«كلود ليفي شتراوس» مفكر فرنسي ورائد البنيوية، وحارس الأساطير البعيدة والمثقف العالمي الكبير الذي قيل عنه «الأكثر تأثيراً في العالم» «وأعظم عالم في فرنسا» ورائد البحث والتنقيب والكشف عن أسرار الحياة الإنسانية، ونظرية القرابة بين المجتمعات البدائية المتوحشة والمجتمعات المتحضرة، فهو يرى أن ثقافة الهنود الحمر مثلاً لا تقل أهمية عن ثقافة مفكري باريس وكان يدعو الشعوب إلى الانفتاح على ثقافة الآخرين دون أن تدوس ثقافتها الخاصة ضارباً المثل باليابان التي يراها على حد تعبيره «تمتص الكثير من الخارج وترفض الكثير..فاليابان هي أكبر بلد مترجم في العالم، لكنها لا تهضم ولا تتمثل إلا ما يتناسب مع طبيعتها وعبقريتها التاريخية». لقد كرس «كلود شتراوس» القسم الأعظم من كتبه ودراساته للبحث العلمي في المجتمعات البدائية في أمريكا اللاتينية وبخاصة الهنود الحمر من خلال تاريخها وارتباطها بالكون والآخر والأساطير. وعاش فترة طويلة من حياته معلناً أن لا فرق بين المجتمعات البدائية المتوحشة والمجتمعات المتحضرة وهذا ما عارضه فيه كثيرون ف «شتراوس» كان يرى أن الإنسان عموماً لا يعلو على بقية الكائنات وأن ثقافة قبائل الهنود الحمر مثلاً، لا تقل أهمية عن ثقافة مفكري باريس.. إلا أنه لم يلبث أن تراجع عن أفكاره بسبب التغييرات التي طرأت على عالم اليوم. وفي حديثه عن «العولمة» كان «شتراوس» يحذر من أنها ستكون الضربة القاضية التي ستنهي الاختلاف..اختلاف الثقافات والمجتمعات، وتجعل من العالم نسخة مكررة، بلا روح ولا ثقافة. لقد حطم «شتراوس» جدار الوهم بين الثقافات والمجتمعات، وخلق «أثنولوجيا» جديدة تتعامل مع ثقافة «الآخر» باحترام وجدية بعيداً عن الطروحات العنصرية والأحكام «الكولونيالية» المغلفة بالادعاءات العلمية، وأسس بذلك مدرسة جديدة تضع نصب عينيها الرغبة في لقاء الآخر، وقد استفادت طروحات ومشاريع وأفكار منظمة «اليونسكو» كثيراً من طروحاته في «التنوع الثقافي الخلاق» و«التقارب بين الثقافات» والحوار مع الآخر، وكان لخطابه الذي وجهه إلى «اليونسكو» في الذكرى الستين لتأسيسها صداه الكبير إذ حذر من «التوسع العشوائي للمجتمعات المهيمنة، وما يمثله من تهديد جدي للطبيعة وللإنسانية». ويعتبر كتاب «الفكر البدائي» أكثر كتب «شتراوس» تغييراً لطرق الرؤية خارج حلقة اختصاصيي «الإثنولوجيا».. لقد أراد فيه أن يثبت عدم وجود هوة بين فكر الشعوب المسماة «بدائية» وبين فكرنا، عندما تلاحظ في مجتمعاتنا معتقدات أو عادات غريبة تمس الحس المشترك، يتم تفسيرها كمخلفات أو كاستمرارية لأشكال من الفكر القديم، وقد بدا له أن هذه الأشكال من الفكر موجودة بيننا دائماً، ونحن غالباً ما نطلق لها العنان، إنها تتعايش مع أشكال الفكر المرتكزة على على العلم، وهي معاصرة بالدرجة نفسها.. لقد قدم فيه محاولة لتجاوز التعارض بين المحسوس والمعقول، وبناء رؤية للعالم لا ينقصها التماسك أو المنطق. وفي بحثه عن «العرق والثقافة» يرى «كلود شتراوس» أن الاختلاف بين الثقافات هو الذي يجعل لقاءها خصباً والمرغوب فيه أن تبقى الثقافات متنوعة، أو أن تتجدد ضمن التنوع و«أحادي الثقافة» كلمة لا تعني شيئاً فلا يوجد مجتمع يمكن أن يكون كذلك أبداً.. كل الثقافات تنتج عن الاختلاطات والتأثيرات والامتزاجات الموجودة دائماً بتواترات مختلفة.. إن أي مجتمع من المجتمعات هو مجتمع متعدد الثقافات عبر نمط تشكله، وقد أسس كل منها عبر قرون تركيباً أصيلاً، وهي تحافظ على هذا التركيب الذي يكون ثقافتها في لحظة معينة بصلابة متفاوتة. ويرى «شتراوس» أن الموسيقار «فاغنر» هو الأب المؤسس لتحليل الأساطير، فقد لعب هذا الفنان العظيم دوراً رئيساً في تكوينه الفكري، وفي شغفه بالأساطير، وقد وعى ذلك منذ طفولته عندما كان والداه يصطحبانه إلى الأوبرا و«فاغنر» لم يبنِ أوبراه على الأساطير فحسب، بل اقتبس منها لوازم تمثل لب الأسطورة، بالإضافة إلى تلازم الشعر والموسيقى لذلك سحرت «شتراوس» عملية الخلق الموسيقي، فمعظم الرجال والنساء حساسون للموسيقى وينفعلون بها ويعتقدون أنهم يفهمونها لكن قلة نادرة فقط قادرة على خلقها، وهنا يكمن سر الإبداع فيها لذلك كان «شتراوس» يعشق الموسيقى ويأسف كونه لم يهب حياته للفن والموسيقى لأنها بنظره تكتفي بذاتها من غير حاجة لخطاب شارح. رحل «كلود شتراوس» عن عالم لم يكن يعتقد أنه عالمه، فقد كان يضع نفسه في عالم آخر، وكان يقول عن كتبه: إنها تتويج لعهد سابق.. إن أعمالي تنهي عهداً وتختتمه.. إنها ما زالت متجذرة في القرن التاسع عشر.. لقد أمضى «شتراوس» عمره، متفكراً في بناء البشر لعوالمهم بالفكر والمخيلة والمنظومات التقنية والاجتماعية، وخلص إلى القول: «ما تغير في هذا العالم هو الكثافة البشرية على سطحه وكثافة استهلاك البشر لموارده» أي ما يسميه «التسمم الذاتي».. مما قاله: « أن الحضارة لم تعد تلك الزهرة الحساسة التي نحاول الحفاظ عليها، وأن الإنسانية اتجهت نحو الثقافة الواحدة من أجل ما يسمى بثقافة الجماهير على طريقة نمو نبات الشوندر، عندما يمتد في الحقول الشاسعة كما سيطر الإنسان سيطرة كاملة على الطبيعة التي أزهقت بين يديه ودمرت تدميراً سريعاً فانعدم الاختلاف الثقافي عبر الكون».. لقد أكد في جميع أعماله ومؤلفاته على مقولة: «على المرء أن يقبل التضاد، حتى في المجال المعنوي والأخلاقي.. على البشر أن يتحلوا بالشجاعة ويمضوا إلى لقاءات العالم وأنفسهم.. ليس الأمل حادينا الأفضل بل الشجاعة والعيش والعمل.. فلا تحرموا أنفسكم من عشق الجمال في كل تجلياته».