«الجيش يخاف الشعر»، هكذا قال الشاعر التركي ناظم حكمت (1902 - 1963) ساخراً في مواجهة اتهامه بالتحريض على الجيش، إذ يبدو أن قصائده «الممنوعة» وجدت طريقها إلى الجنود وبخاصّة قصيدته الشهيرة «ملحمة الشيخ بدر الدين» (1936). ويروي صديقه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في مذكِّراته، كيف جرت محاكمة ناظم على ظهر بارجة عسكرية، وكيف «قاوم» الذّل - إن جاز التعبير - عبر إلقاء قصائده. كان ذلك في عام 1938، حين أُودِع حكمت السجن التركي للمرّة الأخيرة ولمدّة ثلاثة عشر عاماً، ثم أُطلِق سراحه على أثر موجة احتجاج عالمية وحملة واسعة للإفراج عنه نظّمتها لجنة في باريس كان من بين أعضائها بابلو بيكاسو، وبول روبسون، وجان بول سارتر الذي رثاه قائلاً: «إن أشعار ناظم حكمت ستعمل على حمايته من النسيان . لقد انتزع ناظم نفسه من القبر بكلّ كلمة كان يكتبها». ولعلّ تلك السنوات التي أمضاها سجيناً شهدت، مثلما يتَّفق النقّاد، أفضل أشعاره. ويظهر أن وجوده في السجن مع فلّاحين وفقراء ومهمَّشين من الأناضول، أعاد إليه ذكرى طفولته ويفاعته هناك، ومدّ له يد الإلهام السرّيّة التي ربطته ثانيّة بشعر الأناضول الشعبي. ويروى عن تلك السنوات أيضاً كيف كان الفلاحون السجناء يبكون تأثّراً وهم يصغون إليه وهو يلقي عليهم أشعاره بأدائه الساحر والمميّز، فتتبدّد – ولو بالمجاز- تلك القضبان الحديدية التي لم تستطعْ احتجاز روح «العملاق ذي العينين الزرقاوين» ولا قصائده. تدل حكايا السجن هذه وغيرها، على أهمّ ما ميّز ناظم حكمت : الكتابة انطلاقاً من التجربة الحيّة، إذ لطالما بدا وكأنّه استمدّ من السجناء «أخوته» كلماته. لم يعشْ شاعرٌ قصيدته، ربما، مثلما فعل ناظم، الذي أمضى عمره القصير بين السجن والمنفى، لكن من دون أن يتخلّى عن «طريقته» في تصوّر العالم شعراً، وعن بثّ الأمل في نفوس المقهورين والمهمَّشين، وعن «مقاومة» الاستبداد بأشكاله كلّها، إخلاصاً منه للشيوعية والاشتراكية اللتين أسرتاه وطبعتا، خصوصاً، النصف الأوّل من القرن العشرين.
صحيحٌ أن «صورة» ناظم حكمت كشاعرٍ ملتزم مقاوم صارخٍ (آه يا وطني!)، طغت إلى حدّ كبير على دوره الرئيس ومساهمته الخاصّة في نقل الشعر التركي من التقليد إلى التجديد، لا بل إنها طغت على أصوات الشعراء الأتراك من بعده، فصوّرته شاعراً عالي الصوت، متمسِّكاً بأفكار إيديولوجية أممية (الشيوعية والاشتراكية)، طواها التاريخ بقسوة، فلم تصمد مثلما لم يصمد جدار برلين الشهير، إلا أن ذلك لا يكفي لتبرير رسوخ حكمت في وجدان الأتراك، وفي وجدان شعوب كثيرة مقهورة ومظلومة أشار إليها الشاعر صراحة في قصائده. فهذا الشاعر استطاع النفاذ إلى «الأممية الإنسانية» - إن جاز التعبير - من خلال قصائده التي يمكن وصفها بالسهل الممتنع، إذ هي تجمع البساطة إلى الوضوح، وتفيض بالحب، ولا ينقصها عمقٌ يسمو بالنفس البشرية نحو الحقّ والعدالة وإنصاف المظلومين والمقهورين، ودفعهم إلى التمرّد على واقعهم البائس ومقاومته عبر يد الشاعر التي لا تُشير إلا إلى حقّ الإنسان بالعيش الكريم والحرية.
