بحث مقارن لحملات الغزاة المتعاقبة على اليمن عبر التاريخ خلص إلى آن الغزاة لايستفيدون من التجارب العسكرية اليمنية ظلت مرتبطة بالشعب بمختلف فئاته ولهذا نجد أنه في مختلف مراحل الغزو الخارجي لليمن كان الشعب هو المتصدر لمشهد المواجهة والتصدي الخميس مصطلح عسكري تكتيكي ومسمى لتشكيل قتالي كبير اشتهر قديماً في الملاحم الشعرية العربية وكان اليمنيون هم أول من أطلقوا هذا المصطلح في إنشاء وبناء الجيوش الإمداد والتأمين اللوجيستي للجبهات أثناء الحرب وكذا التعزيز بالعتاد والعديد فنون حربية يمنية قديمة سبقت وجود أكاديميات الحرب العليا في العالم المعاصر تناولنا في الحلقات السابقة من هذا البحث «تاريخ اليمن مقبرة الغزاة» الفصلين الاول والثاني واستعرضنا ما تعرض له اليمن من حملات غزو رومانية ثم حبشية تصدى لها اليمنيون باستبسال وصمود كبيرين وكان مآلها الاندحار بعد الهزائم المرة في هذه الحلقة سنستعرض الفصل الثالث والذي سلط الضوء على العسكرية اليمنية في القرون الأولى للميلاد كمدخل تمهيدي لهذا الفصل فإلى الحصيلة: عرض/ امين ابو حيدر نعم ستستمر المؤامرات في تحالف بيزنطة وأكسوم على اليمن ولن تمر الهزيمة المدوية دون عقاب وستظل الأهداف الاقتصادية تتشكل بطموحات ورغبات تغذيها الأحقاد والأطماع وسيكون هذا الغزو مقدمة لحملات أخرى ، وهو ما سنتعرف عليه في الفصل القادم. آثار ونتائج الاحتلال الحبشي للساحل الغربي لليمن : إذا ما حاولنا التطرق إلى النتائج المباشرة وغير المباشرة للاحتلال الحبشي الأول والغزوات المتكررة على الساحل الغربي نجد أن المكانة السياسية لليمن تأثرت بشكل كبير وكانت تلك الفترة هي بداية التراجع الحقيقي للحضور اليمني في المنطقة والعالم وعلى مختلف المستويات وعلى رأسها الاقتصادية فقد تأثر الاقتصاد اليمني بشكل كبير وحال الاحتلال دون استفادة اليمنيين من موقع بلدهم الاستراتيجي وأعاق نشاطهم التجاري البحري ومن النتائج غير المباشرة عدم تمكن اليمنيين من إجراء الصيانة اللازمة لسد مأرب ولبقية السدود فقد كانت تلك العملية تحتاج إلى الكثير من الجهود والأموال وهذا لم يكن متاحاً في تلك الفترة التي انشغل فيها الملوك بصراعهم السياسي مع القوى المنافسة وفي ذات الوقت بحرب الغزاة وكانت الكيانات اليمنية قد تأثرت بشكل كبير جراء توقف نسبة كبيرة من نشاطها التجاري جراء الاحتلال ، وإضافة إلى كل ذلك فإن تواجد قوة عسكرية داخل الأراضي اليمنية يؤدي إلى ارتفاع كلفة التضحية من أجل طرد الغازي وتحقيق الاستقلال وتلك الكلفة تمثلت في نتائج الصراع المرير بين اليمنيين والأحباش والذي استمر لقرون كاملة أدت إلى انشغال جزء كبير من اليمنيين وقتها بمحاربة الغزاة وهو ما أدَّى إلى تراجع البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. الفصل الثالث: العسكرية اليمنية خلال القرون الأولى للميلاد الوضع العسكري لليمن (الجيش والأسلحة) : امتلكت اليمن قديماً واحداً من أقوى الجيوش في المنطقة العربية برمتها وهو ما تؤكده النقوش ليس اليمنية فحسب بل والعربية التي أشارت إلى غزوات وغارات الجيوش اليمنية إلى أطراف الجزيرة العربية وإلى العراق والشام وكان الجيش اليمني