موقفان حازمان أخرجا أو يكادان رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري من السباق إلى رئاسة ثالثة حكومات عهد الرئيس ميشال سليمان: أولهما، للرئيس السوري بشّار الأسد في القمّة الثلاثية التركية القطرية السورية في دمشق في 17 كانون الثاني، عندما أعلن لتركيا وقطر أنّ على الحريري أن يتنحّى في المرحلة السياسية الجديدة ويترك الحكم لسواه، وهو خيار ملائم له على أن يُنظر في التعاون معه مجدّداً في ما بعد. وعزا السبب إلى تعذّر تفاهمه مع المقاومة حسبما أوردت صحيفة "الأخبار" اللبنانية. ثانيهما، الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله، الذي أبلغ وزيري الخارجية التركي أحمد داود أوغلو والقطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني عندما استقبلهما ليل 18 كانون الثاني، أنه انتهى إلى خلاصة تجعله لا يستطيع مواصلة العلاقة مع الحريري بعد تجربة مخيّبة، أظهر فيها رئيس حكومة تصريف الأعمال عدم التزامه ما يتعهّد القيام به. وقدّم نصر الله شرحاً مستفيضاً إلى الوزيرين الزائرين عن مراحل علاقته بالحريري كي يستخلص أنه لا يؤيد العودة إلى التعاون معه، ولا وجوده على رأس الحكومة الجديدة. قدّم أوغلو وبن جاسم إلى نصر الله صيغة حلّ تستند إلى التسوية السعودية السورية، وسمّياها رؤيتهما للحلّ، ورغبا في معرفة موقفه منها. ردّ بأنه يودّ أولاً التشاور مع حلفائه في شأنها. طلب الوزيران التركي والقطري موعداً ثانياً للاجتماع به في الساعات التالية، فأجاب نصر الله بأن لا موجب لتكبّدهما مشقة الانتقال وإزعاجهما مجدّداً، وأنه سيوفد إليهما معاونه السياسي الحاج حسين الخليل، الذي كان يحضر الاجتماع، لإطلاعهما على موقف حزب الله وحلفائه من رؤية الوفد التركي القطري، لكنّ الخليل لم يقصد الوزيرين في مقرّ إقامتهما إلّا الساعة الثانية والنصف بعد منتصف ليل 19 كانون الثاني، حاملاً جواباً سلبياً، وهو عدم الموافقة على صيغة الحلّ التي أدرجت تسمية الحريري رئيساً للحكومة في عداد بنودها. فجر 20 كانون الثاني، غادر أوغلو وبن جاسم بيروت وقد خلّفا وراءهما بياناً أعلنا فيه تجميد مبادرتهما وعودتهما إلى بلديهما، بسبب تحفظات لم يفصحا عنها، ولا عن الجهة التي تسبّبت بها وأدّت إلى توقف الوساطة التركية القطرية. وبإعلانه أمس وقوفه إلى جانب سوريا والمقاومة في مواجهة المحكمة الدولية، حسم رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط المسار الذي ستسلكه الاستشارات النيابية الملزمة المرجّحة الاثنين المقبل، تبعاً لمعطيات منها حسب صحيفة "الأخبار": 1 أنها المرة الأولى التي تشهد فيها المادة 53 من الدستور منافسة قاسية على أصوات النواب في يومي الاستشارات تمهيداً للتكليف. في الغالب دار التنافس بين مرشحين محتملين لتأليف الحكومة في الأيام السابقة للاستشارات، حتى إذا أزف موعد هذه لم يبقَ أمام النواب إلا مرشح واحد جرى التوافق عليه لتسميته أو الامتناع عن تسميته. ومذ وُضعت موضع التنفيذ لأول مرة في أول استشارات نيابية ملزمة عام 1990، للمفارقة قبيل تأليف أولى حكومات الرئيس عمر كرامي، كان اسم الرئيس المكلف يُعرف قبل يوم على الأقل من بدء الاستشارات، وكان التكليف الخطوة الأسهل كي تكمن العقبات في التأليف. على مرّ 19 عاماً من اختبار المادة 53، لم ينشأ الخلاف على الرئيس المكلف إلا مرتين فقط كانتا مع الرئيس رفيق الحريري، حملتاه على الاعتذار عن عدم قبول التكليف رغم توافر غالبية نيابية مرجّحة لتسميته. الأولى عام 1998 فحلّ محله الرئيس سليم الحص، والثانية عام 2004 عندما حلّ محله كرامي. في كلتيهما كانت المشكلة مع الرئيس إميل لحود، وأتتا بعد استحقاقين متشابهين حملا الحريري الأب على القبول بتعديل الدستور لانتخاب لحود، ومن ثم تمديد ولايته، كان الرئيس الراحل جزءاً من إمرارهما بغية أن يكافَأ بالبقاء