يشكل البحث المتواصل عن إيجاد طرق لحل مشكلات وقضايا تأمين الردع لأي دولة أحد الاتجاهات الرئيسية للنشاط العلمي الذي تزاوله مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية العسكرية .. يعد ردع العدوان العسكري جزءاً لا يتجزأ من السياسة الوطنية "القومية " لأي دولة من دول العالم منذ نشوء نظام العلاقات الدولية وحتى الآن وتفسير ذلك هو أن التهديد العلني بالحرب كان أداة دبلوماسية تستخدمها دولة ما من أجل ردع دولة أخرى ومنعها من القيام باتخاذ خطوات سياسية أو عسكرية غير مرغوب فيها بالنسبة للدولة الأولى والجدير بالذكر أن مفهوم الردع الاستراتيجي ظهر بشكل رسمي على الصعيد العالمي وتزامن مع ظهور الأسلحة الفتاكة حيث لم يكتسب مفهوم " الردع " بحد ذاته أهمية خاصة فحسب , بل اكتسبت فكراً جديداً أيضاً وبذلك بات الردع النووي يشكل الأساس الذي يرتكز عليه الردع الاستراتيجي بشكل عام . وهكذا أصبح موضوع الردع النووي لأول مرة في بداية خمسينيات القرن الماضي مادة رئيسية للدراسات العسكرية النظرية التي تميزت أنذك بطابعها التطبيقي من أجل البحث عن إيجاد طرق الاستخدام العقلاني والمنطقي للأسلحة الفتاكة بصفة خاصة الأسلحة النووية ووضع الأسس النظرية للردع النووي بشكل خاص والردع الاستراتيجي بشكل عام . فمن بين المسائل المركزية التي تضمنتها نظرية الردع النووي وبالتالي الردع الاستراتيجي كانت المسألة تجول حول كيفية ردع العدو المحتمل عن القيام بالعدوان المسلح حتى في حال تفوقه الكبير في امتلاك قوى ووسائط المواجهة المسلحة . يعد منع ودرء العدوان المسلح عن طريق إقناع العدو المحتمل بعدم جدوى شن عدوانه وتهديده بتحمله مسؤولية العواقب الوخيمة التي ستترتب عليه نتيجة الرد العسكري الانتقامي على عدوانه الهدف الأساسي للردع الاستراتيجي ( في مفهومه الكلاسيكي كردع بالقوة ) وبالتالي فإن الردع الاستراتيجي هو عبارة عن شكل خاص من أشكال سياسة ردة الفعل التي تتبعها القيادة السياسية العسكرية في دولة ما عن طريق التأثير ( المباشر أو غير المباشر ) على القيادة السياسية – العسكرية في دولة أخرى (مجموعة دول) وتخويفها من نتائج وعواقب القيام بعدوان مسلح ضدها وفي الحقيقة إن مثل هذا الردع يرتكز على تخويف القيادة السياسية - العسكرية في الدولة التي يحتمل قيامها بشن عدوان مسلح بحيث يتضمن هذا التخويف التهديد العلني باستخدام القوة العسكرية والإعلان رسمياً عن ذلك وإبلاغ تلك القيادة بذلك يشترط التهديد بالرد الانتقامي تحديد أنواع "النتائج المختلفة" التي ستترتب على العدو في حال قيامه بالعدوان والتي تتراوح ما بين الأوامر السياسية – المعنوية وفرض العقوبات الاقتصادية العالمية وحتى تكبيده الخسائر الجغرافية " احتلال الارض" والاقتصادية والبشرية بما في ذلك انهيار الدولة والمساس بسيادتها وفرض الشروط عليها تقترن نتائج الردع بالنسبة للعدو المحتمل " كقاعدة عامة " بمفهوم ((الخسائر )) التي يفهم منها بشكل أساسي تدمير المنشأة الصناعية – العسكرية والقدرة العسكرية والديمغرافية التي ستلحق بالمعتدي نتيجة تهوره وعدوانه المسلح " الردع العسكري كرد طبيعي على عدوانه". منذ للحظة الأولى لوضع نظرية الردع الاستراتيجي أقر واعترف جميع الباحثين في هذا المجال بصورة واضحة أو مبطنة بمفهوم "الخسائر" كأساس للردع لكن لا يمكن أن يكون أي نوع من الخسائر قادراً على ردع العدو من القيام بشن عدوان عسكري مباشر حيث لن يردع المتعدي عن القيام بعدوانه إلا تلك الخسائر التي لا تتطابق بحسب رأي القيادة السياسية - العسكرية في الدولة المعتدية مع المكاسب التي ستحصل عليها الدولة المعتدية من وراء عدوانها الذي خطط له . يسمى مثل هذ الحجم من الخسائر التي تلحق بالعدو والتي تتجاوز الحد المسموح به بحسب خطة وتوقعات العدو في نظرية الردع الاستراتيجي ب "الخسائر الرادعة " تشكل "الخسائر غير المقبولة " – الخسائر التي تتجاوز الحد المسموح به – الحد الأعلى للخسائر الرادعة لذلك يعد التعليل العلمي الصحيح لمستوى الخسائر الرادعة مسألة حيوية تنطوي على قدر كبير من الأهمية في الوقت ذاته يحدد مستوى الخسائر الرادعة بقرار سياسي كون هذا الأمر من صلاحيات القيادة السياسية – العسكرية العليا في الدولة . وبهذا الشكل يتضمن مفهوم الردع الاستراتيجي المبني على عامل القوة بشكل أساسي سلسلة تتألف من ثلاث حلقات متدرجة الشدة التخويف – أو التهويل – التهديد بالانتقام – النتائج أو العواقب (الخسائر الرادعة) وتقسيم عملية تطور الردع الاستراتيجي إلى عدة مراحل أساسية تصف كل واحدة منها جزءاً من الانتقال والتحول في ايدلوجية الردع . المرحلة الأولى( خمسينيات – وستينيات القرن الماضي ) أتسمت هذه المرحلة بسباق التسلح النووي وتحقيق التكافؤ النووي بين الولاياتالمتحدةالامريكية والاتحاد السوفيتي وانضمام كل من بريطانيا وفرنسا والصين إلى النادي النووي وفي ظروف التعادل النووي بين القوى النووية الاستراتيجية الروسية والقوى الهجومية الاستراتيجية الأمريكية ظهر في نظرية التدمير المضمون مفهوم التدمير المضمون المتبادل حيث ظهر ولأول مرة مفهوم الخسائر الغير مقبولة في المفهوم الكلاسيكي ل "التدمير المضمون المتبادل" الذي أشتهر فيما بعد تحت تسمية "مقياس ماكنامار" المرحلة الثانية (سبعينيات القرن العشرين) تميزت هذه المرحلة بالمحافظة على التعادل والتكافؤ النووي بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي وإدراك قادة هذه الدول لحقيقة أن السلاح النووي مدعو لتأدية وظائف ردع وليس لوظائف تخويف وتهويل في هذه المرحلة تم توقيع معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية ستارت – لعام 1972م وستارت 2 - 1979 م بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي وكذلك اتفاقية الأسلحة المضادة للصواريخ 1972م الجدير بالذكر أنه في هذه الفترة انتقلت الولاياتالمتحدة من مذهب الانتقام المكثف إلى مذهب " الرد المرن " (يتبع بإذن الله تعالى الجزء الثاني والثالث). *العميد الركن د \ حسن حسين الرصابي