يعتمد على قوة المشاة والخيالة وهم الفرسان وكذلك الجمالة وعلى الرماة وعناصر مخصصة لفتح الطرق والنقل والتموين والعيون الاستطلاعية والقصاص والأدلاء ولديه قوة بحرية ويعتمد على أساليب قتالية لا تزال مستخدمة حتى يومنا هذا وقد استخدم الجيش الإسلامي بقياداته اليمانية الكثير من الأساليب والخدع والتكتيكات القتالية التي كان اليمنيون قد توارثوها منذ القدم واستخدموها في مختلف الأحداث الحربية ، ومنذ القدم واليمنيون لا يعتمدون فقط على الجيوش النظامية في الدفاع عن بلدهم فهم محاربون أقوياء وأشداء وهذا ما أكدته الآيات القرآنية التي تشير إلى الوضع العسكري لليمن (نحن أولوا قوة وأولوا باسٍ شديد) فاليمنيون جميعهم مقاتلون وظل وضعهم العسكري قوياً في مختلف فترات التاريخ القديم إلى أن أسهمت الصراعات في التراجع والضعف والوهن. ومما يجدر الإشارة إليه هنا هو أن العسكرية اليمنية ظلت مرتبطة بالشعب بأفراده العاديين بفئاته المختلفة ولم تكن يوماً من الأيام خاصة بالتشكيلات العسكرية النظامية ولهذا نجد أنه في معظم المراحل التي تعرضت فيها اليمن للغزو كان الشعب هو المتصدر لمشهد المواجهة والتصدي فيما الجيوش النظامية تكون وقتها قد تعرضت للهزيمة أو نالت منها الصراعات السياسية بين الحكام وخصومهم المحليين وهذه الحقيقة تكررت كثيراً في التاريخ اليمني حتى وقتنا الحاضر فالسلطات ممثلة بالملوك منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن السادس الميلادي كانت تعمل على تشكيل جيوش لحماية الحكم وقمع التمردات الداخلية ولم تكن تلك الجيوش من مهامها الدفاع عن السيادة الوطنية أمام قوى الغزو الأمر الذي دفع بعض المؤرخين إلى توجيه النقد اللاذع للحكومات السبئية والحميرية المتعاقبة سيما في قرون الغزو الحبشي الروماني لليمن فلم تهتم تلك الحكومات بالجيش النظامي كما ينبغي من حيث التسليح وكفاءة التدريب إضافة إلى عدم الاهتمام بالقوة الحربية البحرية التي كان غيابها سبباً من أسباب تمكن الأحباش من السيطرة بسهولة على الساحل الغربي لليمن ولم تتمكن الجيوش النظامية من التصدي لذلك الغزو الهمجي إلا بعد أن تشكلت المقاومة الشعبية وتصدرت القبائل صفوفها. الشعب المقاتل الأول : رغم ما كانت تتميز به اليمن من الناحية العسكرية إلا أن بعض المؤرخين انتقدوا عدم جاهزية الجيوش اليمنية للتصدي للغزاة الأجانب الذين تمكنوا من التوغل داخل الأراضي اليمنية معيدين ذلك التوغل إلى ضعف القدرة العسكرية للجيش النظامي الذي لم تكن تصل من حيث التسليح والتدريب والكفاءة إلى مستوى الجيشين الروماني أو الساساني لكن وإن كنا نتفق مع ذلك من ناحية عدم اهتمام الدويلات اليمنية بالقوة الحربية البحرية إلا أننا نختلف كثيراً مع ما قيل عن القوة العسكرية اليمنية البرية فاليمن كانت من حيث التسليح تضاهي القوى العالمية في تلك الفترة وكان اليمني لايحتاج إلى الانخراط في التشكيلات العسكرية النظامية حتى يكتسب الخبرة القتالية ويتعلم مهارات وفنون الحرب لأن حياته اليومية لم تكن تخلو من الصراع والقتال حتى أن قادة الجيش كانوا من رؤساء العشائر والوجهاء وكبار المجتمع وكان أتباعهم من الأفراد العاديين يشاركون في