يُطلق أحد النقاد على الجاحظ لقب "معلم العقل والأدب"، وهو لقب يبجل هذا الكاتب العباسي الكبير الذي لا تزال كتبه إلى اليوم حديثة ونضرة، وفيها ما يقدم غذاء فكرياً وأدبياً عالياً، وبخاصة للراغبين باحتراف مهنة لا وسطية فيها هي مهنة الأدب. فعلى الأديب أن يتجهز قبل إقلاعه إلى عالم الأدب بالوافر من العلم والثقافة والمناهج والأدوات على أنواع، وأن يحرص على التأكد من سلامة بوصلته وسداد رأيه. وكل ذلك بات مع الأسف من عنقاء حياتنا الأديبة الراهنة. فنادراً ما يخرج من عالم المطابع ودور النشر إلى السوق الأدبي كتاب جديد يحمل مواصفات الجودة، ويكون له بالتالي شأن في الثقافة العامة، وفي تغيير القارئ على السواء. ولاشك أن عبارة "تغيير القارئ" من صفات الكتاب الناجح، ويُقصد بها أن هذا الكتاب الجديد أحدث تغييراً في أفكار قارئ اطلع عليه. فهو لم يمر به مروراً عابراً سريعاً، وإنما نفذ إلى عقله وقلبه، وجعله يعيد قراءته مرة ومرات. وهو ما لم يعد مألوفاً كثيراً في وقتنا الراهن نظراً لطغيان الطابع الاستهلاكي السريع العطب على ثقافتنا بوجه عام. ولعل كتاب "مدارات في الثقافة والأدب" للأديب والشاعر اليمني الكبير، عبد العزيز المقالح، هو من بين هذه الكتب القليلة النادرة التي تنطبق عليها مواصفات الكتاب الأدبي الناجح. فهو يتضمن ملاحظات معمقة لأديب كبير حول عدد من المسائل التي كثيراً ما يعالجها الآخرون بسرعة وخفة. وفي هذه الملاحظات ما يحرض على إعادة النظر بالكثير من الأحكام الشائعة وغير الصحيحة في آن. ومما يجعل لها قيمة أدبية ونقدية عالية، هو أن صاحبها، بالأساس، هو عبد العزيز المقالح الذي يرتبط اسمه بالثقافة الرصينة الجادة، وبالذود عن الثقافة العربية، وقيمها، وثوابتها، وقد مضى عليه في حومة الأدب أكثر من نصف قرن قدم خلالها من الإنجازات الأدبية الكثير. وفي ملاحظاته التي يتضمنها كتابه "مدارات في الثقافة والأدب" ما يجعل من هذا الكتاب مرجعاً من مراجع الأدب الحديث، وبخاصة لطلاب الأدب في الثانويات وكليات الآداب العربية، بل وما يشجع على تدريسه في هذه الثانويات والكليات لأنه يساهم في إعداد الأجيال الأدبية الجديدة وفي تزويدها "علم العقل والأدب". نحن إذن إزاء ملاحظات حول موضوعات مختلفة، لا إزاء كتاب يعالج موضوعاً واحداً لا غير. وليس في هذا ما يضير الكتاب، لأن المؤلف ينتقل من فكرة إلى أخرى، ومن موضوع إلى آخر، ليقدم خلاصة رأيه وتجربته. صحيح أن قسماً كبيراً من الكتاب ينصب على الشعر، ولكن الكتاب يتضمن فصولاً راقية عن غير الشعر أيضاً. ولكن ملاحظات المقالح ملاحظات ثمينة سواء عن الشعر أو عن سواه. وفي مسألة الشعر بالذات تتخذ ملاحظات المقالح أهميتها من كون صاحبها أحد شعراء العرب الكبار، ومن أن هذه الملاحظات نزيهة وغير منحازة مسبقة لصالح اتجاه شعري أو نقدي مسبق. فالعقلانية والنزاهة يشيعان في الكتاب. ومن قبيل ذلك رأي المقالح في مسألة الحداثة. فهو يقول إنه ما قرأ مرة لشاعر كبير يعي معنى الحداثة، إلا وجد من سعة الصدر ورحابة الرؤية ما يجعله يتقبل كل الأشكال الشعرية دون تعصب. وعلى العكس من ذلك صغار الشعراء وكتبة النقد الأدبي الذين يملؤون بعض الأجواء صخباً وثرثرة، ولا يتقبلون الرأي الآخر المخالف لما يتمسكون به من قشور الفهم الحداثي. "وهو ما جعلني أؤمن بأن في الحداثة كباراً وصغاراً، وفيها مبدعون ومدعون وهي في الشعر أوضح منها في بقية الفنون الإبداعية.. إن كل من يمتلك فكراً نقدياً واعياً وذوقاً صافياً يستطيع أن يفرق بين المبدع ومدعي الإبداع، وبين الحداثة التي هي جزء من مسار التطور الإنساني عبر العصور، والحداثة المزيفة