في رئاسة الحكومة. ولم تكن دمشق تمانع، في المرتين، في ترؤس الحريري الأب الحكومة. في استشارات الاثنين والثلثاء، يذهب كرامي والحريري الابن إلى تنافس حاد لن تُحسم نتيجته إلّا في اليوم الثاني، قبيل إعلان التكليف، نظراً إلى فارق ضئيل في الأصوات لن يتجاوز ثلاثة أصوات، يجعل كلاً من المرشحَين يغلب الآخر بأكثرية نسبية من النواب المستفتَين. 2 إلى اليوم لا يزال الموعد مبدئياً للاستشارات النيابية الملزمة التي أرجأها رئيس الجمهورية ميشال سليمان من الاثنين الماضي إلى بعد غد الاثنين. وبحسب معلومات لدى أوساط رسمية واسعة الاطلاع، فإن أكثر من محاولة ضغط يتعرّض لها الرئيس عبر سفراء دول كبرى ترمي إلى حمله على تأجيل ثان للاستشارات، تفادياً لترجيح كفّة قوى 8 آذار ومرشحها فيها على الحريري، إلّا أنه لا مؤشرات ملموسة بعد تُنبئ بتأجيل استشارات الاثنين، وخصوصاً أنّ التكليف لن يكون هذه المرة سبباً لأزمة طويلة تواكب التأليف، أو تؤدي إلى تعثّره على نحو ما كان متوقعاً الاثنين الفائت لو أتيحت إعادة تكليف الحريري تأليف الحكومة الجديدة. 3 بات ترشيح كرامي لترؤس الحكومة الجديدة شبه محسوم لدى المعارضة، وكان المؤشر الميداني البارز لذلك أمس، نشر قوة من الجيش في محيط منزله في طرابلس، بل تنطلق المعارضة في دعم ترشيح كرامي وقد أبدى استعداده لتحمّل المسؤولية من أكثر من مبرّر تتوخى من خلاله تخفيف وطأة الذريعة التي يتسلح بها تيّار المستقبل، وهي أن تكليف كرامي سيفتقر إلى تأييد 21 نائباً سنياً يمثّلون القوة التمثيلية الحقيقية في الطائفة لتسمية الحريري، فيما تضم المعارضة نائبين سنّيّين فقط، إلى نواب طرابلس الأربعة، الذين لا يزالون يحيّدون أنفسهم عن الانحياز إلى أحد طرفي المواجهة: أول تلك المبرّرات، أنّ كرامي شقيق رئيس حكومة شهيد كان لا يزال في الحكم عندما اغتيل، شأن الحريري ابن رئيس حكومة سابق شهيد عندما اغتيل. ثانيها، ردّ الاعتبار إلى كرامي بعدما أرغم في 28 شباط 2005 على الاستقالة في مجلس النواب، على أثر تحميل حكومته مسؤولية اغتيال الحريري الأب وتأليب الشارع السنّي عليه في انتخابات 2005 و2009. ولعلّ المفارقة التي يلتقي عليها المرشحان المتنافسان في استشارات الاثنين والثلثاء، أنّ شرط تولي كرامي رئاسة حكومة 1990 كان التسليم بالمصالحة الوطنية، عندما قبل بتوزير سمير جعجع في حكومته بعدما كان قد اتهمه باغتيال شقيقه الرئيس رشيد كرامي، وأن شرط تولي الحريري الابن رئاسة حكومة 2009 كان التسليم أيضاً بمصالحة النظام السوري، والاعتذار من الأسد عمّا قيل فيه بعدما كان قد اتهمه باغتيال والده. ثالثها، تخفيف وطأة التشنج السنّي في طرابلس بإعادة رئاسة الحكومة إليها، ومن ثمّ محاولة بناء توازن جديد في زعامة الطائفة، فلا توصد الأبواب تماماً دون آل الحريري. على نحو كهذا يعكس الاهتمام بأدوار لزعماء سنّة آخرين، سوى الحريري وكرامي، كالرئيس نجيب ميقاتي والوزيرين السابقين ليلى الصلح ومحمد الصفدي، مغزى ذا دلالة. 4 رغم الاضطراب والقلق اللذين بدَوَا على وجهه وهو يعلن تخليه عن تحالفه السياسي مع الحريري، ويؤكد خروجه من الوسط إلى المعارضة كي يكون جزءاً لا يتجزأ من الغالبية النيابية الجديدة، اختار جنبلاط شأن ما فعل دائماً في استحقاقات داهمة مماثلة كما في أعوام 1977 و1983 و1989 و2005 وصولاً إلى 2009 الانتماء إلى المحور الأقوى نفوذاً في لبنان والمنطقة، في ظلّ توازن القوى الحالي، الذي أخرج الحريري من السلطة، وقوّض غالبية قوى 14 آذار، وعطّل الدور السعودي في لبنان، ومكّن سوريا من الإمساك بمعظم مفاصل السلطة والاستقرار فيه. ما لم يقله الأسد مرة للزعيم الدرزي وانتظر من الأخير أن يبادر إليه لتوطيد التزامه الخيارات الاستراتيجية لسوريا والمقاومة في آن واحد، أمران: الانقلاب الكامل على المحكمة الدولية، وقلب الغالبية النيابية.