من أجابنا إليه حيا به، وإلا فالتعايش السلمي في ظل أخوة الوطن والمصير المشترك. الحرية مكفولة شرعاً لكل الناس، ولأنهم مواطنون فهم يتمتعون بالكرامة والحصانة والحماية، والتعدي على حقوقهم يعد انتهاكاً صارخا وتعدٍ على قدسية الإنسان، وبالتالي هو انتهاك لحقٍ من حقوق الله. حين نتكلم عن الحريات فإننا نتكلم عن النظام السياسي بشكل عام، فالحرية هي الدولة، والدولة تتشكل من مؤسسات: مؤسسة الرئاسة، مؤسسة البرلمان، المؤسسات الحكومية، لجنة الانتخابات، مؤسسة القضاء، مؤسسة الرقابة والمحاسبة..الخ كل تلك المؤسسات قائمة على مبدأ الحرية؛ والحرية مناطة بالشعب أولا وأخيرا لأنه مالك القرار الأول، وصاحب الاختيار، فللشعب وحده الحق في انتخاب رأس الدولة وعزله، فما هو إلا وكيل عن الشعب لخدمة الشعب بالطريقة التي يرتضيها الشعب. وهذا يعني أن النظام السياسي مدني، والسلطة مدنية من من مدنية الجماهير. ديننا الإسلامي الحنيف لا يجبرنا على سلوك محدد وفق إرادته، بل منحنا حرية اختيار طريقة معيشتنا، إما مستسلمين له، مختارين لشرعيته، أو أن نختار العيش بأسلوب مخالف له، وعلينا تحمل تبعات مخالفتنا له وعواقبها: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم". هنا لا ينبغي أن نستغرب هذا الإختلاف، ولا يحق لنا أن ننكره، بل يتوجب علينا معرفة كيفية التعامل مع الناس بشتى أفكارهم كحقيقة وواقع، وفهم المنهج الإسلامي في كيفية التعاطي مع الواقع، وهو يقوم على أمرين أساسيين: الاحترام المتبادل، والإقناع. ففي حين كفل الله حرية الاعتقاد، وهي دين، فإن الحرية السياسية أولى لأنها ليست دينا. وما مثل الحرية السياسية نظام حكم كالديمقراطية، بل هي من صميم الشرع الذي أنكر أن يؤم الناس في الصلاة رجل وهم له كارهون، فكيف يرضى أن يحكم الناس أشخاص تكرهها شعوبهم، وتلعنها ليل نهار؟؟! الديمقراطية هي آخر نظام سياسي عادل تفتق عنه العقل البشري بعد كفاح طويل مرير مع الظلم والاستبداد، وتعتبر أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط الحكام وظلم الجبابرة. وكذلك هي صمام أمان للوطن من تجيير الدين وتسويقه لخدمة مصالح بعض الطوائف أو الجماعات أو الأفراد، حيث أن الخيار للشعب، وصندوق الاقتراع هو الفيصل في اختيار الأصلح لحكم الشعب لفترة زمنية محددة سلفاً، ثم تعود الكرة لملعب الشعب ليجدد ثقته بتلك الفئة أو ذلك الحزب، وإلا تحول عنه لغيره الذي يستطيع إقناع الجماهير ببرنامجه وسياساته. هنا بالديمقراطية نضع حدا للمفسدين والظالمين، وللطائفية البغيضة، والسلالية المقيتة، فكما أنه لا إكراه في الدين، فكذلك لا إكراه في السياسة والحكم. كل دمار الأوطان، والانحطاط في القيم ماهو إلا إفراز مباشر وطبيعي للاستبداد السياسي. تنهض الأمم حين تتنفس الحرية، وتموت خلايا رئتيها، وخلايا دماغها المفكر بقطع اوكسجين الحرية عنها. والمتفكر في الشريعة ومقاصدها يجد أنها لا تنادي بالسلطة الدينية، وإنما بالسلطة المدنية: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم" توجيه نبوي