كافة العمليات الحربية ، أما في أثناء السلم. فيعودون إلى أعمالهم الاعتيادية، كإدارة الأرض أو القبيلة . بمعنى أن غالبية أبناء الشعب كانوا هم المدافعون عن البلاد سيما في تلك اللحظات التي يضعف فيها الجيش النظامي أو تكون تشكيلات هذا الجيش قد تمزقت وتفككت بفعل الصراع السياسي بين مراكز النفوذ أو بفعل العمليات الحربية ويقول المؤرخ جواد علي إنه كان من بين قادة الجيش النظامي أناس لم يكونوا من المتخصصين بالقيادة وبشؤون الحرب، وإنما هم قادة متطوعون وسادات قبائل تضطرهم مراكزهم إلى قيادة أتباعهم في أمثال هذه المناسبات، ولعل ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن أفراد الشعب العاديين هم من تولوا مهمة الدفاع عن البلاد عبر الانتفاضات والثورات على المحتلين والغزاة أو من خلال عمليات التصدي وإسناد الجيوش النظامية هو إن الغزو الحبشي الأول استغل الحروب الدائرة بين الجيوش النظامية للدويلات اليمنية للتوغل ليلجأ الملوك إلى القبائل للقيام بدورها في دحر الأحباش إضافة إلى أن عوامل الصراع السياسي هي التي أدت إلى تآكل قوة الجيش النظامي فلم يبقى من عوامل القوة الذاتية إلا الأفراد العاديين. فعلى مدى التاريخ اليمني نجد أن المقاومة الشعبية هي التي تضطلع بمهمة التحرير والاستقلال ولم يسجل أن جيشاً نظامياً يمنياً تمكن بحكم قوته العسكرية من حيث التسليح وبراعة العقلية القيادية من دحر أي غازٍ ولهذا عندما نتحدث عن المقاومة فنحن نقصد بذلك التشكيلات العسكرية العفوية المكونة من عموم الشعب ومن القبائل إضافة إلى ما تبقى من التشكيلات العسكرية النظامية وهذا الأمر يتكرر في مختلف فترات التاريخ اليمني، فعندما يتعرض الجيش النظامي للهزيمة يتجه أفراده للانخراط في المقاومة الشعبية التي تصبح بحكم الظروف والواقع بديلاً عن الجيش النظامي فتتلقى الأوامر من الملك أو القائد وتعمل على تنفيذها وفق إمكانياتها ولهذا فإن المراحل الأولى للغزو الحبشي شهدت قيام قبائل معينة وقيادات وأقيال من مناطق مختلفة بمهام حربية بموجب أوامر ملكية فقبائل صعدة على سبيل المثال تولت الدفاع عن مناطقها من الغزاة الأحباش وكان الملوك يلجأون إلى القبائل لإرسال المقاتلين فكان الجيش عبارة عن تشكيلات قبلية فرضتها الحاجة الطارئة لتنفيذ مهام مستعجلة. ومما يدعم ما ذهبنا إليه أيضا ما ورد في النقوش من ألفاظ ومصطلحات عن تقسيمات الجنود فقد كان يعبر عن المحارب والمقاتل بلفظة جندي أو أسد / أسدم / جنود وقد يكون الجندي حرّاً وقد يكون عبداً أي: رقيقاً ومولى، وقد وردت جملة «أسد أملكن» أي «أسود الملوك» بمعنى «جنود الملك» و«عسكر الملوك»7، وذلك تمييزاً لهم عن الجنود الآخرين الذين كان يجندهم الأقيال والأذواء وسادات القبائل. ويقصد ب«أسد» أي: جندي، الجندي النظامي،أي: المحارب الذي اتخذ الجندية عملاً له. ولهذا نجد النصوص لا تستعملها إلا في هذا المعنى، وذلك للتمييز بينه وبين المحاربين الآخرين المتطوعين أو المكرهين على الدخول في القتال أو المؤجرين أو المحاربين من أهل القبائل أو من أهل المدن الذين يهبّون للقتال عند دنو خطر على أهلهم أو قراهم. وتكون إعاشة هؤلاء الجنود على من يأمرهم بالخدمة