لأننا لم نجد رايات أو أعلام يمنية قديمة أصلية، ذهبنا الى عدد كبير من الخياطين للحصول عليها عن طريق الأقمشة المتناسبة مع الألوان الأصلية، فوقعنا في مشكلة. فالألوان التي بدت لنا برتقالية في كثير من أعلام السلطنات القديمة اتضح ان في اغلبها في الأصل لون أصفر فاقع اللون أشبه بالشعاع. أكد لنا هذه الحقيقة الأستاذ عفيف البركاني الذي زار بنفسه المتاحف في حضرموت ورأى بعض نسخ أصلية ورسمها بالألوان التي هي أقرب إلى اللون الأصلي. وتسببت الألوان المطلوبة في لعبة بحث مذهلة، من نتائجها أننا علمنا بغياب كبير للمعرفة بالدرجات اللونية لدى أغلب الناس وأغلب المشرعين الذين حددوا ألوان العلم فقالوا أحمر دون أن يشرحوا أي درجة من الأحمر. وعرفنا أن المدارس لا تعلم الأطفال قصة تدرج الألوان حسب الدرجات. وظننا أنه ربما وحدهم أولئك الشباب العاطلين عن العمل الواقفين ومعهم أداة طلاء الجدران الدائرية، في انتظار أن يستأجرعملهم أحد، الذين يعرفون قصة تدرج الألوان خاصة تلك التي تكسر قليلاً من حدة الأبيض لأنها جزء من عملهم. في الأصل كان الإعلان المشهورعن إحدى ماركات الصابون الذي يقول أنه يجعل الغسيل أكثر بياضا، أوأنه يجعله أبيض من الأبيض، مجال تندر دائم، لكنه الآن مجال احتمال قائم فهناك درجات متعددة من الأبيض ما يتناسب مع الإعلان، بغض النظرعن فعالية الصابون. عمى الألوان: سألتني مرة صديقة نرويجية عن الكيفية التي نستطيع بها الاحتفاظ بالرؤية رغم كل هذا الضوء. ودارعلى ما أذكر بيننا نقاش كبيرعن تأثيرالبيئة في توسيع مدى القدرة البصرية على رؤية الأشياء خارج الذات بوضوح والتأمل فيما يحيطنا، أو رؤية الأشياء داخل الذات بوضوح والتأمل في مشاعرنا تجاه ما يحيط بنا. وخلصت في رؤيتها إلى أن المجتمعات التي تحتجب الشمس فيها كثيرا يكون مجال تأمل الناس داخلهم لأن الضوء الخارجي قليل. وأن المجتمعات التي تزيد فيها كمية الضوء كما هو حادث عندنا يكون مجال تأمل الناس هو لبعضهم البعض ولما يحيط بهم خارج ذواتهم. وقد يصدق هذا النوع من التشخيص نتيجة أن الشعوب تكون دوماً انعكاس لبيئتها. أما أن يكون اللون عندنا غير ذات أهمية سوى لدى الفنانين التشكيليين فهو أمر مثير ليس فقط على مستوى الملابس بل على مستوى الأعلام والشعارات والرموز السياسية منها وغيرالسياسية. فاللون هو أصلاً انعكاس أوامتداد ضوء، وكمية الضوء حولنا كافية لتصيبنا بعمى الألوان في الغالب، حتى إننا حسب تعبير الزميل عبد الحفيظ النهاري لا نزال نسمي الألوان بحسب تسمياتها التشبيهية البدائية وليس بحسب تسمياتها العلمية وللتدليل على وجهة نظره يقول أن وصف الناس في مجتمعنا لون ما بأنه “خبقي”هو تشبيه بيئي بالمماثلة مع لون الخبق الذي يقع على المستنقعات أو ضفاف السواقي بطيئة الحركة. ونفس اللون أو ما يقاربه قد يقال له “زيتوني” مماثلة لون الزيتون. لكن أن يكون اللون أزرقا فاتحا ويسمى “لبني” تشبيها باللبن أو بصلي تشبيها بالبصل دون أن يكون هناك وجه واضح للتشابه فهي مصطلحات لونية جديدة مكتسبة عبرالتلفزيون أوالمعلمين المصريين من رؤى مجتمعات أخرى. وفي مشتقات اللون الأحمر يكون التشبيه للون أحمر داكن بأنه “دم الغزال” تشبيه بعد الاعتياد عليه يفقد قسوته والموقف العدائي فيه تجاه اللون المحايد ليصبح تسمية جارية مقبولة رغم عدم ملائمتها فالغزال المسكين ليس لدمه المهدورلون خاص به مغاير للون كل الدماء الأخرى. ولون الدم ليس هو ما يحب المرء أن يتحلى به، ما لم يكن لون صحة تنعكس من خلف البشرة في الوجوه الشابة. لون للذاكرة والتاريخ: قليل من الأشخاص في اليمن قداستوعبوا كيف يعكسون الألوان الحقيقية في عملية فرز خاصة بهم وعلمية.هؤلاء هم الذين يعملون في مجال الطباعة بالألوان، ومع هؤلاء بدأنا نعيد النظر في الطريقة التي انتجنا بها الأعلام المختلفة للمراحل والسلطنات والجمهوريات منذ عام ثمانية وأربعين.أما الكتب التي كنا قد اعتدنا على التسليم بمصداقية الألوان فيها فقد بدأنا نشك في ألوانها، وصارت لعبة البحث عن التاريخ بحاجة إلى ذاكرة لونية قادرة على التمييز. إن الذاكرة البصرية التي هدف مشروع رداء الدولة ومكونات الهوية إيجادها لا يبدوأمرها سهلا، ونحن بحاجة إلى كثير من المساعدة.فالذاكرة البصرية المتوافرة اليوم لها لون غيرموثق، وتوصيف بكلمات غيردقيقة، وفهم لمدلولات الأشياء مغايرعن مدلولاتها لزماننا. فالعلم مثلا في بعض مناطق اليمن قبل أربعين عاماً كان مجرد علامة، يرفعون على أساسه قطعة لونية من قماشة يمكن الاستغناء عنها ورفعها على سطح مرتفع ما للدلالة على الاحتفال أو الحزن أو الحرب أو الإعلان. ففي صعدة وحجة مثلا كانت القطعة الصفراء بديل عن علم الدولة وتعبيرعنها. أيام المعرض تقترب ومغامرة الدخول في وهم لون للحقيقة يتجاوز الواقع. أتمنى أن تصلني وجهات نظركم لونية كانت أو وصفية.