الذاكرة القومية تعتز بالمواقف الأصيلة والمشرفة والنهج العروبي الوحدوي وتكتبها بأحرف من نور في سجل التاريخ، لكنها لا تنسى أبدًا المواقف المتخاذلة والخيانة على حضارتها ومستقبلها. ولا يمكن أن تنسى هذه الذاكرة من دفنوا منذ زمنٍ شيئًا اسمهُ العروبة والضرورة التاريخية والقواسم المشتركة، بل والمصلحة العليا للأمة، واختاروا لأنفسهم مواقع مريبة تحافظ على عروشهم المحنطة رغم أنف شعوبهم التي ابتليت بهم، ولا مناص لها من الصمت والذهول. أما حكام السعودية الذين يعتبرون أنفسهم خدام بيت الله الحرام فهم من هذا الصنف الأخير، الذين ليس لديهم في مخزون الذاكرة القومية كثير من الشعور أو المكرمات أو حتى بعض المواقف الثابتة التي تحفظ لهم بعض ماء الوجه. منذ إنشاء مملكة آل سعود في 23 سبتمبر عام 1932م، وما سبقها من تفاعلات مهدت لقيامها على أنقاض ولايات مبعثرة وضعيفة تم الاستيلاء عليها بالقوة وبدعم بريطاني، نهج ملوك السعودية منهجًا قطريًا فريدًا يعتمد على التمايز بوجود الأماكن المقدسة من جانب، ومن جانب آخر يعتمد على ابتزاز جيرانهم العرب بحكم ما يمتلكونه من أموال وقضم أراضيهم وحقوقهم كلما سنحت الفرصة. فلا توجد دولة واحدة أو إمارة مجاورة للسعودية إلا ولديها مشاكل معها. ومع اكتشاف النفط، تحولت مملكة آل سعود إلى دولة متسلطة تنظر لجيرانها باستعلاء وحقد، ويعتقد أمراؤها أن منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج بكاملها صنيعة حلال لهم، وبالتالي فإن أية توجهات لتغيير أو تطوير البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للقطر المجاورة يعتبر في قاموس النظام السعودي تمردًا عنيفًا على المعتاد والمألوف لديهم. ومن هنا انزعج آل سعود من أول نظام جمهوري في الجزيرة العربية، ليشكل بداية زلزال عنيف يهدد مصالح نموذج الفرد الواحد والأسرة الواحدة، ولذلك لم يأل آل سعود جهداً على المستوى القومي والإقليمي لمحاولة لعب دور شرطي المنطقة، ظانين أن هذا الدور يمكن أن يتحقق من خلال حفنة دولارات يتم دفعها لهذا الطرف أو ذاك، أو من خلال البصم بالإيجاب فوق كل الأوامر العليا التي تأتيهم من الشرق والغرب، ولا داعي للدخول في تفاصيل يعرفها كل عاقل في السعودية أو خارجها. وواقع ما يجري في اليمن اليوم من قبل آل سعود وحلفائهم خير شاهد على سلوكهم المشين والمعيب. إن السياسة السعودية المبنية على مقايضة الحرية بالدولار، وعلى إرهاب الآخرين بالدعاية لصفقات الأسلحة من هنا وهناك، والتي تنوعت مصادرها في هذه الأيام، تهدف في الأساس إلى الهيمنة بشتى السبل على شعوب المنطقة. وهي نفسها السياسة المتبعة حاليًا؛ فقد ظن النظام السعودي أنه يستطيع احتواء دول مجلس التعاون الخليجي، لكن خيال أمراء آل سعود شطّ كثيرًا في التفاؤل. والشواهد الأخيرة تؤكد صدق ما نقول؛ فقد وقعت قطر سابقًا اتفاقية دفاع مشترك مع إيران، العدو اللدود للسعودية، ولم توافق سلطنة عمان على الدخول في التحالف الذي أنشأته السعودية لشن حرب على اليمن وشعبه العظيم عام 2015م، كما أن الكويت أيضًا رفضت المشاركة بقوات برية، إضافة إلى الخلاف بين السعودية والإمارات رغم مشاركة الأخيرة بقوة في الحرب ضد اليمن. كما سبق للسعودية أن فرضت ترسيم الحدود مع الجيران من طرف واحد باتفاق قسري، مستغلة ظروف الدول المجاورة لها، بيد أن كل تلك السياسات الواضحة لآل سعود في المنطقة لم تكن لتنجح سوى في ظل حالة التشتت والتمزق القومي، وفي ظل مشاكل متراكمة في الأقطار المجاورة. وعند بزوغ شمس الوحدة اليمنية، أكبر انتصار عربي في العصر الحديث، وما شكلته من ثقل قومي وإقليمي وعالمي لليمن، لم يعد أمام النظام السعودي سوى الخوف، ومزيد من الخوف، خاصة بعد اندلاع ثورة 21 سبتمبر الشعبية عام 2014م، التي جاءت مصححة لمسار الثورات السابقة التي تم إفراغها من مضمونها الثوري فحال ذلك دون تحقيق أهدافها. وكانت تجليات غضب النظام السعودي سريعة جدًا، حيث لم يكتف بالتدخل في الشأن اليمني عبر عملائه في السلطة والتحريض على أن يقاتل اليمني أخاه، وإنما قام بإنشاء تحالف خبيث لشن عدوان ظالم على اليمن وشعبه، مضى عليه أكثر من عشرة أعوام ولا يزال مستمرًا، كاشفًا عن مؤامرات السعودية الدنيئة والواضحة ضد الوحدة اليمنية والديمقراطية، ومنع إصرار اليمنيين على تحرير قرارهم السياسي من وصاية الخارج وبناء دولتهم الوطنية الحديثة. وانطلاقًا من هذا التوجه لدى النظام السعودي لتدمير اليمن وتمزيقه، فإن اليمنيين يدركون كذلك أن عدم استيعاب الأعراب لمواقف اليمن الوطنية والقومية المخلصة، وحرص أبناء اليمن على قيم الإخاء والتضامن العربي ومبادئ حسن الجوار، هو أمر ليس بمستغرب عليهم، لأن الأعراب قوم لا يفقهون. والجهل الذي يتميزون به حجب عن أذهانهم وعقولهم الخاوية استيعاب أن العناية الإلهية التي شمل الله بها اليمن، من خلال تحقيق وحدته قبل أن تنطلق الشرارة الأولى لأزمة الخليج عام 1990م بفترة قصيرة، مكنت اليمنيين من الصمود والثبات أمام شدة الزلزال الذي هز أركان الواقع العربي آنذاك، وعبر تطوراته المختلفة والخطيرة جعل اليمن مهيأ لمكانة دولية راقية بعد إنفراده بمساندة الأشقاء في قطاع غزة، وهو ما كان يخشاه ويفزع له سابقًا وحاليًا آل سعود بعد فشلهم في تحقيق أهدافهم من خلال الحرب الظالمة التي يشنونها مع حلفائهم على اليمن، فأبى الله إلا أن يرتد كيدهم في نحرهم، وترتد سهامهم إلى صدورهم.