في جيشه بالطبع. من ملك أو مكرب أو مدينة أو قرية أو سيد أرض، وأما إذا كان المحارب رقيقاً كائناً ما كان جنسه أو لونه، وأشرك في القتال، فيعبر عنه ب«أدومت» «أدمت»، أي: «آدم» و«أوآدم»، بمعنى الخدم . أما عن قيادات الجيش فقد كان القادة من رؤساء العشائر ومن الوجهاء والكبراء يقودون أتباعهم في أثناء الحروب. أما في أثناء السلم. فيعودون إلى أعمالهم الاعتيادية، كإدارة الأرض أو القبيلة. ولهذا ففي استطاعتنا أن نقول: إن من بين قادة الجيش أناساً لم يكونوا من المتخصصين بالقيادة وبشؤون الحرب، وإنما هم قادة متطوعون وسادات قبائل تضطرهم مراكزهم إلى قيادة أتباعهم في أمثال هذه المناسبات. الجيش في الخميس كان الجيش في عهد الممالك اليمنية القديمة ينقسم إلى جيش رسمي تابع للملك ويسمى (خميس) وجيش تابع للأقيال في مناطق نفوذهم، وهناك جيش شعبي بحكم مشاركة القبائل في القتال ويسمى (الأسد) . وفي مراحل لاحقة تشكل جيش الأعراب وكذلك البدو ، وهي قوات رديفة ثانية للجيش الرسمي بعد قوات القبائل .. أماعن تسمية الجيش بالخميس فيقول بعض المؤرخين إن لفظة خمس أو خميس ترد في العربية الجنوبية بمعنى الجيش وكذلك ترد في عربية القرآن الكريم فقد ورد أن الخميس الجيش أو الجيش الجرار أو الجيش الخشن وذكر بعض علماء اللغة أن العرب سمت الجيش خميساً لأنه مكون من خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة وقالوا بل سمي الجيش خميساً لأنه يخمس فيه الغنائم وبحسب المؤرخ جواد علي فإن لفظة الخميس تعني الجيش المنظم الكبير الذي يحارب بإمرة وبنظام وجمع الخميس أخمس بمعنى جيوش . أما عن قادة الجيش عند اليمنيين القدماء فيحمل بعضهم درجة مقتوي وهي منزلة خاصة في درجات القيادة العسكرية وورد مقتوي ملكن أي مقتوي الملك بمعنى قائد الملك وهناك منصب آخر يسمى مغالب وعلى ما يبدو أنه يطلق على الضابط أو قائد فرقة من الجيش والجندي أسد والعساكر أسود أما القائد الأعلى فهو عادة الملك الذي يحق له إعلان الحرب وقد يقود بنفسه الحملات العسكرية. قاعدة حربية يمنية قديمة : تحتوي بعض النقوش المسندية إلى ما يمكن وصفه بالقواعد الحربية القتالية التي تؤكد براعة القادة اليمنيين في التخطيط وفي التنفيذ ويمكن الاستفادة من تلك القواعد والأعمال الحربية في مختلف الأزمنة وما توصلنا إليه من خلال أحد النقوش هو نوعية المقاتلين الذين يتوجب اختيارهم لتنفيذ عملية حربية نوعية أو حاسمة، فرغم أن معظم اليمنيين كانوا يشاركون في المعارك إلا أننا نجد في بعض النقوش منع الضعفاء من المشاركة، وهذا قد يبدو لأسباب ليس لها علاقة بالرأفة ببعض الجبناء أو ممن لا يمتلكون قدراً كبيراً من الشجاعة بل إن السبب الرئيس في ذلك يتمثل في نظرة القائد إلى متطلبات حسم المعركة فلن تحسم بوجود فئة يساورها الشك بالنصر أو يظهر عليها التردد والضعف ولهذا نرى في النقش جام 616 أن جيش الملك كرب وصل إلى صعدة والتقى بقبائل خولان ودخلها دون قتال ومن ثم واصل المسير نحو جيزان وقبل أن يصل إلى هدفه توقف للاستعداد للحرب وكانت عملية الاستعداد تتمثل في تصفية الجيش من ذوي الضعف فقد احتوى النقش على كلمة تصفية وبعدها تخليص الجيش من الضعفاء