الآن وقد مضت وانقضت أيام الأممية بمعناها السياسي، سيكون مفيداً لو تأمّلنا عن كثب مساهمة ناظم حكمت المميّزة في نقل الشعر التركي (وحده تقريباً) من التقليد إلى التجديد، خلال سنوات قصيرة قياساً إلى «عمر» تطوّر الأشكال الشعريّة. أحدث ناظم في الحقيقة «ثورة» على صعيد الشكل والمضمون، أو المبنى والمعنى وفقاً للتعبير العربي القديم. وقد آثر على ما يبدو أن يرجحّ كفّة المضمون على الشكل، فعلى هذا الأخير «أن يتبع المضمون كي يغدو أوضح». ويظهر هذا الهاجس في الوضوح والبساطة في استعمال حكمت للكلام اليومي في قصيدته، الأمر الذي يُبرز - ربما - مأثرة عمله الكبرى التي تكمن في التفاته إلى مواضيع «جديدة» كلّ الجدّة: إذ لم يحظَ الفلاحون والمزارعون والعمال – باعتبارهم ممثلين عن الأممية الاشتراكية والشيوعية - بحضور واسع أو مماثلٍ مثلما حضروا في قصائده. حتّى إنه كتب لعمال النفط في باكو السوڤيتية: «وددتُ معانقة العمال المبدعين بمعاطفهم المزفتة/ وعيونهم السود/ وأن أجثو على ركبتي/ فوق ثرى باكو المقدَّس/ وأحتضن النفط براحتي/ وأشربه/ كخمر أسود». ولم تكن الزوجة أو الحبيبة مطالبة بإشهار موقف سياسي هي أيضاً: «أخرجي من الصندوق ذلك الفستان/ الذي كنت ترتدينه حيث التقينا أوّل مرة/....ارفعي جبهتك العريضة/في مثل هذا اليوم/ينبغي لزوجة ناظم حكمت أن تكون رائعة الجمال/كواحدة من بيارق الثورة». مع ذلك، فإن المقطعين السابقين يظهران سلاسة انتقال حكمت من الغنائية في مستهلّ القصيدة إلى المباشرة في ختامها، تلك المباشرة التي طبعت كمّاً لا بأس به من أشعاره، وأدّت إلى سجنه في قالب الالتزام السياسي. ولعلّ القصائد لتي كتبها في سجنه الأخير وفي منفاه في موسكو تفصح بشكل أجدى عن تلك الغنائية المتوارية وراء بساطة التعبير : «لقد أدركونا يا منوّر/ فنحن -الاثنين - في السجن/ أنا داخل الجدران وأنت خارجها/، أو «في كلّ ليلة أيها الطبيب/ عندما ينام السجناء ويغادر الكلّ المستشفى/ يطيرُ قلبي/ ليحطّ على منزل مهدّم في إسطنبول.»
حكمت شاعر المشهدية الهادئة والنبرة الحزينة نجح في تنويع أدواته: إذ مزج بين النثر والشعر، خاصّة في قصائده الملحمية، واستفاد من التراث القديم المحكي والمكتوب والشعر الشعبي، وكان يخفّف أو يكثر من الصور الشعريّة وفقاً للمعنى العامّ للقصيدة: «قضبان حديدية متصالبة/ تمزّق الشمس إلى قطع/ دُفنت في إطار من الحجارة السوداء»، فضلاً عن ذلك استند حكمت في أحايين كثيرة إلى السرد في بناء قصيدته، ومن بين تتالي الجمل الإخبارية التي يفرضها السرد، اقتنص استعارات ومجازات تأتلف مع «رؤيته» الإنسانية: «اليوم هو الأحد/ للمرة الأولى اليوم/ سمحوا لي بالخروج إلى الشمس/ وأنا/ للمرة الأولى في حياتي/ أندهش أن تكون الشمس بعيدة عني هكذا/ أن تكون جدّ زرقاء هكذا/ أن تكون واسعة/ نظرت إلى السماء من دون أن أتحرك/ ثم حتّى إني جلستُ على الأرض باحترام/ واستندت الى حائط أبيض/ في تلك اللحظة لا مجال للتفكير العميق/ في هذه اللحظة لا معركة ولا حرية ولا امرأة/ الأرض والشمس وأنا/ سعيدٌ أنا».
ويمكن التماس أثر المنفى في شعره من خلال قصائد كثيرة دارت تارةً حول تحديد صريح لجنسيات مقهورة – علّها تعوّضه عن نزع جنسيته التركيّة منه عام 1951- وتارة أخرى حول تخيّل حكمت لموته وجنازته على غرار كثير من الشعراء :«أنا أريد أن أموت قبلك/ هل تعتقدين بأن القادم / وراء ذاهب سيلتقيه/ أنا لا اعتقد بهذا/ الأفضل أن تأمري بحرقي/ وأن تضعيني في وعاء/ فوق الموقد في غرفتك».