عظيم، ولأن الحكم من شؤون الدنيا فإنه (ص) لم يعين خليفته من بعده، بل تركها لأهل البلد هم يقررون من يقودهم، وهكذا فعل أبوبكر بأسلوب يختلف عما فعله رسول الله (ص)، وهكذا فعل عمر أيضا وبأسلوب مغاير لما فعله سابقاه. جاءت الديمقراطية بعد حرب ضروس مع الكهنوت والسلطات الدينية في أوروبا، حيث كانوا يحكمون باسم الإله. أما الإسلام فقد جاء ينادي بالحكم المدني لا الديني، لأن الديني الحاكمية فيها والسلطة لله، والحاكم يتجبر ويضطهد باسم الرب كونه موكل من عند الله، بينما قطعت الشرائع قيادة الأمم باسم السماء بموت الأنبياء والرسل. والصحيح هو أن مصدر القوانين هو الشرع، ومصدر السلطات هو الشعب، يمنحها لمن يشاء أو يمنعها عنه: "وأمرهم شورى بينهم". والحاكم ليس سوى وكيل عن الشعب، خادم للشعب، باختيارهم له. قالوا لماذا نبحث عن نظام سياسي مصدره الغرب، وعندنا ما يكفي في دين الإسلام؟ لكن يظل السؤال حائرا لا يجد إجابته: فنقول أولا الحكم سياسة، والسياسة من أمور الدنيا، وبما أنها كذلك فلا ضير أن نأخذ الأصلح من الشعوب الأخرى التي سبقتنا بسنين ضوئية في طريق الحياة، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها. وقد فعلها المسلمون الأول واستفادوا من نظم السياسة التي كانت لدى الفرس والروم. ثم ومن سيقوم بتطبيق ما أنزل الله؟ سيقولون: الحاكم. ومن يختار الحاكم؟ يقولون: أهل الحل والعقد. ومن يختار أهل الحل والعقد؟؟؟ ومن هنا تبدأ سلسلة المشاكل! لا أحد يختارهم، بل هم يتسلقون على ظهور الجماهير وينصبون أنفسهم خلفاء الله في أرضه على عبيده. ثم ثاني الإشكال أنهم يقومون بتنصيب من يشاؤون لرئاسة الدولة وقيادة الجماهير دون تفويض من الشعب. ثم بعد ذلك يبدأ الحاكم بممارسة سياساته الجائرة والاستبداد، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض، حتى أولئك الأدعياء أهل الحل والعقد. وهنا أوجه السؤال لهم: أي حل وأي عقد في أيديكم وقد نصبتم من يستعبدكم ولا تستطيعون حله ولا ربطه؟! وتتوالى الأسئلة وتتوالد الإجابات: - من سيقوم بتطبيق نظام الاسلام السياسي العظيم؟ المسلمون! أقول لقد فشلوا في قيادة أنفسهم كأشخاص مسلمين فكيف سيقودون أمة؟! -الأمة! لقد تاهت الأمة منذ نهاية العصر الأموي، فلم تعد تعرف دينها، ولا حكم شرع ربها سبحانه.. بله لقد أبقوا أبق العبيد، وأكلوا بالدين كما تأكل الأمة بثديها، وسطوا باسم الدين حتى صاح الحجر والشجر رحماك يا الله.. فكيف ستقيم دولة؟! كل تلك الادعاءات هرطقات ما أنزل الله بها من سلطان. لم يتبق لنا من مسار سياسي دنيوي عادل يحقق المقاصد، ويرسي أسس العدالة بعد أن حرف المسلمون مسار السماء، ومحوا آثار رحمتها من دنيانا إلا الديمقراطية المدنية - العلمانية -! فهي تستمد قوانينها بشكل أو بآخر من قوانين الله. نعم هي كذلك، تستمد من شرع الله القوانين المدنية المنظمة للحياة، بما يحقق مقاصد الشريعة، ومن غير أن تدري: الحرية - العدالة الاجتماعية - المساواة - كرامة الإنسان - توفير سبل الحياة - التعليم - البناء والإعمار.. الخ