مما يجعلنا نشعر بأن هذه الفئة كانت عبئاً حقيقياً على الجيش ولن يتحقق النصر بوجودها ولابد من التخلص منها حتى يتبقى الشجعان فقط وهم من يعول عليهم لتحقيق الانتصار ولهذا يذكر لنا النقش أنه لم يتبق في الجيش إلا المقاتلين الأشداء الأسود. الصناعة الحربية وتشكيلات الجيش : أما عن الأسلحة فهي على مستويين : الأول: (السكاكين والمدى - الخناجر - الحراب للطعن -الوضف(المقلاع) لرمي الأحجار ).. والثاني : السيوف - المقرعة والدبوس(يستخدم للضرب على الرؤوس وهو عبارة عن كتلة من الحديد مثبتة في عصا قصيرة شبيهة بالمطرقة - الفؤوس - الرماح - القوس والنبال - المنجنيق يستخدم لقذف الحجار والمواد الحارقة على المواقع المحصنة بقصد هدمها أو حرقها - الكبش أو الدبابة آلة خشبية جلدية مربعة كالغرفة يدفعها أفراد وبداخلها آخرون يدفعونها إلى قرب السور أو الحصن بغرض ثقبه وفتح ثغرة ينفذ منها المقاتلون . وبحسب ما أورده الحارثي فإن هناك أسلحة بدائية استخدمت في العهد القديم ووصفها بأسلحة المرحلة الأولى (الأحجار - العصي الخشبية- قرون الوعول والثيران) وقسم الحارثي أنواع الأسلحة الهجومية إلى أسلحة هجومية خفيفة وهي السيف والخنجر والرمح والحربة والقوس والسهم ، وأسلحة الهجوم الثقيلة إلى المنجنيق - رأس الكبش - سلالم الحصار والحبال، وأما أسلحة الدفاع فالخفيفة منها الدرع والخوذة والترس والثقيلة منها تتكون من القلاع والحصون والأطام التي تُغلق أبوابها في وجه المهاجمين والمدن المسورة والأبراج على الأسوار والخنادق وإنشاء الحواجز في المضايق والممرات والموانع الطبيعية، وأما الصناعة الحربية فقد اشتهرت اليمن بصناعة السيوف والخناجر مثل صمامة عمر بن معد يكرب وكذلك الرماح والحراب منها الرماح اليزنية المشهورة والسمهرية والردينية والشرعبية، وكافة الأسلحة المستخدمة في ذلك الزمن كانت صناعتها محلية بل إن اليمن كانت مصدراً من مصادر السلاح لجودة السلاح المصنوع فيها ومهارة إتقانه. حرب العصابات : استخدمت الجيوش اليمنية أساليب حربية متعددة أبرزها حرب العصابات ويتطرق لها المؤرخ جواد علي من واقع النقوش المسندية بالقول : وقد يتبع المحاربون طريقة حرب العصابات، وذلك بأن ينقسم الجيش إلى أحزاب وفلول مستقلة تنتشر في أماكن متباعدة، وتقاتل بمفردها أو تتعاون فيما بينها عند الحاجة، وهي تحمي نفسها بالالتجاء إلى المواضع الطبيعية الحصينة.. مثل: المستنقعات والأدغال والجبال وأطراف الممرات الوعرة، وذلك لكي تخفي نفسها عن العدو فلا يراها إلا وهي مباغتة له. ويقال للعصابة هذه: «حزب» في السبئية، وأما الجمع ف»أحزاب» ، وتتبع الطريقة المذكورة عندما يواجه عدو عدواً يرى أنه لا يستطيع الوقوف أمامه ومحاربته، أو في حالة التريث والانتظار إلى ساعة مجيء مدد وعون، أو في حالات الهزيمة. فتشتت القوات المغلوبة قواتها إلى «أحزاب» وتشغل جيش العدو المتفوق عليها بجبهات عديدة لغاية إرباكه وإضعاف قوته، وتبقى تحارب حرب عصابات حتى ترى رأيها الأخير، فتقرر الصلح أو الاستسلام وقد تجمع فلولها ثانية وتظهر مرة أخرى في ميدان قتال جديد، ففي كتابات المسند أمثلة كثيرة من هذا القبيل.. وقد وردت في النصوص المعينية لفظة «غزتس» بمعنى غزوة، كما في هذه الجملة: «غزتس عم مسبا»، بمعنى «في غزوته مع المسبين». ويظهر أن هذا النص قد دوّن في غزاة قام بها صاحب النص، وقد أخذوا معهم جماعة من السبي. وهذا النص هو من النصوص المعينية التي عثر عليها في مدائن صالح، ويقال للحواجز التي يضعها المحاربون في شوارع المدينة أو في الطرق أو التي يقيمونها في ساحات المعارك لإعاقة تَحرُّك العدو: «حجزت»، أي: «حاجزة» ولا تقتصر عمل هذه الحواجز على الأغراض العسكرية وحدها بالطبع، بل تقام لأغراض عديدة أخرى، مثل: الحواجز التي تقام لحجز المواشي والحيوانات وما شابه ذلك. ولا يشترط بالطبع في الحواجز أن تكون عالية مرتفعة أو قائمة عريضة، فقد تكون منخفضة وعندئذ تكون على هيأة موانع لإعاقة الإنسان أو الحيوان من المرور. وقد تكون خندقاً يحفر حول المدينة أو حول مكان يراد حمايته والمحافظة عليه من التطاول عليه. فيقف هذا الخندق حاجزاً مانعاً يمنع الجنود والجيوش من التقدم نحو الهدف أو المدينة أو الموضع الذي يراد الاستيلاء عليه، ويقال له عندئذ: «خبزت» وبهذا المعنى عرف في كتب اللغة، فقد ورد في القاموس المحيط «خ ب ز »: «خبز» الرهل والمكان المنخفض المطمئن من الأرض ، وقد بنى اليمانيون حصونهم في الهضاب والمرتفعات والجبال، ليكون من السهل الدفاع عنها. وحول هذه الحصون وبحمايتها بنى الناس بيوتهم، فتحولت هذه الأماكن المحماة بالقلاع والحصون إلى مواضع حصينة تدافع عن نفسها وترمي من يحاول الوصول إليها بالسهام وبوسائل الدفاع الأخرى، فيتكبد المهاجم خسائر، ويلاقي صعوبات كبيرة في الوصول إليها. ويقال لمثل هذه الحصون والقلاع: «محفدن» و«محفدم» والأُولى معرفة والثانية منكرة. وتزود الحصون بكل وسائل الدفاع وما يحتاج إليه أصحابها والمدافعون عنها من ماء وزاد ووسائل دفاع. ولهذا نجد في الحصون آباراً ومخازن للمياه، ليستفيد منها المدافعون، ولا يتمكن المهاجمون من منع الماء عنهم. أما الزاد، فيخزن في العادة في مخازن خاصة لهذه الغاية أيضاً. وأما وسائل الدفاع فتكون بإنشاء أبراج فوق أسوار الحصن، يكمن فيها المدافعون لرمي العدو منها، عمل فتحات صغيرة رفيعة لمراقبة العدو منها، ولرميه بالسهام. ومن وسائل الدفاع التي لجأ إليها أهل العربية الجنوبية لإعاقة المحاربين من التقدم نحو هدفهم، إنشاء حواجز على هيئة جدر تُبنى في المضايق والممرات، بحيث إذا وصل إليها العدو لم يتمكن من الاستمرار في سيره نحو عدوه، فينهال عليه حماة تلك الحواجز بالحجارة والسهام وما شاكل ذلك من أسلحة. وترى بقايا مثل هذه الجدر في مواضع عديدة على امتداد الأرضي اليمنية حتى اليوم. ومن جملة ما عثر عليه بقايا جدار أقيم في وادي «لبنا» شمال ميناء حضرموت القديم «قنا» «قانه» «قني». أقامه حكّام حضرموت المكربون قبل القرن الرابع قبل الميلاد، وذلك لحماية حضرموت من غزوات الحميريين وغيرهم. وعثر على بقايا جدار في القسم الجنوبي من «وادي بيحان»، وعلى بقايا جدار آخر يقع في «وادي أنصاص» جنوب«شبوة»، وذلك لحمايتها من الغارات. والنصر ضد الهزيمة.. وترادفها لفظة «شرح» في اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة «يوم شرح سبا»، أي: «يوم نصر سبأ».