يقدم مؤلف كتاب “ إنسان مابعد الانسان “ البروفيسور “ دوميتري كيكان” مخططاً تصنيفياً إجرائياً لمراحل الحداثة معتبراً أن البداية كانت في الفترة ما بين 1890 إلى 1910م ، تليها مرحلة أسماها بمرحلة “ انفجار الوجدان الإبداعي الحديث “ في الفترة ما بين 1910 إلى 1930، يليها مرحلة الجيل الحديث الثاني في الفترة ما بين 1930 إلى 1945م، وأخيراً حداثة ما بعد الحرب في الفترة ما بين 1945 إلى يومنا هذا، غير أنه سرعان ما يتراجع عن اعتماد هذا التصنيف بوصفه تصنيفاً نسبياً ملاحظاً وعلى سبيل المثال لا الحصر تلك الانعطافات الهامة في القرن العشرين كالثورة الروسية في عام 1905، والثورة البلشفية 1917م، والحرب العالمية الأولى والتي تداعت حتى ثلاثينيات القرن المنصرم. كما يلاحظ المؤلف تلك الثورة على القوالب القديمة في الفن كما عند بيكاسو وهنري ماتيس، مما يجعل حداثة ما بعد الحرب العالمية الأولى حداثة ذاتية ونخبوية في أفق ما، لكنها اليوم تتحول إلى منظومات قيم اجتماعية كاسحة ومرتبطة بالروافع التقنية والمعلوماتية المعولمة بامتياز، وهكذا فإن حداثة اليوم لا تسعى إلى فتح مسافة فاصلة بين الماضي والحاضر فحسب، بل إلى تمزيق الحاضر وتشظيته وتفريعه كما ذهب إلى ذلك “ دي سوسير”، ولعل الروائي آرنست همنجواي خير مثال لحالة التشظي الذاتي والحيرة الوجودية التي تمثلت في عجزه عن “ أن يكون شيئاًَ آخر”. إنها الحداثة التي تتلخص في التفكيك الذي يوصل إلى مزيد من التفكيك، فيتجزأ المجزأ، وتتواصل المابعديات، فنصل إلى سؤال مفتوح في الأفق وماذا ما بعد المابعد؟! وعند هذه النقطة نتوقف أمام ظاهرتين لما بعد الحداثة الأولى إيجابية متفائلة، والثانية شكية حائرة. لكن هاتين الظاهرتين تتمازجان وتتقاطعان وصولاً إلى نقد ما بعد الحداثة التي سنقف عليه تباعاً.