التي باتت تعرف بالموضة التي تروج لوقت قصير، ثم تنطوي أوراقها دون أن تترك أثراً يُذكر في حاضر الناس أو في مستقبلهم " والمقالح ليس ضد التمرد ولا ضد الخروج على الأبوة التاريخية والمعاصرة، ولكنه ضد أن يضيع وقت هؤلاء الواعدين في مكابرة تغلق الموهبة الفنية على ذاتها ولا تجعلها تنفتح على فضاءات تحتضن الماضي والحاضر، وتمتد جغرافياً حول الكرة الأرضية بكل شعوبها وإبداعاتها المنظومة والمنثورة. وتحت عنوان "اللغة والشاعر" يقول: "لماذا تقدمت اللغة في العنوان على الشاعر؟ إنه سؤال قد يطرحه قارئ ذكي ليصل إلى معرفة السبب الحقيقي. ومؤدى هذا السؤال أن الشاعر من دون اللغة كالنهر من دون الماء، كالحديقة من دون أشجار. وما أكثر ما كتبت مشيراً إلى أهمية اللغة بالنسبة إلى الشاعر وإلى الكتابة الإبداعية، وإنها تتطلب قدراً كبيراً من التركيز اللغوي ومن الإدراك العميق للإمكانات التي تتمتع بها اللغة بوصفها أداة تعبير بالغة الثراء ولكنها لا تكشف عن نفسها ولا تمنح هذا الثراء العريض من دون مقابل. والمقابل هنا هو الجهد والبحث الدؤوب لا عن المفردات المألوفة، وإنما عن تلك المفردات التي تبدو غريبة، أو التي كانت ولا تزال قادرة على إضاءة حيوية للنص الأدبي، والشعري بخاصة، من خلال إشعاعها الدافق، نظراً إلى أن المفردات المألوفة أصبحت فاقدة للطراوة، ولهذا المستوى من الإشعاع مهما كان المبدع الذي يتعامل معها متمكناً وقادراً على إعطائها ظلالاً جديدة غير مألوفة، أو سعى إلى وضعها ضمن تجربة جديدة، فإن كثرة استخدامها أفقدها كل ما كان لها من توهج ولمعان. ويلاحظ أن أغلبية الجيل الجديد من الشعراء لا يرتبطون بصلة حميمة مع اللغة، لذلك تبدو نصوصهم فقيرة لغوياً.. "إن اللغة كالبحر تكتنز أعماقها ما لا يبدو على سطحها. والشعراء الذين يكتنفون بالبنية السطحية للغة، تظل أعمالهم الإبداعية سطحية كلغتهم تماماً. أما أولئك الذين يبحثون في بحر اللغة عن البنية العميقة، ويعانون كثيراً في سبيل الوصول إلى تلك البنية، والكشف عن أبعادها وطريقة استخدامها، فإن نصوصهم تمتلك قوتها وتميزها من طاقة اللغة وعبقريتها". إنها ملاحظات أستاذ كبير منفتح على القديم كما هو منفتح على الجديد، لا يضيق صدره حتى باللغة العامية وشعرها، فربما كان شاعر العامية الموهوب، بنظره، أقدر على كتابة قصيدة في وسعها تقديم الصورة الطريفة وأحياناً بارعة الخيال بحكم تحرره شبه المطلق من الخضوع لقواعد النحو والعروض.. فالشاعر الذي يكتب بالعامية يضع المفردة حيث يشاء ويتلاعب بالوزن كما يشاء، وذلك ما يمنحه، إذا كان شاعراً فذاً وموهوباً، قدرة على اجتراح الصور الجديدة غير المسبوقة وابتكار أساليب تركيب ومعان مفرطة في الغرابة. والإبداع تمرد، والشعر أعلى أنواع التمرد في نطاق الإبداع. "ولكنه تمرد محكوم بضوابط وقواعد لغوية لا يمكن تجاوزها أو الخروج عليها. وتمرد الإبداع الشعري بأشكاله المختلفة هو الذي أعطاه هذا النوع من التنوع الثري وحماه من سيطرة الرتابة والتشابه، وما يصدر عنهما من تكرار وغياب للفروقات النوعية التي تمايز ما بين الشعراء الكبار وعصورهم، وتجعل لكل شاعر خصوصيته، ولكل عصر ذائقته". وزادته الأيام معرفة بأن الشعر موجود في لوحة فنان موهوب أكثر من وجوده في بعض القصائد، وأن قصيدة شعبية يكتبها شاعر مبدع تمتلك من الشعرية ومن التأثير والإيحاء أكثر مما يمتلكه ديوان شعر فصيح، وأن في بعض القصائد العمودية من شفافية الصور وجمالية الإيقاع، ما ليس في ديوان كامل من شعر التفعيلة. والعكس صحيح. أي أن في قصيدة من شعر التفعيلة ما ليس في عشرات الدواوين المنظومة. كما أن في بعض ما يُسمى