لا يزال تاريخ الحركة الفنية الحديثة في مصر به صفحات منسية أو مجهولة، لفنانين أو جماعات أو مجلات أو مشروعات تركت آثاراً وعلامات في مسار الأجيال، ومن ورائها شخصيات ذات مواهب ورؤى تقدمية، ضحت بثرواتها وسنوات عمرها لتحقيق أحلامها. من بين هؤلاء الفنانين المنسيين، النحات الرائد مصطفى نجيب الذي وجد التقدير والتخليد في الولاياتالمتحدة الأميركية ولم يجدهما في وطنه، بالرغم مما أعطاه له على امتداد عقدي الخمسينيات والستينيات من أعمال صرحية ومجهودات تربوية ومشاركة سياسية بفنه في إرساء مفاهيم ثورة 1952. يستهل الناقد د. ياسر منجي هذا الكتاب، باستعراض السيرة الذاتية التي ترجمها من نص مارتيناكور ينياتي التي وضعت لها: "مصطفى نجيب.. سيرة حافلة (2 يونيو 1913 – 5 يونيو 1990)" قائلاً: هذا هو العنوان الذي وضعته لترجمتي للفقرة الخاصة بسيرة مصطفى نجيب التي وردت في نص دراسة الناقدة التشكيلية ومؤرخة الفن الإيطالية المعاصرة مارتينا كورينياتي وكانت قد اعتمدت فيها بدورها على مقابلة منشورة أجرتها مجلة "بناء الوطن" المصرية مع الفنان مصطفى نجيب، ويعرض بعض نقاط من سيرة الفنان الرائد وفقاً لدراسة مارتينا كورينياتي، ولد نجيب في الثاني من يونيو/حزيران عام 1913، بإحدى قرى محافظة القليوبية وتلقى تعليمه الأولي بكُتَّاب القرية. وفي سن مبكرة جداً أظهر شغفاً برسم صور وجوه المحيطين به، وبعد انتهاء نجيب من الدراسة التوجيهية بمدينة طنطا انتقل إلى حي السيدة زينب بالقاهرة ليعيش فيه، بعد فترة قصيرة من التحاقه بمدرسة الفنون الجميلة التي سبق أن تلقى فيها محمود مختار ويوسف كامل وراغب عياد وأحمد صبري دراستهم الأكاديمية. ويقول الناقد: ولما كان مصطفى نجيب قد التحق بمدرسة الفنون الجميلة في موسم 1926 / 1927، فإنه بذلك لم يدرك أستاذها ومديرها الأول المعلم الفرنسي الرائد جيوم لاباني (1858) أو غاليوم لابلان، ويتوالى الفنانون الأجانب على رئاسة مدرسة الفنون الجميلة، وفي عام 1937 تحوّلت إلى "مدرسة الفنون الجميلة العليا" ليرأسها المصوّر محمد ناجي أول مدير مصري للمدرسة خلال الفترة بين عامي 1937، 1939، وبالتالي فإن مصطفى نجيب قد أتم فصله الدراسي الأول فقط في خاتمة نظارة بيس للمدرسة، ليقضي بقية مدة دراسته بها حتى تخرُّجه في فترة نظارة إينوشينتي. وتبعاً لذلك فإن نجيب لم يتلق تعاليم لابلاني الأكاديمية مباشرة، كما لم يتعرض لتأثير أسلوبه الشخصي، لكنه من ناحية أخرى لم يعدم انتقال تلك التعاليم الراسخة إليه وإلى أبناء جيله من النحاتين، ولم يفته التقاط بعض سمات أسلوب لابلاني. ومن بين أساتذة مصطفى نجيب واحد لم يحفظ لنا التاريخ، سواء في المتاحف أو الوثائق المصوّرة، ما قد يعيننا على الإلمام ولو بملمح عام من ملامح أسلوبه النحتي، ذلك هو أحمد شاكر الذي نكاد لا نعلم عنه سوى اسمه، وكونه من أوائل مَن توطنوا من المصريين بمدرسة الفنون الجميلة. أما عن أهم أساتذة نجيب وأشدهم تأثيراً فيه نفسياً وفنياً باعترافه الشخصي، فلم يكن سوى أستاذه الإيطالي أنجيلو زانيللي (1879 – 1942 ) الذي تتلمذ نجيب على يديه خلال فترة بعثته الأكاديمية بروما في صدر شبابه، ففى التسجيل الصوتي الذي سبق وفاته بوقت قصير، يعترف نجيب قائلاً: (ظللت أتردد على محترف زانيللي يومياً بعد انصرافي من الأكاديمية طيلة عامين، قضيتهما متعلماً منه، ومتشرباً خبرته، بل ومقلداً إياه في أسلوبه، وكان زانيللي أهم من تتلمذت عليهم طيلة حياتي..). احتل نجيب موقعاً بارزاً من المشهد النحتي المصري منذ بداياته المبكرة، وتمتع بمكانة رفيعة وشهرة طبقت آفاق المنطقة العربية، وبلغت ذروتها خلال فترة حكم عبدالناصر قبل أن يُعاني ما عاناه خلال عهد السادات من أحداث ضاغطة انتهت بهجرته نهائياً للولايات المتحدة الأميركية. وتتجلى أهمية نجيب والتفات معاصريه إلى أعماله المميزة مبكراً من خلال فقرة بعنوان (إعادة تنظيم متحف الفن الحديث)، أوردها محمد صدقي الجباخنجي في سياق تأريخه لهذا المتحف المهم، إذ يتبيّن منها أن نجيباً كان من بين من اقتنى المتحف أعمالهم، لتعرض إلى جانب أعمال شوامخ الفنانين ومشاهيرهم من المصريين والأجانب. ويضيف الناقد: تتلمذ على يد نجيب بعد هجرته للولايات المتحدة الأميركية، عدد كبير من النحاتين الغربيين المعاصرين، نال أكثرهم تدريبهم بمدرسته الأميركية المذكورة، ولقّن بعضهم شيئاً من تعاليمه خلال حلول نجيب ضيف شرف محاضراً لبضعة أشهر في بعض الدول الأخرى، وقد تأثروا جميعاً بأسلوبه الفني وبشخصيته معاً، وبلغ تقديرهم له حداً بادر معه بعضهم إلى تكريمه وتخليد ذكراه بعمل تماثيل نصفية ووجهية تمثله، ومن هؤلاء النحات الأميركي فوستر ويلي. ويكفي لبيان تأثير شخصية مصطفى نجيب الساحرة على معاصريه، ومدى الجاذبية الآسرة (الكاريزما) التي كان يتمتع بها وتفيض على المحطين به، حتى أولئك الذين كانوا يتعرفون إليه في لقاءات خاطفة، أن نعلم أن النحات الأوكراني فاسيلي بوروداي (ولد في 17 أغسطس عام 1917)، وهو أحد أهم نحاتي التماثيل الميدانية والنصب التذكارية في تاريخ أوكرانيا الحديث، وصاحب النصب التذكاري لمؤسس مدينة (كييف)، قد أقام له تمثالاً تذكارياً، وهو موجود حالياً بالعاصمة الأوكرانية (كييف). ويذكر الناقد: رأينا في أكثر من موضوع كيف كان نجيباً محسوباً على تيار المحافظة في النحت المصري، وكيف أنه من المتمسكين بالنهج الأكاديمي الأصولي القائم على مبادئ الفن التي أرساها الأساتذة الأوائل من رموز الفن الكلاسيكي الحديث. كما كان لمرونته الأسلوبية واتساع ثقافته أثر كبير في منحه القدرة على التنوّع الأدائي، وهو ما صقله بقوة اتساع مجالات نشاطه الفني في النحت والخزف وسباكة المعادن، فكان ينتقل أحياناً بجرأة مدهشة بين عدد من الأساليب والأداءات، مستفيداً من مهاراته التقنية الاستثنائية في تلوين الصياغة وتنويعها، بما يتواءم مع طبيعة المنحوتة التي يصوغها، وربما يتماشى مع موضوعها ويبرز معناها ويؤكد محتواها الوجداني. يذكر أن كتاب (النحات مصطفى نجيب) لمؤلفه د. ياسر منجي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ويقع في 294 صفحة من القطع الكبير.