جدّد ناظم حكمت في شكل القصيدة التركية، وعُدَّ من قبل النقاد رائد «الشعر الحرّ»، المختلف قطعاً عن قصيدة النثر الفرنسية، وقد قال هو بنفسه ذلك، إذ كان يتقن الفرنسية -ومطّلعاً على آدابها- وكذلك الروسية (ترجم رائعة تولستوي الحرب والسلم). ويبدو مثيراً للاهتمام أن ناظم حكمت عمد أولاً إلى معالجة القافية، ففي الأمر إشارة لطيفة إلى تشابهِ مسار الانتقال من شكل موزون مقفّى إلى شكل أقلّ صرامة، بين الشعرين العربي والتركي. يقول ناظم : «مسألة الشكل الجديد المتوافق مع المضمون الجديد لطالما أثارت اهتمامي قبل أي شيء آخر، في هذا الصدد ، بدأت بالقافية، وبدلاً من أن أضعها في نهاية الأبيات الشعرية جرّبتها في البداية وفي النهاية».
إذ يبدو أن الهاجس الذي سكن شعراء الحداثة العربية في الخروج من بنية البيت التقليدي نحو التفعيلة وقصيدة النثر من خلال التركيز على القافية (الشعر المرسل، تنويع القوافي على سبيل المثال)، كان حاضراً كذلك في الشعر التركي، خاصّة وأن هذا الأخير بشكله التقليدي، يسيطر عليه العَروضان الفارسي والعربي؛ فقد كان «الشعراء الأتراك مضطرين من أجل أوزان العَروض أن يبدِّلوا الكلمات التركية في لغة أشعارهم بالكلمات العربية والفارسية على الأغلب» (د. شاكر الحاج مخلف)، وتعود المحاولات الأولى للخروج عن الشكل القديم إلى توفيق فكرت، الذي «جعل العَروض أوزاناً حتّى للغة التخاطب التركية البسيطة» (د. شاكر الحاج مخلف)، وطوّر وزن المستزاد الحرّ. وقد أدخل حكمت مع أورهان فيلي التفعيلة الحرّة في الشعر التركي، ثم هجر الوزن التركي المعروف باسم هجا، الذي يعتمدّ على تكرار عدد معين من المقاطع الصوتية.
من هنا يبدو انصباب اهتمام حكمت بالقافية ناجماً عن طبيعة العَروض واللغة التركيين، الأمر الذي أتاح له أن يقطّع الكلمات، وأن يتوصل إلى مقطع واحد، ذلك لأن بنية اللغة التركية تسمح بذلك. ويُرجِع نقّاد كثيرون عمل ناظم «العَروضي» إلى تعرضّه باكراً لتأثير الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي إبان لقائهما في موسكو عام 1922، وتنبّهه إلى «الشعر الحر»، وهذا صحيح، بيد أن حكمت يقول في ذلك : «أشعار ماياكوفسكي نُظمت في بحر المستزاد الروسي، أمّا أوزان أشعاري فليست سوى إيقاع محض»، إذ يدرك الشاعر اختلاف العَروضين نظراً إلى اختلاف اللغتين قبل أي شيء آخر.
ويظهر أن الترجمات لا تسمح – كما هو متوقّع للأسف- بالإحساس بالتدفُّقات الإيقاعية التي ابتكرها حكمت، لكن تلك الموجات المتدرّجة أسرت مستمعيه على الدوام. ومما لا شكّ فيه أن ناظم حكمت أثّر في الشعر العربي الحديث، بيد أن الأمر لا يتعلّق بقصة التأثّر والتأثير شعراً فحسب، إذ زار حكمت القاهرة عام 1962 بدعوة من اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا، كما يذكر مرسي سعد الدين، وطلب وقتها زيارة بور سعيد، فألهمته كتابة قصيدة عن منصور ماسح الأحذية الأسمر النحيل «خمسة عشر جرحاً في صدري/ خمسة عشر نصلاً/ سود مقابضها/ وقلبي لم يزل يخفق»، إذ لعله لم ينسَ البتة أن أولى دواوينه الشعرية كتبها بالحروف العربية، قبل أن يصدر أتاتورك قراره الشهير باعتماد الحروف الأجنبية، أو ربما لعلّنا نحب أن نرى في قصائده شيئاً من صورنا وأصواتنا.