بقصائد النثر حساسية خاصة تقترب من الشعر في مجاله المطلق المتحرر من الأنماط والذي يُبحر في فضاء اللاشكل واللاتصور المسبق. بمثل هذه الملاحظات الواسعة الأفق والرؤية يكتب عبد العزيز المقالح, ويقوم بمهمة نقدية ومهمة تعليمية وتنويرية في آن. إن ما يكتبه جدير بأن تقرأه الأجيال الجديدة التي كثيراً ما تنسى المبادئ العامة عندما تغرق في التفاصيل المملة وغير المجدية. لقد شغلنا الأداء لفترة غير قصيدة، كما شغلنا الحديث عن الأداء في حين نسينا الشعر ذاته. نسينا جوهره وأسئلته. وبدلاً من أن نكتب شعراً يؤسس للحرية والإبداع في أبهى صورهما المتخيلة، ذهبنا إلى تأسيس خلافات والتباسات لا حدود لها. وقد نكون في خلال ذلك الانشغال قد كسبنا ألواناً من التنظير، لكننا خسرنا الشعر، هذا الحضور الروحي والفلسفي الصادر عن خبرة اللحظة الراهنة المتعانقة مع خبرة الدهور. والشعر عنده ملاذ للروح، وضرورة للإنسان في حياته وما يتمخض عنها وفيها من أحداث ووقائع جسام. وليس جديداً وصفه الشاعر بالمجنون. إن الشاعر إنسان نبيل شديد الحساسية، شديد الاحتفاء بالزمن وبالطبيعة، ودوره الاستثنائي يتجلى في محاولته الدائبة إلغاء جسر العبور بين اللغة ومنطقها التاريخي الواقعي لإنقاذ الإنسان واللغة من أن يتماهيا في الواقع المأهول بالخراب والأحزان والكوارث. " وإذا كان الشاعر هو المجنون النبيل، فإن الشعر هو الجنون النبيل أيضاً. إنه يطلق الإنسانية من أسر سياقها المنطقي المألوف، ويحاول أن يسعى بها لتستنشق الهواء النقي بعيداً عن كل ما تواضع عليه الآخرون. وهو لا ييأس من تحرير اللغة من محدوديتها ومن دلالتها المنضبطة". وفي مدار "الرواية" كلمات جليلة للمقالح تتصل بأكثر من جانب منها. فهو يدافع مثلاً عن عربية أو عروبة الرواية، ولا يرى أنها فن سبقنا الغرب إليه. فهو يرى أن في تراثنا الأدبي نماذج رائعة للقص والسرد الفني. ولكن السؤال هو: لماذا يقف بعض الدارسين والنقاد العرب موقفا غريباً يدعو إلى نمط الأدب العربي حقه، وإنكار أن يكون في تاريخه نماذج للرواية العربية، أو على الأقل أصول أولية لهذا الفن؟ إن السير الشعبية في تراثنا نصوص روائية متعددة الملامح والرؤى، وهي ذخيرة واسعة وغنية بالقصص والأساطير والخرافات. وإهمال المبدعين العرب لها قديماً هو السبب الكافي وراء بعدهم عن مصادر هائلة الثراء بالفرادة والإبداع. في كتاب المقالح ملاحظات بالغة الثراء حول جوانب مختلفة من حياتنا الأدبية والفكرية القديمة والحديثة. لنقرأ مثلاً تقييمه لدور الشاعر بوجه عام، ونظرته إلى سيرة المتنبي في القديم، وكون قصائده الحزينة مجرد بكاء حضارة هي في طريقها إلى الأفول. وهي من الملاحظات التي لا ينفذ إليها سوى الأبناء البررة لتاريخهم ولحضارتهم: "الشاعر ليس مؤرخاً ولا مصوراً فوتوغرافياً، وهو مع ذلك مصور بارع وحامل للتاريخ أكثر من أي مؤرخ موضوعي. وهو لا يؤرخ للملوك والدويلات، ولكنه يؤرخ للخسارة البشرية، خسارة الإنسان في نفسه وفي حياته، يؤرخ للعبثية وتلاشي الأجساد والأشياء الجميلة في سياق زمن مسافر لا يعرف الوقوف ولا البكاء على شيء. ولا غرابة بعد ذلك وقبل ذلك إذا ما قيل إن المتنبي هو المؤرخ الحقيقي لسقوط الحضارة العربية، وإن قصائده الحزينة استطاعت أن تشم رائحة الحريق الكبير في جسد الدولة العربية قبل أن تخترق النيران الجلد وتصل إلى العظم. ويذهب بعض من كتبوا عن هذا الشاعر العظيم أنه لم يكن يكتب شعراً، وإنما كان يبكي حضارة في طريقها إلى الأفول. وبذلك يكون ما قدمه المتنبي في شعره عن تلك النكبات أكثر خلوداً وبلاغة من أي مسرح أو نحت أو تصوير". نقلا عن صحيفة السياسية