟ لا يعني الأمر غير تقليم أظافر الدولة المركزية في صنعاء، وضرب قوتها العسكرية الرئيسية، وهذا أمر لا يُمكن أن يقدم عليه رئيس لديه مشروع وطني، ذلك أن هذه القوات كانت ستكون أداته الفاعلة في مواجهة مراكز النفوذ، وفرض الاستقرار والأمن. لا يُمكن لعملية التدمير الممنهجة، التي تتعرض لها قوات الحرس، إلا تجهيز الأرضية المناسبة للانهيار الكبير في اليمن. وسواء تم هذاالتدمير بوعي، أو بدون وعي، فهو لا يقود إلا إلى تفكيك الدولة الهشة بحيث تكون لقمة سائغة لعملية الانهيار لصالح المشاريع الصغيرة، وبما يُمكّن، ويضمن حدوث انفصال آمن. وضمن الحالة الراهنة؛ فالواقع يقول أن هناك عمل ممنهج يهيئة لحدوث انفصال آمن يجعل الجنوب تحت سيطرة الرئيس هادي وجماعته. أتوقع أن يقود الانهيار المرتقب القوى الرئيسية في الشمال إلى الدخول في حرب مذهبية طاحنة بين الحوثيين ومعادلهم المذهبي (الإصلاح والسلفيين)، فيما سيُسيطر تنظيم القاعدة على مأرب، ومناطق أخرى. أظن الحال سيكون مختلفاً في الجنوب. ستتصاعد مطالب الانفصال، وسيكون من السهل أمام الرئيس هادي توحيد المعسكرات المتمركزة في الجنوب تحت قيادة واحدة. ربما لن يتدخل الرئيس هادي بشكل مباشر؛ إذ سيكون بإمكان القيادات العسكرية الجنوبية إعلان قيادة جديدة موحدة لها، ستقرأ بيان الاستقلال، وستُعيد التمركز في الحدود الشطرية السابقة، بالتوازي مع مواجهة مقاتلي "القاعدة". عندها، سيكون الشمال بلا دولة، وبلا جيش، وغارقاً في صراعات وحروب مذهبية. عندما فكرتُ بهذا السيناريو فهمتُ ما أظنه مبرراً لعملية التدمير الحاصلة لقوات الحرس، ذلك أن عملية التدمير هذه تفقد صنعاء، باعتبارها مركز الدولة اليمنية الموحدة، ما تبقى من قوتها العسكرية المتماسكة. سيغرق الشمال في الفوضى؛ لأنه سيكون قد أذعن، بشكل كامل، لمنطق وصراخ المشاريع الدينية الصغيرة، التي ستُهيمن، بفكرها الانتهازي المتطرف، على الحياة العامة. في المقابل، ستتصاعد الهوية الوطنية في الجنوب، وستدفع الحياة العامة للمضي خلف القيادة الجديدة، باعتبارها تجسيدا للمشروع الوطني المنشود. مازال الناس هناك يحنون إلى زمن الدولة؛ لهذا سيدعمون السلطة الناشئة ضد الانفلات الأمني ومقاتلي "القاعدة". عندها، سيكون الشمال، أيضاً، بلا هوية وطنية، وبلا مشروع أو هدف وطني. - نُشر اليوم الأحد في صحيفة "الشارع" 6 أكتوبر 2013