شعرت أن بعض النصوص الشعرية التي اختارتها مجموعة « ناس الغيوان » الموسيقة العسبية المغاربية اتسمت بالمباشرة ، بالرغم من استيعابي الناقص للنصوص المكتوبة باللهجة المحكية في المغرب، فقد جاءت بعض تلك النصوص مُحايثة لهموم داخلية، وأخرى عربية تتعلق بالمعطى القومي الأشمل، ونصوص أخرى حكمية تعمم مكارم الأخلاق، ولا أدري لماذا وجدت نفسي أعقد مقارنة بين ثلاثة مستويات لهذا النوع من الفن في العالم العربي : المستوى المغاربي ، الذي نحن بصدده ويفتح الباب للفارق الجمالي بين المحتوى والشكل، باعتبار أن الرسالة الفنية لفرقة « ناس الغيوان » تتجاوز حدود التعبير المباشر، كما أن وقوعها في مصيدة النصوص « الملتزمة » المباشرة أثقل على تراكيبها اللحنية وأفقدها الإيحاء الشعري المتّسق مع التركيبة الموسيقية . المستوى اللبناني ، متمثلاً في تجربة المؤلف الموسيقي الراكز الفنان «مارسيل خليفة » ، وفيها نجد حذراً بالغاً، واعتباراً كبيراً لمضاهاة النص بالتأليف الموسيقى، مما يجعها تجربة استثنائية رفيعة للغناء السياسي . المستوى المصري ، ممثلاً في أعمال الثنائي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وهي تجربة شعبية بسيطة لا تتجشّم عناء التوليف الموسيقي المركّب، بل إن الموسيقى فيها أقرب إلى أن تكون ترجماناً للكلمات « سيدة الموقف » ، وفي هذه التجربة تعبيرات موسيقية تلقائية ومتواضعة تخرج من آلة الفنان المؤدي الراحل الشيخ إمام . تلك الأمثلة الثلاثة قرينة لفترة السبعينيات والأحلام الطوباوية التواقة لألفية عربية جديدة تتجاوز الجهل والفقر والمرض والاستبداد والذل، لكن تلك الأصوات خبت وتباعدت من ذاكرتنا عطفاً على تراتب الاحباطات، وتغوّل الاستبدادات، وتهالك الأمة . لم تكن فرقة « ناس الغيوان » مجرد مجموعة فنية غنائية، بل شكّلت ظاهرة ثقافية واجتماعية، حلماً كبيراً، وأماني بالانعتاق ، ولقد ثارت على كل جاهز متكلّس، ونبّشت في أعماق التراث، وترافقت مع الموشحات الصوفية والأندلسية، واغترفت من تنويعات الغناء الشعبي المغاربي، فشكلت رافداً كبيراً للأغنية الملتزمة الموضوعية في تلك المرحلة . لكن « ناس الغيوان » التي بدت موازية أيضاً لنماذج فنية غربية، مثل فرقة «البيتلز» لم تستعر من الآخر الفني ما يتجاوز التكنيك، ولم تتنازل عن إمكانيات الآلة التقليدية المحلية، وكانت بهذا المعنى رافداً آخر للموسيقى الإنسانية الحالمة بالتغيير والتجديد .